الشكر

الشكر من الوسائل المؤثّرة في كسر شوكة "الأنا"، وتكريس حالة العبودية وتعبيد الأنا لله تعالى. ذلك أن الشكر ينطوي على إحساس مزدوج بفقر الإنسان إلى الله تعالى وفضل الله عزّ

شأنه على الإنسان.

وهذا الإحساس المزدوج يتكوّن من خطّ صاعد من الإنسان إلى الله، وهو خطّ الفقر، وخط نازل من عند الله على عبده وهو خط الفضل والرحمة والرزق.
ويصوّر القرآن على لسان موسى بن عمران (عليه السلام) هذا الإحساس المزدوج أروع تصوير:

(رب إني لما أنزلت إليّ من خيرٍ فقيرٌ).

والخط النازل من عند الله في هذه الآية الكريمة هو "الخير" والصاعد من العبد إلى الله هو الفقر، ويقع الإنسان بين هذا الفقر الصاعد من العبد إلى الله والخير النازل من الله على عباده.
وهذا الفقر الصاعد والخير النازل حالة دائمة مستمرّة في حياة كلّ الناس، وإذا أمعن الإنسان النظر في هذا الكون عامّة، وفي حياة الأحياء خاصّة يجد هناك دائماً فقراً صاعداً من العبد إلى الله عزّ وجل، ورحمة هابطة من الله سبحانه وتعالى على العباد، الشاكرين منهم وغير الشاكرين. والشكر عملية توعية وتسليط الضوء والوعي على هذا الفقر الصاعد والخير النازل. يحسس الإنسان ويشعره بهذا الفقر الصاعد والخير النازل.
روي أن داود سأل الله تعالى عن قرينه، فأوحى الله سبحانه إليه أنه متّي أبو يونس، فجاء مع سليمان لزيارته، فرآه إذ أقبل وعلى رأسه وفر من حطب، فباعه واشترى طعامه، ثم طحنه وعجنه وخبزه، فأخذ لقمة وقال: "بسم الله"، فلما ازدردها قال: "الحمد لله"، ثم فعل ذلك بأخرى وأخرى، ثم شرب الماء فذكر اسم الله تعالى، فلما وضعه قال: "الحمد لله، يا ربّ من ذا الذي أنعمت عليه وأوليته مثل ما أوليتني، قد صحّحت بصري وسمعي وبدني، وقوّيتني حتى ذهبت إلى شجر لم أغرسه، ولم أهتم لحفظه، جعلته لي رزقاً، وسبقت إلى من اشتراه مني، فاشتريت بثمنه طعاماً لم أزرعه، وسخرت لي النار فأنضجته، وجعلتني آكله بشهوة أقوى بها على طاعتك، فلك الحمد"، قال: ثم بكى.
قال داود، يا بني! قم فانصرف بنا، فإنّي لم أر عبداً قطّ أشكر لله من هذا…(1).
ولهذا الوعي والإحساس دور كبير ومؤثّر في كسر شوكة "الأنا" وتعبيد الأنا لله تعالى وتكريس حالة عبودية الأنا لله تعالى.


نهج البلاغة الخطبة رقم:151.