التفسير في عصر التكوين

ان من البديهيات الاسلامية أن القرآن الكريم لم يكن كتاباً علمياً جاء به الرسول الأعظم من أجل تفسير مجموعة من النظريات العلمية، وانما هو كتاب استهدف منه الاسلام بصورة رئيسية تغيير المجتمع الجاهلي وبناء الأمة الاسلامية على اساس المفاهيم والافكار الجديدة التي جاء بها الدين الجديد، وهو من اجل تحقيق هذه الغاية، والوصول الى هذا الهدف الرئيسي جاء منجماً متفرقاً من اجل ان يعالج القضايا في حينها، ويضع الحلول للمشاكل في اوقاتها المناسبة، مراعياً في ذلك كل ما تفرضه عملية التغيير والبناء من تدريج وأناة، وليحقق الانقلاب في كل الجوانب الاجتماعية والانسانية منطلقاً مع المحتوى الداخلي للفرد المسلم ليشمل البنيات الفوقية للمجتمع.

وعلى هذا الاساس لم يكن شعور المسلمين بشكل عام تجاه المحتوى القرآني ذلك الشعور الذي يجعلهم ينظرون الى القرآن الكريم كما ينظرون الى الكتب العلمية التي تحتاج الى الدرس والتمحيص. وانما هو شعور ساذج بسيط لان القرآن كان يسير معهم في حياتهم الاعتيادية بما زخرت به من الوان مختلفة فيعالج ازماتهم الروحية، والسياسية ويتعرض بالنقد

{ 86 }

للافكار والمفاهيم الجاهلية، ويناقش أهل الكتاب في انحرافاتهم العقيدية والاجتماعية، ويضع الحلول الآنية للمشاكل التي تعتريهم، ويربط بين كل من هذه الامور بعرض مفاهيم الدين الجديد عن الكون والمجتمع والأخلاق.

كل ذلك قام به القرآن الكريم ولكن بشكل تدريجي يسمح لعامة المسلمين ان ينظروا اليه كاحداث تشكل جزءاً من حياتهم الاجتماعية وقد كان المسلمون يفهمون القرآن من خلال هذه النظرة الساذجة اليه وعلى اساس ما لديهم من خبرة عامة، وهي تعني جميع المعلومات التي تحصل لدى الانسان في مجرى حياته الاعتيادية وهذه الخبرة العامة التي كان المسلمون يفهمون النص القرآني بموجبها ذات عناصر مختلفة يمكن ان نلخصها بالامور التالية : -

أ - الثقافة اللغوية العامة فالقرآن نزل باللغة العربية التي كانت تمثل لغة المسلمين في ذلك العصر لان الوجود الاسلامي حينذاك لم يكن قد انفتح على الشعوب الاخرى، وهذه الثقافة اللغوية كانت تمنح المسلمين فهماً اجمالياً للقرآن من ناحية لغوية.

ب - تفاعل المسلمين مع الاحداث الاسلامية واسباب النزول. ذلك ان القرآن - كما نعرف - نزل في كثير من الاوقات بسبب حوادث معينة أثارت نزول الوحي. والمسلمون بحكم ارتباطهم بهذه الحوادث واطلاعهم على ظروفها الخاصة المحيطة بها كانوا يتعرفون بشكل اجمالي ايضاً على محتوى النص القرآني ومعطياته واهدافه.

ج - الفهم المشترك للعادات والتقاليد العربية، فنحن نعرف ان القرآن الكريم حارب بعض العادات والتقاليد العربية وندد بها، والعرب بحكم ظروفهم الاجتماعية كانوا على اطلاع بما تعنيه هذه العادات وبالتالي على

{ 87 }

المفهوم الجديد عنها فمن الطبيعي ان يفهموا قوله تعالى «انما النسيء زيادة في الكفر»(1) وقوله تعالى «وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها» وقوله «انما الخمر والميسر والانصاب والازلام...»(3) لانهم يعرفون «النسيء» «واتيان البيوت من ظهورها» «والانصاب والازلام» كامور كانت قائمة في المجتمع الجاهلي، وكانوا يعيشونها.

د - دور الرسول (ص) في التفسير فقد كان الرسول الاعظم يباشر التفسير احياناً في مجرى الحياة الاعتيادية للمسلمين، فكان يجيب على الاسئلة التي تثور في اذهان المسلمين عن القرآن ومعانيه ويشرح النص القرآني في المناسبات التي يفرضها الموقف القيادي الذي كان يضطلع به الرسول من موعظة او توجيه او حث على العمل في سبيل اللّه والاسلام.

