تحليل الإعجاز البياني للقرآن

إن إعجاز القرآن في جهة اللفظ والبيان يبتني على دعائم أربع :

أ-فصاحة ألفاظه وجمال عباراته .

ب-بلاغة معانيه وسموها .

ج-روعة نظمه وتأليفه .

ء-بداعة أسلوبه .

هذه هي دعائم الإعجاز البياني للقرآن الكريم ، وإليك توضيحها واحداً تلو الآخر :

أ-فصاحة القرآن المعجزة :

الفصاحة يوصف بها المفرد كما يوصف بها الكلام ، فالفصاحة في المفرد عبارة عن خلوصه من تنافر الحروف والغرابة ومخالفة القياس اللغوي ، والحق أن التنافر أمر ذوقي وليس رهن قرب المخارج ولا بعدها دائماً .

وأما الفصاحة في الكلام فيشترط فيها مضافاً إلى الشرائط المعتبرة في فصاحة المفرد ، خلوص الكلام من ضعف التأليف وتنافر الكلمات والتعقيد .

ثم إن التعقيد تارة يحصل بسبب خلل في نظم الكلام ، بمعنى تأخير ما حقه التأخير وبالعكس ، وأخرى بسبب بعد المناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الكنائي المقصود ، والمتكفل لبيان الخلل في النظم هو علم النحو ، والمتكفل لبيان الخلل في المناسبة هو علم البيان .

هذا ما اعتمد عليه علماء اللغة والبيان في تعريف الفصاحة ، لكن المهم في فصاحة الكلمة كونها عذبة مألوفة الاستعمال ، جامعة لنعوت الجودة وصفات الجمال ، كما أن المهم في فصاحة الكلام تلاؤم الكلمات في الجمل بحيث يوجب حسن الكلام في السمع وسهولته في الأداء ويستحسنه الطبع ، وأما غير العذوبة والتلاؤم من الشرائط فهي في الدرجة الثانية في من تحقيق معنى الفصاحة ، بل ولا يكون بعضها معتبراً في الفصاحة القرآنية ، كمخالفة القياس في فصاحة المفرد ، وضعف التأليف بمعنى كونه على خلاف القانون النحوي المختلف ، وذلك لأن القرآن هو المقياس لا العكس ، فإن القرآن إما كلام إلهي – وهو كذلك – فهو فوق القواعد ، وإما كلام بشري ، فهو صدر من عربي صميم في أعرق بيت من العرب ترحل إليه المواكب وتحط رحالها عنده .

والذوق السليم هو العمدة في معرفة حسن الكلمات وسلاستها وتمييز ما فيها من وجوه البشاعة ومظاهر الاستكراه ، لأن الألفاظ أصوات ، فالذي يطرب لصوت البلبل ، وينفر من أصوات البوم والغربان ، ينبو سمعه عن الكلمة إذا كانت غريبة متنافرة الحروف .

ولأجل أن لتلاؤم الحروف دوراً عظيماً في الفصاحة ، نركّز في هذا البحث على الخلو من تنافر الكلمة والكلمات ، بأن لا تكون نفس الكلمة ثقيلة على السمع ، كما لا يكون اتصال بعضها ببعض مما يسبب ثقلها على السمع وصعوبة أدائها باللسان ، وبما أن مخارج الحروف مختلفة ، فلا بد في حصول التلاؤم من مراعاة ذلك ، بأن لا يكون بين الحروف بعد أو قرب شديد ، فعندها تظهر الكلمة أو الكلام سهلاً على اللسان ، وحسناً في الأسماع ومقبولاً في الطباع ، وهذا وإن لم يكن ملاكاً كلياً لتمييز المتلائم من المتنافر إلا أنه ميزان غالبي .

إذا عرفت ذلك فهلمّ معي حتى نرجع إلى القرآن الكريم ونرى نماذج من فصاحته المعجزة : مثلاً : قوله سبحانه :

(( ومن آياته الجوارِ في البحر كالأعلام )) (1) .

