التفسير الموضوعي

التعريف بالتفسير الموضوعي :

حين نريد أن نلاحظ الدراسات التفسيرية منذ العصور الاسلامية الاولى نجد بينها اختلافاً كثيراً في الانطباعات وتفاوتاً كبيراً بالموضوعات ذات العلاقة في البحوث القرآنية. حيث نرى بعض المفسرين يتجه الى التأكيد على الجوانب اللغوية واللفظية في النص القرآني. وبعضهم الآخر يتجه الى التأكيد على الجانب التشريعي والفقهي من القرآن وثالثاً يتجه الى التأكيد على الجانب العقيدي منه.. وهكذا بالنسبة الى بقية الموضوعات القرآنية كالقصة وغيرها.

وبالرغم من هذا الاختلاف الكبير لا نكاد نجد اختلافاً مهماً في منهج الدراسة والبحث، ذلك انهم اعتادوا على أن ينهجوا في البحث طريقة تفسير الآيات القرآنية بحسب تسلسل عرضها في القرآن الكريم. وتنتهي مهمة تفسيرها عند تحديد معنى الآية موضوعة البحث مع ملاحظة بعض ظروف السياق أو بعض الآيات الاخرى المشتركة معها في نفس الموضوع.

وفي الفترة المتأخرة من تأريخ التفسير أخذت تنمو بوادر منهج جديد في التفسير او البحث القرآني يقوم على أساس محاولة استكشاف النظرية القرآنية في جميع المجالات العقيدية والفكرية والثقافية والتشريعية والسلوكية من خلال عرضها في مواضعها المختلفة من القرآن الكريم.

فحين نريد أن نعرف رأي القرآن الكريم في (الالوهية) يستعرض هذا المنهج الجديد الآيات التي جاءت تتحدث عن هذا الموضوع في مختلف المجالات وفي جميع المواضع القرآنية سواء في ذلك ما يتعلق بأصل وجود

{ 277 }

الإله أو بصفاته وحدوده. ومن خلال هذا العرض العام والمقارنة بين الآيات وحدودها يستكشف النظرية القرآنية في (الاله).

ونظير هذا الموقف يتخذه في كل المفاهيم والنظريات أو بعض الظواهر القرآنية فيبحث عن الاسرة أو (التقوى) أو (الامر بالمعروف والنهي عن المنكر) أو (المجتمع) أو (الجهاد) أو (فواتح السور) أو غير ذلك من الموضوعات القرآنية.

وقد يقتصر البحث على مقطع قرآني واحد لأن القرآن لم يعرض لموضوع البحث الا في هذا المقطع. ومع ذلك نجد هذا الاختلاف بين المنهج الجديد والمنهج السابق في دراسة هذا المقطع الواحد حيث تكون مهمة المنهج الجديد استخلاص الفكرة والنظرية من خلال هذا المقطع دون المنهج السابق.

فالتفسير الموضوعي - اذن يقوم على أساس دراسة موضوعات معينة تعرض لها القرآن الكريم في مواضع مختلفة أو في موضع واحد وذلك من أجل تحديد النظرية القرآنية بملامحها وحدودها في الموضوع المعين. وقد خضع هذا المنهج في البحث لقانون التطور الذي يحدث عادة في مناهج البحث فمر بمراحل متعددة حيث قام المنهج القديم للتفسير بدور الحضانة له ثم بلغ رشده وانفصل عنه فاذا بالموضوعات القرآنية المختلفة تتخذ صفة البحث المستقل عن (الهيكل العام للتفسير القديم).

حاجة العصر الى التفسير الموضوعي :

لقد عرف الاسلام في انظمته وتشريعاته - طريقه الى المجتمع من خلال التطبيق ذلك لأن الجانب الاجتماعي من الاسلام لم يطرحه الرسول الاعظم (ص) كنظريات عامة عن المجتمع وعلاقاته المختلفة ثم جاء التشريع والتقنين بناء فوقياً لها ليشمل جميع مناحي الحياة.. وانما طرحه الرسول

{ 278 }

الاعظم من خلال التقنين والتشريع وبيان الاحكام المختلفة في قضايا المجتمع التفصيلية.