وهذه العناصر في الحقيقة تمثل ما كان عليه المسلمون من فهم ساذج للقرآن، لانها عناصر كانت تعيش مع المسلمين في مجرى حياتهم الاعتيادية دون ان تكلفهم مجهوداً ذهنياً، او عناء علمياً، ولدينا عدة نصوص، تؤكد هذا الفهم الساذج للقرآن الذي كان عليه المسلمون في هذه المرحلة من حياتهم الفكرية فنحن نجد عمر بن الخطاب في مرحلة متأخرة عن هذا الوقت يجد في فهم كلمة «أباً» تكلفاً ونجد عدي بن حاتم يقع في حيرة حين يحاول ان يفهم (حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود) ويشاركه في هذه الحيرة جماعة من المسلمين، ولا ترتفع حيرتهم الا بعد ان يراجعوا الرسول (ص)(4) ونجد ابن عباس لا يعرف معنى «فاطر» حتى يطلع عليه من قبل اعرابي(5).

_____________________
(1) التوبة آية 37.
(2) البقرة آية 189.
(3) المائدة آية 90.
(4) البخاري، فتح الباري 9/249.
(5) راجع الفصل التالي (التفسير في عصر الرسول).

{ 88 }

فهذه الاحداث على ضآلتها تعكس لنا المرحلة التي كان يعيشها المسلمون عصر نزول القرآن.

ولعل من الدلائل على هذا الفهم الساذج للقرآن من قبل المسلمين ما نلاحظه في القراءات المتعددة للقرآن، الشيء الذي قد يكون ناتجاً عن سذاجة بعض القراء من الصحابة في ضبط الكلمة القرآنية، وقراءتها بالشكل الذي يتفق مع بعض الاتجاهات اللغوية التي عاصرت نزول القرآن ثم تداولها المسلمون على اساس انها قراءة اسلامية تَمُتُّ بالنَّسَبِ الى شخص النبي (ص)(6).

ومن الممكن ان يكون احد العوامل التي كان لها تأثير فعال في هذا الفهم الساذج للقرآن هو حياة الرسول الاعظم (ص) المثقلة بالاعمال والاحداث، وبالتالي تأثر حياة المسلمين بشكل عام من جراء ذلك، وقد اشار الامام علي (ع) في حديثه المتقدم الذي رواه ثقة الاسلام الكليني الى هذه الظاهرة العامة التي كانت تشمل الصحابة حيث قال : ورجل سمع من رسول اللّه فلم يحفظه على وجه ووهم فيه، ولم يتعمد كذباً... رجل ثالث سمع من رسول اللّه شيئاً امر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم او سمعه ينهى عن شيء ثم امر به وهو لا يعلم فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ... ولسنا بحاجة لان نؤكد هنا ان هذا الفهم الساذج للقرآن الكريم من قبل عامة المسلمين لم يكن يتنافى مع الدور القيادي الذي يضطلع به الرسول الاعظم بعد أن عرفنا ان حياته (ص) كانت مثقلة بالاعمال والاحداث الامر الذي لم يكن يتيح له الفرصة الكافية للقيام بدور المفسر لعامة المسلمين.

_____________________
(1) سنبحث عن قيام الرسول بتفسير القرآن لعامة المسلمين في الفصل التالي «التفسير في عصر الرسول».

{ 89 }

بذور تكوين علم التفسير

والى جانب هذا الفهم الساذج للقرآن الذي لا يسمح لنا باطلاق (اسم العلم) عليه نلاحظ ملامح خبرة خاصة بدأت بالنمو والتجمع عند عدد من الصحابة نتيجة عوامل متعددة ذاتية وموضوعية فحرصهم بشكل اكثر من غيرهم على الاستفادة من مجالس الرسول وحفظ ما يرد في كلامه من شرح للنص القرآني او تعليق عليه ومحاولة الواعين منهم التعرف على تفصيلات اكبر مقدار ممكن من المعاني القرآنية. او بسبب ظروفهم الموضوعية التي كانت تفرض وجودهم مع الرسول في المدينة، وفي غزواته المتعددة. ولدينا عدة نصوص تشير الى هذا المعنى في عدد من الصحابة :

1 - عن عبد الرحمن السلمي قال : حدثنا الذين كانوا يقرأون القرآن. انهم كانوا اذا تعلموا من النبي (ص) عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل.. قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً. ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة(7).