إن لهذه الآية تميزاً ذاتياً عن كلام البشر لا يتمارى فيه منصف ، ولا يشتبه على من له ذوق في معرفة فصاحة الكلام ، وذلك التميز رهن فصاحة أبنيتها وعذوبة تركيب أحرفها ، مضافاً إلى سلاسة صيغها والشاهد على ذلك كله الذوق السليم .

من عجائب القرآن أنه يعمد إلى ألفاظ ذات تركيب يغلب عليه الثقل والخشونة ، فيجمعها في معرض واحد ثم ينظم منها آياته ، فإذا هي وضيئة مشرقة ، متعانقة متناسقة ومن نماذج ذلك قوله سبحانه :

(( قالوا تالله تَفْتَؤا تذكر يوسف حتى تكون حَرَضا أو تكون من الهالكين )) (2) .

فيها كلمات ثقيلة بمفردها ثقلاً واضحاً في السمع واللسان أعني قوله (( تالله … تفتؤا … حرضا )) لكنها قد انتظمت مع خمس كلمات أخرى ، فكان من ثمانيتها عقد نظيم يقطر ملاحة وحسنا .

وأيضاً من بدائع القرآن وغرائبه أن يكرر الحرف الثقيل في آية واحدة ولكنه يلطفه بحروف خفيفة بنحو يعلو مجموعه العذوبة والخفة ، مكان الثقل والخشونة ، ومن هذا النوع قوله سبحانه :

(( قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركاتٍ عليك وعلى أممٍ ممن معك وأممٌ سنمتعهم ثم يمسهم منا عذابٌ أليم )) (3) .

فقد اجتمعت فيها ثمانية عشر ميماً منشورة بين كلماتها حتى كأن الآية مشكّلة من ميمات ، ومع هذا فإنك إذ ترتل الآية الكريمة على الوجه الذي يرتل به القرآن ، لا تحس أن هنا حرفاً ثقيلاً قد تكرر تكراراً غير مألوف بل تجد الآية قد توازنت كلماتها في أعدل صورة وأكملها .

ونظيرها قوله سبحانه :

(( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتُعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك أنت على كل شيء قدير )) (4) .

ففي الآية اثنا عشر ميماً ، قد جاءت في مطلعها ولكنها مع ذلك كأنها ميم واحدة .

ونظيرها أيضاً قوله تعالى :

(( واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قرّبا قرباناً فتُقُبِّل من أحدهما ولم يُتَقَبَّل من الآخر قال لأقتلنّكَ قال إنما يتقبل الله من المتقين )) (5) .

فقد جاء فيها أحد عشر قافاً – وهو من أثقل الحروف نطقاً – لو نثرت هذه القافات في كلام أبسط من هذا ، لظهر عليه الثقل ، ولكنها جاءت في هذه الآية من غير أن تحدث قلقاً واضطراباً وذلك لكثرة الباءات واللامات في الآية لأنهما من أخف الحروف نطقاً ، فأوجبت كثرة دورانها تلطيفاً في الثقل الذي توجبه القاف .

ومثل ذلك قوله سبحانه :

(( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق )) (6) .

 

ب-البلاغة القرآنية المعجزة :

البلاغة عند علماء المعاني والبيان عبارة عن مطابقة الكلام لمقتضى الحال ، ويختلف ذلك باختلاف المقام من كونه مقتضياً للتأكيد أو الإطلاق ، أو الإيجاز أو الإطناب وغير ذلك ، هذا كله مع لزوم اعتبار فصاحة الكلام في تحقق البلاغة .

ولا يخفى أن البلاغة بهذا المعنى لا تكون ركناً للإعجاز ما لم يضم إليها شيء آخر وهو إتقان المعاني وسموها ، وإلا فالمعاني المبتذلة وإن ألبست أجمل الحلي وعرضت بشكل يقتضيه الداعي إلى التكلم لا توصف بالبلاغة ، وعلى فرض صحة التوصيف لا يكون مثل ذلك الكلام أساساً للإعجاز ودعامة له ، وهذا مثل ما حكي عن مسيلمة الكذاب حيث قال : (( والطاحنات طحنا ، والعاجنات عجنا ، والخابزات خبزا )) فأين هذه المفاهيم الساقطة من المعاني العالية السامية الواردة في قوله سبحانه :

(( والعاديات ضبحاً ، فالموريات قدحاً ، فالمغيرات صبحاً )) (7) .