ومن هنا لا نجد البحث الموضوعي النظري يدخل في الشريعة الاسلامية الا في العصور المتأخرة من تاريخ المسلمين، لأن المجتمع الاسلامي كان يباشر التطبيق للقانون الاسلامي على أساس انه تشريع واحكام من قبل اللّه سبحانه لابد من الالتزام بها ضمن نطاقها المعين وفي حدودها الخاصة بلا حاجة الى معرفة النظرية التي يقوم عليها الحكم الشرعي وكيفية معالجتها لمشاكل الحياة الاجتماعية.

ويكاد يختص هذا الامر بالشريعة فقط دون الجانب العقيدي للاسلام فأنه كان ولا يزال مجالاً للبحث النظري بسبب ان جانب التطبيق فيه هو فهم النظريّة والايمان بها. وهذا ما فعله رسول اللّه (ص) فأنه طرح في العقيدة النظرية الاسلامية بشكلها العام.

وحين انحسر الاسلام عن التطبيق في مجتمع المسلمين وواجه النظريات المذهبية المختلفة ظهرت الحاجة الملحة الى البحث الموضوعي القرآني في مختلف المجالات.. لأن الاسلام أصبح بحاجة الى أن يعرض كنظرية مذهبية جاء بها الرسول محمد (ص) عن طريق الوحي، وذلك من أجل مواجهة النظريات المذهبية الاخرى، ومن أجل أن يتضح مدى صلاحيته لمعالجة مشاكل الحياة المعاصرة وصلته بتلك النظريات المذهبية. كما ان فهم الاسلام كنظرية عامة هو الذي ييسر لنا سبيل ان نتبناه نظاماً للحياة ندافع عنه ونكافح من أجل تطبيقه وصيانته.

فالحاجة الى التفسير الموضوعي في هذا العصر تنبع في الحقيقة. من الحاجة الى عرض الاسلام ومفاهيم القرآن عرضاً نظرياً يتكفل الاساس الذي تنبثق منه جميع التفصيلات والتشريعات الاخرى، حيث من الممكن ان نستكشف النظريات العامة من خلال التشريع والقانون الاسلامي لوجود

{ 279 }

الارتباط الوثيق بين النظرية والتطبيق.(1)

الموضوعات التي عرض لها القرآن اجمالاً وطريقته في هذا العرض :

لقد عرض القرآن الكريم الى موضوعات كثيرة حيث تناول في ما تعرض له اكثر الجوانب الفكرية والثقافية المرتبطة بالحياة والكون سواء ما يتعلق منها بالعقيدة او بالتشريع او بالاخلاق او المجتمع او التأريخ او غير ذلك من الجوانب الاخرى.

وسوف نشير الى النقاط الرئيسية التي تناولها القرآن الكريم علماً بأن اكثر هذه النقاط تتفرع الى نقاط اخرى وموضوعات ثانوية تصلح للبحث الموضوعي والدرس العلمي وهذه النقاط هي كالتالي :

الاُلوهية - افعال الإله - عالم الغيب - الانسان قبل الدنيا - الانسان في هذه الدنيا - الانسان بعد هذه الدنيا - الاخلاق الانسانية - التشريع الاسلامي.

وتتناول النقطة الاولى : كل المعلومات التي ترتبط باسماء اللّه سبحانه وصفاته من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر... وغيرها.

وتتناول النقطة الثانية : كل المعلومات التي ترتبط بالخلق والارادة والامر والمشيئة والهداية والاضلال والقضاء والقدر والجبر والتفويض والرضا والسخط والحب.

وتتناول النقطة الثالثة : كل المعلومات التي ترتبط بالحجب واللوح والقلم والعرض والكرسي والبيت المعمور والسماء والارض والملائكة والشياطين والجن. وغير ذلك.

وتتناول النقطة الرابعة : كل المعلومات التي ترتبط بآدم وكيفية خلقه وخلافته وغيرها.