2 - عن شقيق بن سلمة، خطبنا عبد اللّه بن مسعود فقال : والله لقد اخذت من في رسول اللّه (ص) بضعاً وسبعين سورة واللّه لقد علم اصحاب النبي (ص) اني من اعلمهم بكتاب اللّه وما انا بخيرهم(8).

3 - عن ابي الطفيل : قال شهدت علياً (ع) يخطب وهو يقول سلوني فو اللّه لا تسألوني عن شيء الا اخبرتكم، وسلوني عن كتاب اللّه فواللّه ما من آية الا وانا اعلم أبليل نزلت ام بنهار ام في سهل ام في جبل(3).

4 - عن نصير بن سليمان الاحمسي عن ابيه عن علي (ع) قال : واللّه ما نزلت آية الا وقد علمت فيم نزلت، واين نزلت ان ربي وهب لي قلباً عقولاً، ولساناً سؤولاً(9).

_____________________
(7) الاتقان : 2/172. ط 1368.
(8) البخاري، فتح الباري ج 1/ص 423 ط. 1378.
(9) المصدر نفسه ج 2/ص 187.

{ 90 }

فنحن نلاحظ في هذه النصوص ان بذور المعرفة التفسيرية القائمة على العناية والتخصص، انما كانت على مستوى خاص من الصحابة الامر الذي أدى الى ولادة التفاوت بين المسلمين في جميع المعارف الاسلامية، وبالتالي في خصوص المعرفة التفسيرية.

بعد هذا يمكننا ان نتصور بوضوح التطور الذي سارت به هذه المعرفة الخاصة حتى انتهت الى الفارق الكبير الذي اخذ يفصل مستوى الخبرة الخاصة عن مستوى الخبرة العامة الامر الذي سمح للباحثين ان يطلقوا علم التفسير على هذه الخبرة الخاصة التي كان يتمتع بها هؤلاء الاشخاص ومن اجل ان نتعرف على ملامح هذا الفاصل لا بد من ملاحظة العاملين التاليين:-

1 - ان المسلمين بصورة عامة اخذت معرفتهم التفسيرية تتضاءل بسبب تضاؤل خبرتهم العامة، لان التوسع الاسلامي جعل كثيراً من الافراد والشعوب تنضم الى الجماعة الاسلامية وهم لا يملكون ذلك المستوى العام من الخبرة، ففقدوا بعض العناصر التي كانت تعتمد عليها الخبرة العامة سواء كانت مرتبطة بالجانب اللغوي للقرآن ام بالجانب الاجتماعي والحياتي لهم فلم يكن الافراد الجدد تتوفر فيهم المعرفة اللغوية التي كانت متوفرة لدى عامة المسلمين الذين عاصروا نزول الوحي كما لم يكونوا مطلعين على الحوادث التأريخية التي ارتبطت بها بعض الآيات القرآنية والعادات والتقاليد العربية كما هو الحال بالنسبة الى الاشخاص الذين عاشوا هذه الاحداث والعادات والتقاليد.

2 - وفي الجانب الآخر نجد ان الخبرة الخاصة اخذت بالتضخم والنمو نتيجة الشعور المتزايد بالحاجة الى فهم القرآن، ومواجهة المشاكل الجديدة على ضوء مفاهيمه وأفكاره. وكثرة طلب تفهم القرآن من قبل

{ 91 }

المسلمين الجدد الذين يريدون أن يتعرفوا على الاسلام بجوانبه المتعددة من خلال تعرفهم على القرآن الكريم الذي يقوم بدور المعبر الصحيح عنه.

ولعلنا نجد في النص التأريخي التالي ما يعبر لنا عن هذا التفاوت في المعرفة بين الصحابة هذا الشيء الذي نريد ان نتصوره كبداية لتكون علم التفسير.

عن مسروق : «جالست اصحاب محمد (ص) فوجدتهم كالاخاذ «الغدير» فالاخاذ يروي الرجل والاخاذ يروى الرجلين، والاخاذ يروى العشرة والاخاذ يروى المائة، والاخاذ لو نزل به اهل الارض لاصدرهم(10) وهكذا تكوّن التفسير في بدء بدئه.

_____________________
(10) نقل هذا الحديث في التفسير والمفسرون : 1/36.