الإخبارات الغيبية في القرآن الكريم

ما هو الغَيْب ؟

الغَيْب : كلّ ما غاب عنك؛ قال تعالى
« يُؤمنونَ بالغَيب » (1) أي يؤمنون بما غاب عنهم، ممّا أخبرهم به النبيّ صلّى الله عليه وآله من أمر البَعْث والجنّة والنار. والغَيْب كلّ ما غاب عن العُيون، وإن كان مُحصَّلاً في القلوب (2) .
وعن الإمام الباقر عليه السّلام، قال: إنّ الله تعالى عالمٌ بما غاب عن خلقه فيما يُقدِّر من شيء ويَقضيه في عِلمه قبل أن يخلقه وقبل أن يُفضيه إلى الملائكة، فذلك عِلمٌ موقوفٌ عنده، إليه فيه المشيئة، فيقضيه إذا أراد، ويبدو له فيه فلا يُمضيه؛ وأمّا العِلم الذي يُقدّره الله تعالى ويُمضيه فهو العِلم الذي انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله ثمّ إلينا (3) .

إخبار القرآن الكريم عن الغيب

لقد نزل القرآن الكريم من عند علاّم الغيوب تبارك وتعالى، فلا عجب إن مزّق حواجز الغيب: حاجز المكان، وحاجز الزمان بماضيه ومستقبله؛ فأخبر الإنسانَ ( على لسان نبيّه المصطفى صلّى الله عليه وآله ) عن أمور غيبيّة ساهم المكان والزمان في حجبها وتغييبها عنه، وقصّ عليه قصص الأُمم الغابرة التي فصله عنها حاجز الزمن الماضي، وأنبأه بأمورٍ تَكشّفَ له بعضُها بعد حين، وظلّ بعضُها الآخر ينتظر دوره في التحقّق .

إخبار القرآن الكريم عن الماضي

لم يكتفِ القرآن الكريم بإخبار الرسول المصطفى صلّى الله عليه وآله بقصص الأنبياء السالفين الذين لم يشهد زمانهم، حين قصّ عليه قصّة آدم أبي البشر عليه السّلام وخروجه من الجنّة، وقصّة ابنَي آدم عليه السّلام إذ قرّبا قُرباناً فتُقُبِّل من أحدهما ولم يُتقبَّل من الآخر، وكيف سَوّلت لقابيل نفسُه قَتْلَ أخيه هابيل، وقصّة نوح عليه السّلام وطوفانه، وهود عليه السّلام وقومه عاد، وصالح عليه السّلام وقومه ثمود وقَتْلهم الناقة التي أكرمهم الله تعالى بها، وإبراهيم عليه السّلام وقصّة بنائه الكعبة، وإسماعيل عليه السّلام وتسليمه لأمر الله تعالى، ولوط عليه السّلام وقومه بالمؤتَفِكات، وذي القَرنَين عليه السّلام وفتوحاته، ويعقوب عليه السّلام وصبره، ويوسُف عليه السّلام واستقامته، وأيّوب عليه السّلام وابتلائه، وموسى وهارون عليهما السّلام، ومريم وعيسى عليهما السّلام .
وكان دأبُه أن يُذكّر النبيَّ المصطفى صلّى الله عليه وآله بأنّه لم يحضر هذه الحوادث، وأنّ الله عزّوجلّ هو الذي يُخبره بها. قال عزّ مِن قائل وما كنتَ ثاوياً في أهلِ مَدْيَنَ تتلو عليهم آياتِنا (4) ، وقال وما كنتَ بجانبِ الغَربيِّ إذ قَضَيْنا إلى موسى الأمرَ (5) ، وقال وما كنتَ بجانبِ الطُّورِ إذ نادَينا (6) ، وقال وما كنتَ لَدَيهم إذ يُلْقُون أقلامَهُم أيُّهم يَكفُلُ مريمَ (7).
وتخطّى القرآنُ في إعجازه الإخبار المحض الذي أذعن له أهلُ الكتاب، إلى بيان التحريف الذي وقع في التوراة والإنجيل، وتحدّى أهل الكتاب أن يكذّبوه إن استطاعوا، فقال في سورة مريم ذلك عيسى ابنُ مريمَ قَوْلَ الحقِّ الذي فيه يَمتَرون (8) ، ثمّ تحدّى الجاحدين ـ على لسان نبيّه ـ بالمُباهلة، فنكصوا ولم يُباهلوا، وصالحوا رسولَ الله صلّى الله عليه وآله على أن يدفعوا له الجِزية (9) .