______________________________
(1) راجع بهذا الصدد اقتصادنا لاستاذنا السيد محمد باقر الصدر : 2/16.

{ 280 }

وتتناول النقطة الخامسة : كل المعلومات التي ترتبط بتأريخ الانسان ومزاجه النفسي والروحي والعقلي والقوانين الاجتماعية العامة التي تتحكم في سلوكه وعلاقاته ومدى صلته بالسماء واساليب هذه الصلة من النبوة والوحي والالهام والدين والكتاب والشريعة وجميع صفات الانبياء التي تستنبط من قصصهم.

وتتناول النقطة السادسة : كل المعلومات التي ترتبط بالبرزخ والمعاد والجنة والنار.

وتتناول النقطة السابعة : كل المعلومات التي ترتبط بالقيم والمثل التي يجب أن يتحلى بها الانسان والتي ترتفع به في عالم الانسانية وتوصله الى الكمال المنشود.

وتتناول النقطة الثامنة : كل المعلومات التي ترتبط بالشريعة الاسلامية بجوانبها الاقتصادية والاجتماعية والتجارية والحربية وغيرها(2).

وقد سلك القرآن الكريم لتبيان هذه الموضوعات منهجاً فريداً يكاد يتميز عن سائر مناهج الكتب الدينية الاخرى حيث نرى انه لا يكاد تمر سورة من القرآن الكريم او جزء منه الا وقد تناول اكثر هذه الموضوعات باسلوب غاية في التناسق والربط والانسجام. كما نجد القرآن الكريم من ناحية اخرى يعمل على ايضاح بعض المفاهيم والافكار غير المادية عن طريق الامثلة والصور المادية ليقرب بذلك الفكرة الى الانسان الذي لا يرى الا من خلال هذه الصور ويحدد الفكرة عن طريق تكرار الامثلة وتكثير الصور لتخلص مما قد يعلق بها من شوائب المادة وحدودها. كما اشرنا الى ذلك في بحث المحكم والمتشابه.

ونحن نعرف ان الهدف الاساسي الذي استهدفه القرآن الكريم في نزوله هو التربية والتغيير الاجتماعي لا التثقيف والتعليم فحسب. ولذا نجد الاسلوب القرآني يخضع في جميع مراحله الى هذا الهدف ويأتي بهذا

______________________________
(2) راجع بهذا الصدد الميزان : مقدمة تفسيرالميزان - ص 11 - .

{ 281 }

الشكل الذي قد يبدو متداخلاً ولكنه يؤدي الى الغاية والهدف. وقد اوضحنا في بعض ابحاثنا السابقة جوانب متعددة من هذه الطريقة في العرض والبيان.

فواتح السور(3) :

من الموضوعات القرآنية التي تناولها الباحثون هو فواتح السور. ونعني بفواتح السور هذه الحروف المقطعة الموجودة في فاتحة بعض السور القرآنية. وتزداد اهمية هذا الموضوع عندما نلاحظ ما أثير حوله من مشاكل وشبهات قد تؤدي الى الشبهة في القرآن الكريم نفسه. وسوف يعالج هذا البحث تفسير هذه الظاهرة في القرآن الكريم ونترك معالجة الشبهات حولها الى بحث قرآني آخر.

وقد جاءت هذه الحروف المقطعة في سور متعددة من القرآن وعلى اشكال مختلفة : منها ما هو ذو حرف مثل (ص والقرآن ذي الذكر) و(ق والقرآن المجيد) و(ن والقلم وما يسطرون). ومنها ما هو ذو حرفين مثل (طه ما انزلنا عليك القرآن لتشقى) و(يس والقرآن الحكيم) و(حم تنزيل الكتاب من اللّه العزيز الحكيم). ومنها ما هو ذو ثلاثة حروف او اكثر مثل (الم) و(المص) و(المر) و(كهيعص) و(حم عسق)... الخ.

