معرفه القران

إذن ما المقصود بالقلب؟ علينا أن نبحث عن جواب هذا السؤال في حقيقة وجود الإنسان.
فعلى الرغم من إن الإنسان كائن فرد واحد.فإن له مئات الأبعاد، بل آلافها. فالـ (أنا) انسان يتألف من العديد من الأفكار والآمال.ومن الخوف والرجاء والحب، الخ.. وكل هذه الأفكار أشبه ما تكون بالأنهر والنهيرات التي تلتقي في مركز واحد.وهذا المركز نفسه بحر عميق، لم يدّع أحد من البشر بعد أنه قد سبر أعماقه وعرف كنهه.على الرغم من أن الفلاسفة، والروحانيين، وعلماء النفس، قد وصل كل منهم إلى كشف بعض أسراره.ولكن الظاهر إن الروحانيين، كانوا أكثر توفيقا من غيرهم.فالذي يسميه القرآن بالقلب هو في الحقيقة ذلك البحر، وإن ما نسميه نحن بالروح إن هو إلا الأنهر، والروافد، التي تتصل بهذا البحر.


(1)سورة ق: 37.

(3)سورة بقرة: 10.

 

وبما أن القرآن يتحدث عن الوحي، فإنه لا يذكر العقل، بل يقتصر على التوجه إلى قلب الرسول.وهذا يعني إن القرآن لم يحصل للرسول عن طريق قوة العقل، ولا بالاستدلال العقلي.وإنما هو قلب الرسول الذي بلغ حالة لا نستطيع نحن تصورها.فاصبح فيها قادرا على إدراك تلك الحقائق السامية وشهودها. إن كيفية هذا الأرتباط مبينة إلى حد ما في آيات من سورتي النجم والتكوير(1)
وإذ يتحدث القرآن عن الوحي، وإذ يخاطب القرآن القلب، يكون بيانه أوسع من العقل، ولكنه ليس ضده.ذلك لأن ما يعرضه القرآن أوسع في منظوره من منظور العقل والشعور، بحيث لا يقدر على إدراكه ويعجز عن نيله.

مميزات القلب

القلب في نظر القرآن أداة من أدوات المعرفة، إذ إن القرآن في معظم رسالته يخاطب القلب، تلك الرسالة التي تستطيع أذن القلب وحدها سماعها، وما من أذن أخرى قادرة على سماعها.لذلك فالقرآن كثيرا ما يعنى بالحفاظ على هذه الأداة، وبتعهدها وتربيتها.هنالك الكثير من الآيات في القرآن نقرأ فيها عن تزكية النفس، ونور القلب، وصفائه:

(قد ألح من زكاها)(2)

(كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)(3)

(إن تتّقوا الله يجعل لكم فرقانا).(4)

(والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا).(5)

وبالنظر إلى أن السيئات تلقي الظلام على روح الإنسان وتكدر صفاءه، وتبعد عنه حبه للخير وسعيه إليه، فقد تكرر القول في القرآن بهذا الشأن، وقد جاء على لسان المؤمنين:

(ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا).(6)

أو يقول في وصف المسيئين:


(1)نقرأ في سورة النجم الآيات التالية:
(وما ينطق عن الهوى، إن هو إلاّ وحي يوحى، علّمه شديد القوى، ذو مرة فاستوى، وهو بالأفق الأعلى، ثمّ دنا فتدلّى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى).
يذكر القرآن كل هذه الأمور لكي يبين إن مستوى هذه المسائل أرفع من مستوى العقل، فالحديث هنا عن الرؤية والسمو.
ونقرأ في سورة التكوير: (إنّه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين، وما صاحبكم بمجنون، لقد رآه بالأفق المبين، وما هو على الغيب بضنين).
يقول اقبال اللاهوري في تعبير لطيف بهذا الخصوص: "ان الرسول هو من تفيض عنه الحقائق إذ يمتلئ بها فيعرض مما أوتي على الناس لكي يغير ويبدل ويرتب وينظم"..
(2)سورة الشمس: 9.
(3)سورة المطففين: 14.
(4)سورة الأنفال: 29.
(5)سورة العنكبوت: 29.
(6)سورة آل عمران:8.

(كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)(1)

(فلمّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم).(2)

أو إنه يتحدث عن إغلاق القلوب وختمها وقساوتها:
(ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة)(3) (وجعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه)(4)

(كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين)(5)

(فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون).(6)

كل هذه الآيات تؤكد ان القرآن يرى الإنسان في جو روحي ومعنوي عال، ويرى أيضا أن على الإنسان أن يحافظ على هذا الجو نظيفا، نقيا. ولما كان كل سعي يقوم به الفرد في الحفاظ على طهارته، في مجتمع غير سليم، يعود في الاغلب عقيما غير موفق، فإن القرآن يحث الناس على بذل الجهد لتصفية مجتمعهم، وتزكية محيطهم.ويشير القرآن صراحة إلى أن ما تستثيره آياته من العشق، والايمان، والرؤى، والتطلعات السامية، وتقبل النصح، وغير ذلك، يتوقف كله على تجنب المجتمع الإنساني والانسان نفسه الرذائل، والدناءات، وحب الذات والشهوات.
يؤخذ من تاريخ البشر أنه كلما ارادت القوى الحاكمة أن تبسط سيطرتها على مجتمع ما، لاستغلاله، سعت إلى ذلك المجتمع فنشرت فيه الفساد، فتيسر لافراده مجالات اشباع الشهوات، وتحثهم على اتباع الملذات.


(1)سورة المطففين:14.
(2)سورة الصف:5.
(3)سورة البقرة: 25.
(4)سورة الأنعام:25.
(5)سورة الأعراف: 101.
(6)سورة الحديد:16.
لقد ظهرت أمثولة هذا الأتجاه الشائن، الفاجع، ذي العبرة، في اندلس الإسلام ـ الاندلس الذي كان يعتبر من منابع عصر النهضة، وكان من اكثر دول اوربا تقدما ـ فلكي ينتزع المسيحيون الاندلس من المسلمين، أخذوا يفسدون روحية الشباب المسلم وأخلاقه، فلم يألوا جهدا في توفير أسباب اللهو واللعب، والانغماس في الملذات للمسلمين، ولقد نجحوا في هذا إلى درجة أن القادة، وكبار رجالات الدولة، وقعوا في حبائلهم، فلوثّوا نفوسهم، وبذلك تمكنوا من أن ينتزعوا ما كان في المسلم من عزم، وارادة، وقوة، وشجاعة، وإيمان، وطهارة روح، فأحالوهم إلى أفراد جبناء، ضعفاء، شهوانيين، يشربون الخمر، ويرتكبون الموبقات.ومما لا ريب فيه هو أن قهر شعب هذا شأنه ليس بالأمر العسير.
لقد انتقم المسيحيون من حكومة المسلمين، ذات القرون العديدة إنتقاما يخجل التاريخ أن يذكره، ويشمئز من ترديد تلك الجنايات الشائنة، لقد كانوا هم أولئك المسيحيون الذين كان المسيح (ع) قد علمهم أن يديروا خدهم الأيسر لمن يصفعهم على خدهم الأيمن.
لقد اجروا في الاندلس بحارا من دماء المسلمين، فبيضوا بذلك وجه جنگيز [المغولي]. وبالطبع كان السبب في هزيمة المسلمين ضعف همتهم، وفساد روحهم، جزاء إهمالهم تعاليم القرآن ودستوره.
وفي زماننا هذا، حينما وضع المستعمرون قدما في بلادنا، كان اعتمادهم على الحالة نفسها التي حذر منها القرآن.أي إنهم سعوا إلى إفساد القلوب. وإذا فسدت القلوب، انقلب العقل إلى قيد أكبر، يغل أيدي الناس وأقدامهم. ولهذا نجد إن المستعمرين، والمستغلين، لا يخشون إنشاء المدارس والجامعات، بل يؤسسونها بأنفسهم، ولكنهم يسعون، في الوقت نفسه، وبكل قواهم، إلى إفساد روح الطالب وقلبه.انهم يدركون حق الادراك إن القلب المريض لن يكون قادرا على المقاومة، بل يستكين إلى كل انحطاط، واستغلال، واستثمار.
لذلك يولي القران أهمية كبرى لطهارة روح المجتمع، إذ يقول: (وتعاونوا على البر والتّقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان).(1)
فيطلب من الناس ان يتوجهوا اولا إلى عمل الخير، وتجنب الأثم، ثم ان يكون توجههم هذا جماعيا ثانياً.


(1)سورة المائدة: 2.
 