فاللازم في البحث عن بلاغة القرآن التركيز على أمرين :

1-مطابقة الكلام لمقتضى الحال .

2-سمو المعاني وعلو المضامين .

ثم أن دراسة القرآن من حيث كونه مطابقاً للأحوال المقتضية وما فيه من فنون المجاز والاستعارة يحتاج إلى تفسير حافل ، يفسّر القرآن   من هذا الجانب ، ولعل من أحسن ما كتب في هذا الموضوع الكشّاف للزمخشري ( م/528 ) وتلخيص البيان في مجازات القرآن للسيد الرضي ( م/406) قال الشريف الرضي في مقدمة كتابه :

(( كان الحكيم سبحانه ، لم يورد ألفاظ المجازات لضيق العبارة عليه ، ولكن لأنها أجلى في أسماع السامعين وأشبه بلغة المخاطبين )) .

وقال الزمخشري في رسالته حول إعجاز سورة الكوثر :

(( انظر ، كيف نظّمت النظم الأنيق ورتّبت الترتيب الرشيق ، حيث قدّم منها ما يدفع الدعوى ويرفعها ، وما يقطع الشبهة ويقلعها (( إنا أعطيناك الكوثر )) ثم لمّا يجب أن يكون عنه مسببا وعليه مترتبا (( فصل لربك وانحر )) ثم ما هو تتمة الغرض من وقوع العدو في مغوّاته التي حفر ، وصلْيه بحرِّ ناره التي سعر (( إن شانئك هو الأبتر )) )) .

ثم إن التالي لآيات الذكر الحكيم – إذا كان ممعناً في تلاوته – يرى في كل سورة وآية عظة وتنبيهاً ، وإعلاماً وتذكيراً ، وترغيباً وترهيباً ، وتشريعاً وتقنيناً ، وقصصاً وعبراً ، وبراهين وحججاً ، ترقى بروح الإنسان وتحلّق بها في سماء المعنويات ، فهذه المعاني العالية السامية إذا حملتها ألفاظ فصيحة ، وصيغت بنظم رصينة وألقيت على مقتضى الحال بهرت العقول ، وخلبت النفوس ، وسلمت بعجزها عن معارضته والإتيان بمثله .

وإلى هاتين الدعامتين من إعجاز القرآن أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله :

(( ظاهره أنيق وباطنه عميق )) (8) .

واعترف بذلك عدوه الوليد بقوله :

(( وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه ليعلو ولا يعلى عليه )) (9) .

إن للقرآن طريقة موحدَّة في التعبير يتخذها في أداء جميع الأغراض على السواء حتى أغراض البرهنة والجدل ، وتلك طريقة صوغ المعاني العالية في قالب التجسيم والتمثيل ، وإليك نماذج في ذلك :

1-يعبر عن النفور الشديد من دعوة الإيمان بقوله :

(( كأنهم حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَة ، فَرَّت من قَسْوَرَة )) (10) .

2-يعبر عن عجز الآلهة التي يعبدها المشركون بقوله :

(( إن الذي تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلُبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه … )) (11) .

3-يعبر عن حالة تخلي الأولياء عن تابعيهم أمام هول القيامة هكذا :

(( وبرزوا لله جميعاً فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تَبَعاً فهل أنتم مُغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهدينا لكم سواءٌ علينا أجزِعنا أم صبرنا ما لنا من مَحيص )) (12) .

4- يعبر عن بطلان أعمال الكافرين بقوله :

(( والذين كفروا أعمالهم كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده )) (13) .

5-كما يعبر عن ضلالتهم الدائمة بقوله :

(( أو كظلماتٍ في بحر لُجِّيٍّ يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحابٌ ظلماتٌ بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها )) (14) .