وحين نأتي لمعالجة هذه الظاهرة في القرآن الكريم.. لا نجد العرب قد عرفوا هذه الطريقة من الكلام عند افتتاح كلامهم. كما اننا لا نجد لهذه الحروف معنى بازائها غير مسمياتها من الحروف الهجائية.

______________________________
(3) يراجع في هذا البحث : التبيان 1/ 47 - 51. والكشاف 1/ 21 - 25. والتفسير الكبير 2/ 802 وابن كثير 1/ 64 - 69. والمنار 1/ 122 - 123. ومناهل العرفان 1/ 219 - 220 وتفسير القرآن لشلتوت 35 - 64.

{ 282 }

ولم يؤثر عن الرسول (ص) شيء صحيح في تفسير هذه الحروف بل يكاد ان لا يؤثر عنه شيء في ذلك مطلقاً ليكون هو القول الفصل فيها. لعل هذا هو السبب في تعدد آراء العلماء واختلاف وجهاتالنظر فيما بينهم بصدد تفسير هذه الحروف :

وهناك اتجاهان رئيسان في تفسير هذه الحروف :

الاتجاه الاول :

هو الذي يرى ان هذه الحروف من الاشياء التي استأثر اللّه سبحانه بعلمها. ولذا فليس من الممكن لاحد ان يصل الى معرفة المراد منها. ويؤيد هذا الاتجاه ما روي عن عدد من الصحابة والتابعين.. من ان الفواتح سر القرآن وانها سر اللّه فلا تطلبوه. وذهب اليه كثير من العلماء والمحققين. كما جاء ذلك في بعض الروايات عن طريق اهل البيت (ع).(4)

والاتجاه الآخر :

هو الذي يرى انه ليس في القرآن الكريم شيء غير مفهوم لنا او معروف لدى العلماء والمحققين. وذلك انطلاقاً من حقيقة ان اللّه سبحانه وتعالى وصف القرآن الكريم بصفات متعددة لا تتفق مع هذا الخفاء والاستئثار فهو جاء بلسان عربي مبين كما انه نزل تبياناً لكل شيء وهدى للناس وغير ذلك. وحين يكون القرآن بهذه الصفة لا يمكن الا ان يكون مفهوماً للناس واضحاً لهم. وقد نسب هذا الاتجاه الى المتكلمين من علماء الاسلام.

وعلى أساس هذا الاتجاه نجد كثيراً من العلماء يحاولون تفسير هذه الحروف المقطعة الأمر الذي استلزم تعدد مذاهبهم في ذلك. وقد ذكر الشيخ الطوسي مذاهب مختلفة في تفسير هذه الحروف وعد منها الفخر الرازي واحداً وعشرين تفسيراً وسوف نقتصر على ذكر المهم منها :

______________________________
(4) التبيان : 1/ 48.

{ 283 }

الأول :

ما نسب الى ابن عباس من ان هذه الحروف ترمز الى بعض اسماء اللّه وصفاته وافعاله فقد روي عنه في (الم) : (انا اللّه اعلم). وفي (المر) : (انا اللّه ارى)(5) الى غير ذلك. ويؤيده ما روي عن معاوية بن قرة عن النبي (ص) من انها حروف من اسماء اللّه.(6)

الثاني :

انها اسماء للقرآن الكريم كالكتاب والفرقان والذكر. والى هذا المذهب صار جماعة من التابعين كقتادة ومجاهد وابن جريج والكلبي والسدي.(7)

ويناقش هذان المذهبان بانهما لا يستندان الى دليل أو قرينة وانما هي رجم بالغيب فلا مناسبات الظروف الموضوعية ولا مناسبات الكلام اللغوية هي التي تشير الى هذا المعنى وحالهما حال كل تفسير او فرضية اخرى يمكن ان تذكر شريطة ان لا تتنافى مع بديهيّات العقيدة القرآنية.