إخبار القرآن الكريم عن المستقبل

مزّق القرآن حجابَ المستقبل، وكان لابدّ له أن يتحدّث عن المستقبل على عدّة مراحل: المرحلة المعاصرة، لكي يعرف أصحاب الرسالة والمؤمنون وغير المؤمنين أنّه الحقّ، ومرحلة المستقبل البعيد؛ لكي يعرف كلّ عصر من العصور التي ستأتي أنّ هذا هو كتاب الله الحقّ. وإذا كان الحديث عمّا سيحدث بعد مئات السنين وآلافها، فإنّ من الواضح أنّه فوق طاقة البشر المحدودة .

نماذج من إنباء القرآن بالمستقبل


النبوءة بهزيمة قريش يوم بدر
1. أُنظُر إلى قوله تعالى في سورة القمر سيُهزَمُ الجَمعُ ويُوَلُّونَ الدُّبُر ، وكان المسلمون حينذاك في مكّة، وكانوا قلّة يخافون أن يَتخطّفهم الناس، حتّى قال عمر بن الخطّاب: كنتُ لا أدري أيّ جمعٍ سيُهزَم! ثمّ جاءت وقعة بدر فهُزم الكفّار وولّوا الأدبار منهزمين، وصَدَق اللهُ وَعْدَه (10) .

النبوءة بموت أبي لهب كافراً
2. تطلّعْ إلى قوله تعالى تَبّتْ يدا أبي لهبٍ وتبّ * ما أغنى عنه مالُه وما كَسَب * سيَصلى ناراً ذاتَ لهب * وامرأتُه حمّالةَ الحطب * في جِيدِها حَبلٌ من مَسَد (11) ، وهو يُنبئ بأنّ أبا لهب عمّ رسول الله صلّى الله عليه وآله سيموت كافراً فيُعذَّب في النار، ولقد أسلم كثير من المشركين الذين حاربوا الإسلام بكلّ قواهم، كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهم، فكيف أمكن التنبّؤ بأنّ أبا لهب بالذات لن يُسلم ولو نفاقاً وحَقْناً لدمه، وأنّه سيموت على كُفره ؟ !

تصريح القرآن بعجز الناس أن يأتوا للقرآن بِمثْل
3. تأمّل في قول الله تبارك وتعالى وهو يتحدّى العرب بفصاحتهم وبلاغتهم أن يأتوا بمثل القرآن، وأن يأتوا بعَشرِ سُوَر من سُوَرِه، ثمّ تحدّاهم أن يأتوا بسورةٍ واحدة، وختم تحدّيه بتصريحه للحقيقة التي بقيت خالدة مدى الدهر لا يأتونَ بمثلهِ ولو كان بعضُهُم لبعضٍ ظَهيراً (12) ، فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتّقوا النار (13).