هذه نماذج من التصوير الفني للقرآن الكريم وهناك نوع آخر من التصوير يضفي على المعاني الذهنية والحالات المعنوية صوراً حسية : مثلاً :

أ-الصبح مشهد مألوف متكرر ، ولكنه في تعبير القرآن حي لم تشهده من قبل عينان ، وإنه (( والصبح إذا تنفس )) (15) .

ب-الليل من الزمان معهود ، ولكنه في تعبير القرآن ، حي جديد (( والليل إذا يسر )) (16) وهو يطلب النهار في سباق جبار (( يُغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً )) (17) .

ج-والجدار بنية جامدة ، ولكنه في تعبير القرآن نفس يحس ويريد :

(( فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقضَّ فأقامه )) (18) .

د-والأرض والسماء ، والشمس والقمر ، والجبال والوديان والدور العامرة ، والآثار الداثرة ، والنبات والأشجار والأفنان ، أموات عند الناس ، لكنها في القرآن ، أحياء ، أو مشاهد تخاطب الأحياء ، فليس هناك جامد ولا ميت بين الجوامد والأشياء . (19) .

 

ج-نظم القرآن المعجز :

الدعامة الثالثة لإعجاز القرآن ، هو النظم السائد على أجزائه ، عرّف النظم بوجوه مختلفة والمتحصل منها أن للنظم أركاناً ثلاثة :

1-انسجام أجزاء الكلام والتئامها .

2-وضع كل لفظ في موضعه اللائق .

3-رعاية قوانين اللغة وقواعدها .

غير أن المقصود منه هنا هو الركنان الأولان ، وأما رعاية القوانين فهي وإن كانت دخيلة في تحقق النظم ، غير أن القرآن أرفع شأنا من أن يعرض على القواعد ، بل هي تعرض عليه كما تقدم ، ولأجل ذلك نركّز في النظم على الأمرين الأولين ، فنقول :

إن القرآن بلغ من ترابط أجزائه وتماسك كلماته وجمله وآياته مبلغاً لا يدانيه فيه أي كلام آخر مع طول نفسه ، وتنوّع مقاصده ، وافتنانه وتلوينه في الموضوع الواحد ، فبين كلمات الجملة الواحدة من التآخي والتناسق ما جعلها رائعة التجانس والتجاذب ، وبين جمل السورة الواحدة من التشابك والترابط ما جعلها واحدة متعانقة الآيات ، ولأجل ذلك يقول سبحانه :

(( قرآناً عربياً غيرَ ذي عِوَج )) (20) .

ويقول أيضاً :

(( الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني )) (21) .

وبما أن الترابط والتآخي في الآيات القرآنية واضحة لمن أمعن فيها ، فلذلك نطوي الكلام عن الإكثار فيها ونعطف الكلام إلى الأمر الثاني وهو :

وضع كل كلمة في موضعها :

إن لكل نوع من المعنى نوعاً من اللفظ هو به أولى وأنسب ، وكان إلى الفهم أقرب وبالقبول أليق ، وكان السمع له أدعى والنفس إليه أميل ، وهذا حكم سائر حتى في الألفاظ المتقاربة من حيث المعنى ، كالحمد والشكر ، والبخل والشح ، والقعود والجلوس ، والعلم والمعرفة   وغير ذلك من الحروف والأسماء والأفعال ، فإن لكل لفظة منها خاصية تتميز بها عن صاحبتها في بعض معانيها ، وإن كانا بشتركان في بعضها .

وقد اهتم القرآن ، باستعمال كل كلمة في موضعها بحيث لو أزيلت الكلمة أقيم مكانها ما يظن كونه مرادفاً لها ، لفسد المعنى ، وزال الرونق ، ولأجل إيضاح ذلك نأتي بنماذج :

1-نرى أنه سبحانه يأمر عبده بحمده ، ويقول :

(( وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريكٌ في الملك )) (22) .

وفي موضع آخر يأمر بالشكر ويقول :

(( اعملوا آل داوُد شكراً )) (23) .