الثالث :

ان هذه الحروف مقتطعة من اسماء لها دلالة معينة بحسب الواقع وهي مجهولة لنا معلومة للنبي (ص) ويؤيد ذلك ان هذه الطريقة كانت معروفة لدى بعض العرب في مخاطباتهم واحاديثهم. وقد روي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وجماعة من الصحابة.(8)

كما ان ما ذهب اليه الطبري وروي عن ابن انس يكاد يتفق مع هذا

______________________________
(5) التفسير الكبير : 2/6.
(6) التبيان 1/51.
(7) التفسير الكبير 2/6 والتبيان 1/47.
(8) التبيان 1/ 47 - 48.

{ 284 }

المذهب ايضاً. وهذا المذهب قريب الى المذهب الاول الذي روي عن ابن عباس ايضاً. ويمكن ان يناقش هذا المذهب بنفس مناقشتنا للمذهبين السابقين.

الرابع :

انها اسماء للسور التي جاءت فيها و(الم) اسم لسورة البقرة و(كهيعص) اسم لسورة مريم و(ن) اسم لسورة القلم وهكذا...

وقد اختار هذا الرأي اكثر المتكلمين وجماعة من اللغويين(9) واستحسنه الشيخ الطوسي ودافع عنه بعد ان اورد عليه بعض الشبهات(10) كما اختاره ايضاً الشيخ محمد عبده.(11)

وتحمس الفخر الرازي في تأييده واطنب في بيان الشبهات التي اوردوها عليه ونقضها(12) واهم ما اورد عليه الشبهتان التاليتان :

الاولى

ان الاسم انما يوضع للتمييز بين المسميات. وهذا لا يتفق مع تسمية عدة سور باسم واحد كما حدث في البقرة وآل عمران فأنه ورد في اولهما (الم) وحدث في السجدة وغافر وفصلت فأنه ورد في اولها (حم).

الثانية :

ان الاسم لابد ان يكون غير المسمى في الوقت الذي قام الاجماع على ان هذه الحروف جزء من السور التي جاءت فيها.

وقد اجاب الشيخ الطوسي عن الشبهة الاولى : بأنه لا مانع من تسمية

______________________________
(9) التفسير الكبير 2/5.
(10) التبيان 1/49.
(11) المنار 1/122.
(12) 2/ 8 - 11.

{ 285 }

عدة اشياء باسم واحد مع التمييز بينها بعلامة مميزة. وقد وقع هذا في الاعلام الشخصية كثيراً كما اجاب عن الشبهة الثانية بأنه لا مانع من تسمية الشيء ببعض ما فيه. كما حدث في تسمية سورة البقرة وآل عمران والاعراف من السور.

ولكن مع كل هذا - قد يلاحظ على هذا الرأي - : ان الحروف تقرأ مقطعة بذكر اسمائها (الف - لام - ميم) لا مسمياتها وهذا لا يناسب ان تكون اسماء للسور والا لكان قراءتها بمسمياتها كما هي مكتوبة. وهذه الكيفية من القراءة تناسب ان تكون الحروف مقصودة في نفسها بالذكر لا انها اسماء لاشياء اخرى.

الخامس :

ان هذه الحروف انما جيء بها ليفتتح بها القرآن الكريم وليعلم بها ابتداء السورة وانقضاء ما قبلها. وقد اختار هذا الرأي البلخي وروي عن مجاهد ايضاً وذكر له الشيخ الطوسي بعض الامثلة من استعمالات العرب(13). ويؤيده قول احمد بن يحيى بن ثعلب : ان العرب اذا استأنفت كلاماً فمن شأنهم أن يأتوا بشيء غير الكلام الذي يريدون استئنافه فيجعلونه تنبيهاً للمخاطبين على قطع الكلام الاول واستئناف الكلام الجديد.(14)

وقد يلاحظ على هذا الرأي بعدم شمول هذه الطريقة لجميع سور القرآن الكريم ويبقى الاختصاص حينئذ سراً نحتاج الى ايضاحه والكشف عنه.