النبوءة بهزيمة الفرس وانتصار الروم
4. هاك قوله عزّوجلّ في سورة الروم وهو يُزيل عن قلوب المؤمنين الحزنَ الذي لحقها بسبب هزيمة الروم وانتصار الفُرس، وكانت دولة الفُرس الكافرة قد هَزَمت يومذاك الروم الموحّدين فَيَعِد المؤمنينَ بكلام محفوظ متعبَّد بتلاوته لن يجرؤ ولن يستطيع أحد أن يغيّر فيه، فيقول :
آلم * غُلِبَتِ الرومُ * في أدنى الأرضِ وهُم مِن بَعدِ غَلَبِهم سيَغِلبون * في بِضعِ سنين ، (14) ثمّ يُمعن القرآن في التحدّي فيقول وَعْدَ اللهِ لا يُخلِفُ اللهُ وَعْدَه ولكنّ أكثرَ الناسِ لا يعلمون (15).
ولقد كذّب الكفّارُ بهذه النبوءة، وراهَن أحدُهم أحدَ الصحابة أن له عشرة من الإبل إن ظهرت الروم على فارس، وأن يدفع الصحابيُّ للكافر عشرة من الإبل إن ظَهرتْ فارس على الروم، فجاء الصحابيّ إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وأخبره ـ وذلك قبل تحريم القمار ـ فأمره النبيّ صلّى الله عليه وآله أن يُخاطره على مائة رأس من الإبل إلى مدّة تسع سنين، ثمّ غَلَبت الروم فارس وربطوا خيولهم بالمدائن، فأخذ الصحابيّ الرهن فتصدّق به بأمر النبيّ صلّى الله عليه وآله (16) .

إنباء القرآن بفتح مكّة
4. عاد المسلمون من صلح الحديبية وقد حيل بينهم وبين حجّهم ونُسُكهم، فكانت الكآبة والحزن تَعلوانِ وجوههم، فأنزل الله تعالى إنّا فَتَحْنا لكَ فتحاً مُبيناً (17) ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: لقد أُنزلت علَيّ آية هي أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها كلّها (18) .
قال جابر بن عبدالله الأنصاري: ماكنّا نعلم فتح مكّة إلاّ يوم الحديبية، وقال قتادة: نزلت هذه الآية عند مرجع النبيّ صلّى الله عليه وآله من الحديبية، بُشِّر في ذلك الوقت بفتح مكّة (19) .
ولقد وعد الله تعالى المؤمنين بدخول المسجد الحرام آمنين محلّقين رؤوسهم ومقصّرين لا يخافون، فقال تعالى لَتَدخُلُنّ المسجدَ الحرامَ إن شاء اللهُ آمنين مُحلّقينَ رؤوسَكُم ومُقَصِّرين لا تخافون (20) ، فدخل المسلمون مكّة عام الفتح وطافوا وقصّروا رؤوسهم آمنين لا يخشون غير الله تعالى .

نبُوءة القرآن بكيفيّة مقتل الوليد بن المغيرة
5. يستكبر الوليد بن المغيرة عدوُّ الإسلام اللدود، ويتمادى في غيّه وعِناده، فيأتي القرآن ويقول سَنَسِمُه على الخُرطوم (21) ، أي أنّه سيُصاب بضربة على أنفه تُرْديه، ثمّ يأتي الوليد فيحارب الإسلام يوم بدر، فيُصاب بضربة سيف على أنفه تعجّل به إلى جهنّم، ومَن ـ يا ترى ـ غير علاّم الغيوب بإمكانه أن يجزم بموقع الضربة التي ستُهلك الوليد !

الله تعالى يتكفّل بحماية نبيّه
6. أنزل الله تبارك وتعالى على نبيّه المصطفى صلّى الله عليه وآله يا أيُّها النبيُّ بَلِّغْ ما أُنزلَ إليك مِن ربِّكَ وإن لَم تفعلْ فما بَلَّغْتَ رسالتَهُ واللهُ يَعصمُكَ مِن الناس (22) ، فأمره أن ينصب عليّاً عليه السّلام للناس فيُخبرهم بولايته، فتخوّف رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يقولوا: حابى ابنَ عمّه، وأن يطعنوا في ذلك عليه، فأوحى الله إليه هذه الآية، فقام بولايته يوم غدير خُمّ، وأخذ بيد عليّ عليه السّلام فقال: مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللهمّ والِ مَن والاه وعادِ مَن عاداه (23) .
وكان النبيّ صلّى الله عليه وآله يُحرَس، حتّى نزلت هذه الآية، فأخرج صلّى الله عليه وآله رأسه من القُبّة فقال لحُرّاسه: أيّها الناس، انصرفوا فقد عَصَمني الله تعالى (24) .