وما هذا إلا لأن الحمد هو الثناء على الجميل ، والشكر هو الثناء في مقابل المعروف ، فالحمد ضد الذم ، والشكر ضد الكفران ، والآية الأولى ناظرة إلى صفة جلاله تعالى أعني التنزه عن الولد والشريك فناسب الأمر بالحمد ، والآية الثانية ناظرة إلى معروفه وإحسانه تعالى على آل داود فناسب الأمر بالشكر على المعروف .

2-جاءت في القرآن كلمة السهو تارة متعدية بلفظة (في) في قوله تعالى :

(( الذين هم في غَمْرَةٍ ساهون )) (24) .

وأخرى بلفظة (عن) في قوله تعالى :

(( الذين هم عن صلاتهم ساهون )) (25) .

وما هذا إلا لأن المراد في الآية الأولى أن الغفلة تعلوهم وتغمرهم ، فناسب لفظة (في) الدالة على الظرفية ، ولكن المراد من الآية الثانية هو السهو عن نفس الصلاة فناسب لفظة (عن) .

3-يقول سبحانه :

(( وله ما سكن في الليل والنهار )) (26) .

مع أن لله سبحانه ما سكن فيهما وما تحرك ، وما ذلك إلا لأنه ليس المراد من السكون ما يضاد الحركة ، وإنما المراد من السكون هو الاستقرار في نظام العالم ، ولو وضعت مكان (سكن) أي كلمة اخرى ترادفها ، مثل (خمد) ، (استقر) ، (وقف) تخرج الآية من روعتها وربما يفسد المعنى .

4-ومن هذا القبيل استعمال كلمة (دان) في قوله تعالى :

(( وجنا الجنتين دان )) (27) ولم يقل (قريب) ، (حاضر) وما يشابه ذلك .

ومن هنا نقف على سبب ما اشتهر بين أئمة البلاغة من أن الكلمة في نظم القرآن ، تأخذ أعدل مكان في بناء هذا البنيان ، ولا يصلح للحلول مكانها أي كلمة أخرى ، لاستلزامه إما فساد المعنى ، أو عدم إفادة المقصود .

د-القرآن وأسلوبه المعجز :

الأساليب السائدة في كلام العرب عصر نزول القرآن ، كانت تتردد بين الأساليب التالية :

1-أسلوب المحاورة وهو الذي كان متداولاً في المكالمات اليومية ولم يكن مختصاً بطائفة منهم .

2-أسلوب الخطابة وهو الأسلوب الرائج بين خطباء العرب وبلغائهم ، منها ما ألقاه قيس بن ساعدة في سوق عكاظ   وقال : (( أيها الناس اسمعوا وعوا ، من عاش مات ، ومن مات فات ، وكل ما هو آت آت ، ليل داج ، ونهار ساج ، وسماء ذات أبراج ، ونجوم تزهر ، وبحار تزخر ، وجبال مرساة ، وأرض مدحاة ، وأنهار مجراة ، إن في السماء لخبرا ، وإن في الأرض لعبرا ، ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون ، أرضوا فأقاموا ، أم تركوا فناموا ؟ (28) .

ويرى هذا الأسلوب في خطب النبي وعلي عليهما السلام في مواقف مختلفة .

3-أسلوب الشعر ، وهو الأسلوب المعروف المبني على البحور المعروفة في العروض .

4-أسلوب السجع المتكلف ، وهو كان يتداوله الكهنة والعرافون .

لكن القرآن جاء بصورة من صور الكلام على وجه لم تعرفه العرب وخالف بأسلوبه العجيب أساليبهم الدارجة ومناهج نظمهم ونثرهم ، إن الأسلوب القرآني الذي تفرّد به ، كان أبين وجه من وجوه الإعجاز في نظر الباحثين عن إعجازه ، وقد ركّز القاضي الباقلاني عليه وحصر وجه إعجازه فيه وقال :

(( وجه إعجازه ما فيه من النظم والتأليف والترصيف وأنه خارج عن وجه النظم المعتاد في كلام العرب ومبائن لأساليب خطاباتهم ولهذا لم يمكنهم معارضته )) (29) .