______________________________
(13) التبيان 1/47.
(14) التفسير الكبير 2/7.

{ 286 }

السادس :

انها اسماء للحروف الهجائية المعروفة. وانما جيء بها تنبيهاً للناس على ان القرآن الكريم الذي عجزوا عن مباراته والاتيان بمثله ليس الا مؤلفاً من هذه الحروف ومركباً منها فلم يكن التحدي به لانه يحتوي على مادة غريبة عنهم وانما كان بشيء مركب من هذه الحروف التي يتكلمون ويتحادثون بها وقد عجز عن الاتيان بمثله اهل الفصاحة والبلاغة. وقد ذهب المبرد وجمع كبير من المحققين الى هذا المذهب.(15)

ويمكن ان يناقش هذا المذهب بأن مجرد ذكر الحروف في اول السورة بهذا الشكل المتقطع لا يكفي في ايضاح هذه الحقيقة. وقد لا يشعر الناس بذلك... فلا يحقق حينئذ القرآن هدفه من ذكرها.

وقد كان من الممكن ان يصل القرآن الى ذلك عن طريق ايضاح الفكرة ببيان قضية عامة تستوعب هذا المضمون وتشرحه. فالفكرة التي يتبناها هذا المذهب وان كانت صحيحة ولكنها تبدو غير منسجمة مع طبيعة ذكر هذه الحروف بهذا الاسلوب.

السابع :

ان هذه الحروف انما جاءت في اول السور ليفتح القرآن اسماع المشركين الذين تواصلوا بعدم الانصات اليه. كما جاء في قوله تعالى - على لسانهم (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) فكانت هذه الحروف - بطريقة عرضها وغموضها سبباً للفت انظار المشركين الى استماع القرآن الكريم رجاء ان يتضح لهم منه هذا الغموض والابهام عند استماعهم له.

ويزداد هذا المذهب وضوحاً اذا لاحظنا الحالة النفسية التي كان

______________________________
(15) ن. م 2/6.

{ 287 }

يعيشها المشركون آنذاك حيث ينظرون الى القرآن الكريم على انه صورة المعجزة المدعاة وانه ذو صلة بالغيب وعوالمه العجيبة. فهم ينتظرون في كل لحظة ان تحدث ظاهرة غريبة تفسر لهم الموقف وتأتيهم بالامور العجيبة.

الثامن :

انها حروف من حساب الجمل. لان طريقة الحساب الابجدي المعروفة الآن كانت متداولة بين اهل الكتاب آنذاك. فهذه الحروف تعبر عن آجال اقوام معينين.

ومن هنا نجد - كما روي عن ابن عباس - ابا ياسر ابن اخطب اليهودي يحاول ان يتعرف على اجل الامة الاسلامية وعمرها من خلال هذه الحروف.(16)

وقد لاحظ ابن كثير على هذا الرأي بقوله : (واما من زعم انها دالة على معرفة العدد وانه يستخرج من ذلك اوقات الحوادث والفتن والملاحم فقد ادعى ما ليس له. وطار في غير مطاره وقد ورد في ذلك حديث ضعيف. وهو مع ذلك ادل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته..)(17)

كما لاحظ عليه السيد رشيد رضا بمثل هذه الملاحظة حيث قال : (ان اضعف ما قيل في هذه الحروف واسخفه ان المراد بها الاشارة باعدادها في حساب الجمل الى مدة هذه الامة او ما يشابه ذلك).(18)

التاسع :

ان ذكر هذه الحروف في القرآن الكريم يدل على ناحية اعجازية

______________________________
(16) ن. م 2/7.
(17) تفسير القرآن العظيم 1/68.
(18) المنار 1/132.

{ 288 }

تشبه دلالة بقية الآيات القرآنية. وذلك لان النطق بهذه الحروف وان كان متيسراً بالنسبة الى كل من يتكلم العربية.. ولكن اسماءها لم يكن يتيسر الا للمتعلم من العرب ولما كان النبي (ص) امياً - كما يعرفه بذلك معاصروه - فقدرته على معرفة اسمائها قرينة على تلقيه ذلك من قبل الغيب. ولعل هذا هو السبب في تقديم ذكرها على السورة كلها.