فيما يتعلق بالقلب، ساورد لكم بعض اقوال الرسول (ص) والأئمة (ع) لتكون حسن الختام لهذا الموضوع.جاء في كتب السير، ان رجلا قدم على الرسول (ص) وقال إن لديه ما يسأل عنه.فقال له الرسول: أتريد أن تسمع الجواب أم تريد أن تسأل؟فقال اريد الجواب. فقال الرسول: لقد جئت تسأل عن البر والخير، وعن الأثم والشر. فقال الرجل هو ذاك. فضم الرسول ثلاثة اصابع وضرب بها صدر الرجل بلطف وقال: استفت قلبك، ثم قال: لقد صنع قلب المرء بحيث يكون متصلا بالخير، فهو يهدأ بالخير، ويضطرب بالشر. مثل ذلك مثل الجسم، إن دخله ما لا يتجانس معه، اختل نظامه وتوازن اعضائه. كذلك روح الإنسان، يختل بالأعمال القبيحة. إن ما يسمى عندنا بعذاب الضمير، ينشأ من عدم انسجام الروح مع الآثام والأعمال الشائنة.

(استفت قلبك وان افتاك المفتون)(1)

هنا يضع الرسول إصبعه على أمر مهم، وهو أنه إذا كان الإنسان باحثا عن الحقيقة بتجرد، وخلوص نية، فإن قلبه لن يخونه أبدا، وإنما يهديه إلى الطريق الصحيح.في الحقيقة إن الإنسان مادام باحثا عن الحق والحقيقة، ويتقدم على طريق الحق، فإن كل ما يصادفه هو الحق والحقيقة.إلا أن ثمة نقطة ظريفة تبعث على سوء الفهم، وهي أنه إذا ضل الإنسان طريقه، فالسبب هو إنه كان منذ البداية متوجها وجهة خاصة، بعيدة عن البحث عن الحقيقة بخلوص نية.
لقد أجاب الرسول (ص) الشخص الذي سأله عن "البر" قائلا له إنك إن كنت حقا تبحث عنه، فاعلم إنك إن وجدت ضميرك قد استراح إلى أمر، فذاك هو البر، ولكنك إن رغبت في شيء لم يرتح له قلبك، فاعلم أن ذاك هو الأثم.
ويسألون النبي عن معنى الإيمان فيقول: إن من إذا ارتكب القبيح قلق وندم، وإذا عمل صالحا سر وفرح، فهذا له نصيبه من الإيمان.


(1)اوضحت في كتاب "جولة في نهج البلاغة" إن الإسلام يضع فرقا بين أن يكون للمرء علاقة بالدنيا وأن يكون متعلقا بها.



ينقل عن الإمام الصادق (ع) إنه قال: "إذا تحرر المرء من تعلقه بالدنيا احسّ بحلاوة حب الله في قلبه، فيرى الأرض قد ضاقت به، ويسعى بكل وجوده للتحرر من عالم المادة، والخروج منه.وهذا ما أكد أولياء الله والمنقطعون إليه صحته بطريقة معيشتهم. لقد جاء في سيرة حياة الرسول (ص) إنه زار مرة بعد صلاة الصبح أصحاب الصفة، وكانا جماعة من الفقراء، لا يملكون من متاع الدنيا شيئا، يعيشون بجوار مسجد النبي. فوقع نظر الرسول على واحد منهم اسمه زيد، أو حارث بن زيد، ورآه واهنا نحيفا، قد غرقت عيناه في محجريهما، فسأله:

كيف أصبحت؟ فقال الرجل: أصبحت وحالي حال أهل اليقين.

فقال النبي: هذا زعم كبير. فما علامة ذلك؟

فقال الرجل: علامة يقيني هي إن النوم قد جفا عيني ليلا، وأنا بالنهار في صوم دائم، أقضي الليل حتى الصباح مضطرب الجوانح في العبادة.

فقال النبي: هذا لا يكفي، زدني.

فأخذ الرجل يسرد العلامات الأخرى، فقال: يا رسول الله، انا الآن في حالة وكأني أرى أهل الجنة وأهل النار وأسمع أصواتهم، وإن اجزتني أخبرتك بباطن أصحابك فردا فردا.

فرد النبي قائلا: صمتا، صمتا! لا تزد. بل قل لي ما ترجو.

فقال: أرجو أن أجاهد في سبيل الله.

يقول القرآن ان صقل القلب يوصل الإنسان إلى مقام بحيث إنه إذا رفعت دونه الحجب ـ كما قال امير المؤمنين (ع) ـ لما زادته يقينا.".
إن ما يرمي إليه القرآن بتعليماته هو تربية الإنسان، مستفيدا من سلاح العلم والعقل، ومن سلاح القلب أيضا.وهو يستعملها بافضل أسلوب، وأرفع طريقة، في سبيل الحق، ذلك الإنسان الذي يجسده في أمثلة حياة أئمتنا وتلامذتهم الصالحون حقا.