ومما يدل على أن القرآن ليس كلام النبي الأعظم هو وجود البون الشاسع بين أسلوب القرآن وأسلوب الحديث النبوي ، فمن قارن آية من القرآن الكريم مع الأحاديث القطعية الصادرة منه صلى الله عليه وآله وسلم أحسّ بمدى التفاوت بين الأسلوبين ، وهذا يدل على أن القرآن نزل من عالم آخر على ضمير النبي ، بينما الحديث الذي تكلم به النبي من إنشاء نفسه .

مثلاً يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في وصف الغفلة عن الآخرة :

(( وكأن الموت فيها على غيرنا كتب ، وكأن الحق فيها على غيرنا وجب ، وكأن الذي نشيع من الأموات سفر ، عما قليل إلينا يرجعون )) .

هذا أسلوب الحديث في هذا المجال ، وأما أسلوب القرآن فهو هكذا :

(( وما هذه الحياة الدنيا إلا لهوٌ ولعبٌ وإن الدار الآخرة لهي الحَيَوانُ لو كانوا يعلمون )) (30) .

وهناك نوع آخر من المقارنة يتجلّى فيها التفاوت بوضوح بين الأسلوبين وهو ملاحظة خطب الرسول الأعظم عندما يخطب ويعظ الناس بأفصح العبارات وأبلغها ثم يستشهد في ثنايا كلامه بآي من الذكر الحكيم فعندها يلمس البون الشاسع بين الأسلوبين .

خطب النبيّ الأكرم يوم فتح مكة في المسجد الحرام فقال : (( يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء ، الناس من آدم وآدم من تراب :

(( أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم )) (31) .

وأخيراً يجب التنبيه على أن الأسلوب وإن كان له دور عظيم في إعجاز القرآن ، ولكنه وحده لا يكفي لجعل الكلام فوق كلام البشر ما لم تنضم إليه الدعائم الثلاث الأخر خصوصاً سمو المعاني وعلو المضامين فإن له القسط الأكبر في جعل الأسلوب ممتازاً ، وإلا فمحاكاة أسلوب القرآن ملموس في كلام المدعين للمعارضة مثل مسيلمة وغيره ، وقد عرفت أن إعجاز القرآن بمعنى كونه خلّاباً للعقول ، ومبهراً للنفوس ، رهن أمور أربعة توجب حصول تلك الحالات للإنسان فلا يجد في نفسه أمام القرآن إلا السكوت والسكون .

___________________

الهوامش :

(1) سورة الشورى : 32 .

(2) سورة يوسف : 85 .

(3) سورة هود : 48 .

(4) سورة آل عمران : 26 .

(5) سورة المائدة : 27 .

(6) سورة آل عمران : 181 .

(7) سورة العاديات : 1-3 .

(8) الكافي : 1 / 238 .

(9) مجمع البيان : 9-10 / 378 .

(10) سورة المدثر : 50-51 .

(11) سورة الحج : 73 .

(12) سورة إبراهيم : 21 .

(13) سورة النور : 39 .

(14) سورة النور : 40 .

(15) سورة التكوير : 18 .

(16) سورة الفجر : 4 .

(17) سورة الأعراف : 54 .

(18) سورة الكهف : 77 .

(19) راجع في ذلك (التصوير الفني في القرآن ) : 193-203 .

(20) سورة الزمر : 28 .

(21) سورة الزمر : 23 .

(22) سورة الإسراء : 111 .

(23) سورة سبأ : 13 .

(24) سورة الذاريات : 11 .

(25) سورة الماعون : 5 .

(26) سورة الأنعام : 13 .

(27) سورة الرحمن : 54 .

(28) صبح الأعشى للقلقشندي : 1 / 212 ، إعجاز القرآن لعبد القاهر الجرجاني : 124 ، البيان والتبيين للجاحظ : 1 / 168 .

(29) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي : 4 / 8 .

(30) سورة العنكبوت : 64 .

(31) السيرة النبوية لابن هشام : 3 / 237 ، تاريخ الطبري : 3 /120 .

المصدر : الإلهيات للشيخ جعفر السبحاني – تلخيص الشيخ علي الرباني الكلبايكاني