وقد اوضح الزمخشري هذه الفكرة بابداء ملاحظة اخرى هي : ان ظاهرة غريبة تلاحظ حين نريد ان ندرس هذه الحروف بدقة تدعونا الى الحكم بأن هذه الحروف قد اختيرت بعناية فائقة لا تتوفر الا لدى المتخصصين من علماء العربية(19).

العاشر :

ما ذكره ابن كثير واوضحه السيد رشيد رضا وحاصله : ان من الملاحظ انه قد جاء بعد هذه الحروف ذكر الكتاب الكريم ونبأ تنزيله. ولم يتخلف عن ذلك الا سور اربع هي مريم والعنكبوت والروم والقلم وفي كل واحدة من هذه السور نجد امراً مهماً يشبه مسألة الكتاب وانزاله.

فأننا نجد في فاتحة سورة مريم خلق يحيى من امرأة عاقرة كبيرة ومن شيخ عجوز وهو امر يخالف القوانين التجريبية السائدة. وفي فاتحة العنكبوت والروم امران مهمان يرتبطان بالدعوة ومصيرها حيث جاء في فاتحة العنكبوت بيان قانون اجتماعي وضعه اللّه لاختبار الناس وتمييز الصالح منهم عن غيره. ولهذا القانون تأثير كبير على سير الدعوة حيث يوضح ان الفتنة والعذاب لا يمكن ان يكون دليلاً على خذلان اللّه لاحبائه وانما هما اختبار لصدق ايمانهم ورسوخه.

______________________________
(19) الزمخشري 1/ 23 - 24. واقرأ تعليق احمد بن المنير الاسكندري ايضاً.

{ 289 }

وفي فاتحة الروم قضية الاخبار بغلبة الروم على الفرس في بضع سنين. وفي فاتحة القلم وخاتمتها تبرئة الرسول من تهمة الجنون التي كانت من اول ما رمي به النبي صلى اللّه عليه وآله من تهم كما ان السورة كانت من اول ما نزل من القرآن.

وهذا الارتباط بين الحروف المقطعة وبين التأكيد على الكتاب وانزاله من السماء يدعونا للقول انه انما جيء بها لغاية قرع الاسماع وهز القلوب ودفع الناس الى استماع القرآن الكريم والانصات اليه.(20)

وهذا المذهب يكاد ينطلق من المذهب السابع - كما اعترف بذلك السيد رشيد رضا - كما ان السيد رشيد رضا يخطئ حين يتصور انه انفرد به حيث سبقه اليه ابن كثير.

موقفنا من هذه المذاهب :

وموقفنا من هذه المذاهب يتحدد على ضوء بعض الظواهر العامة التي عاشتها مسألة (فواتح السور) وهي :

1 - عدم ورود تفسير واضح للفواتح عن الرسول.

2 - سكوت الصحابة عن سؤال الرسول بصدد هذا الموضوع.

3 - عدم تعارف استعمال العرب لهذا الاسلوب في كلامهم.

وهذه الظواهر الثلاث تجعلنا نؤمن بأن الموقف تجاه هذه الحروف من قبل معاصري الوحي والنبوة كان واضحاً وجلياً الامر الذي ادى الى سكوت النبي والصحابة معاً. وحينئذ فاما ان يكون هذا الوضوح نتيجة توضيح

______________________________
(20) تفسير القرآن العظيم 1/68. والمنار 8/ 256 - 289. ولكن ابن كثير يذكر هذه الملاحظات بصدد التنبيه على ارتباط الحروف بالاعجاز كما ذكر في الوجه السادس.

{ 290 }

النبي بأنها من المتشابهات التي يحسن السكوت والتسليم عندها. او انه كان نتيجة ان الغاية من استعمالها كانت جارية على نهج المذهب السابع. فأنه المذهب الوحيد الذي شرح القضية بشكل ينسجم مع هذه الظواهر ولا يستلزم السؤال والاستفسار.

ويكون هذا الاسلوب في الالفات من الاساليب التي برع القرآن في استعمالها.