القرآن يُخبر عن موت أبناء النبيّ صلّى الله عليه وآله
7. أنزل الله عزّوجلّ قوله ما كان محمّدٌ أبا أحدٍ مِن رجالِكم (25) ، وهي آية تتضمّن إنباءً عن الغيب، وإعلاماً من المطّلِع على الغيوب أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله لن يكون أبا أحد من الرجال، وأنّه أذا رُزق أولاداً، فإنّ أولاده سيموتون صغاراً قبل أن يبلغوا مبلغ الرجال. وقد تحقق هذا الإنباء الغيبي، فرُزق النبيّ صلّى الله عليه وآله إبراهيم والقاسم والطاهر، فماتوا صغاراً .
وهذه الآية الشريفة لا تتعارض مع آية المباهلة التي سمّى الله تعالى فيها الحسنَين أبناءً لرسول الله صلّى الله عليه وآله. قال تعالى فمَن حاجّكَ فيه مِن بعدِ ما جاءك مِن العِلمِ فقُل تعالَوا نَدْعُ أبناءَنا وأبناءَكم ونساءَنا ونساءَكم وأنفسَنا وأنفسَكم ثمّ نبتهلْ فنجعلْ لعنةَ الله على الكاذبين (26).

القرآن يأمر النبيّ بالتربّص بالكفّار الذين يتربّصون به
8. لقد قال الكفّار عن النبيّ المصطفى صلّى الله عليه وآله إنّه شاعر، ثمّ اجتمعوا في دار الندوة في أمر النبيّ صلّى الله عليه وآله، فقال أحدهم: احبسوه في وثاق، ثمّ تربّصوا به المنون حتّى يهلك كما هلك مَن قبله من الشعراء: زهير والنابغة، إنما هو كأحدهم ! (27)
ثمّ انتظروا موته لينتهي بموته ـ حسب زعمهم ـ الإسلام الذي جاء به، فردّ عليهم الله تبارك وتعالى أم يقولونَ شاعرٌ نَتربّصُ به رَيبَ المنَون * قُل تربَّصوا فإنّي معكم من المتربّصين (28) ، ثمّ جاء يوم بدر فنزل العذاب بالسيف على هؤلاء القائلين، وحفظ الله تعالى نبيّه (29) .

القرآن يكذّب وعود المنافقين لليهود
9. حين وعد المنافقون بزعامة عبدالله بن أبي بن سَلول يهودَ بني قُرَيظة والنَّضير أن ينصروهم ويَخرُجَنِّ معهم إن أُخرجوا منها، فأنزل الله تعالى ألم تَرَ إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانِهِمُ الذينَ كفروا مِن أهلِ الكِتاب لئن أُخِرجتُم لَنَخرجَنّ معكم ولا نُطيعُ فيكم أحداً أبداً ولئن قُوتِلتُم لَنَنصُرنّكُم واللهُ يَشهدُ إنّهم لَكاذبون * لئن أُخرجوا لا يَخرجون معهم ولئن قُوتلوا لا يَنصرونهم ولئن نَصَروهم لَيُوَلُّنَّ الأدبارَ ثمّ لا يُنصرون (30). وفي هذا الإخبار دليل على صحّة النبوة، لأنّه إخبار بالغيوب (31) . ثمّ قاتل النبيّ صلّى الله عليه وآله يهود بني قُريظة ويهود بني النَّضير وأخرجهم، فخذلهم المنافقون حين قوتلوا، ولم يخرجوا معهم حين أُخرجوا .