معرفة القرآن

إن معرفة القرآن لكل فرد عالم باعتباره عالما، ولكل فرد مؤمن باعتباره مؤمنا، أمر ضروري وواجب.إلاّ إن ضرورة معرفة القرآن لعلماء النفس ولعلماء الاجتماع، تتأتى من حقيقة أن هذا الكتاب كان ذا تأثير على المجتمعات الإسلامية، بل وفي مصير المجتمع البشري برمته.
إن نظرة إلى التاريخ، تؤيد القول بأنه لم يكن لأي كتاب ما كان للقرآن من الأثر في المجتمعات الإنسانية والحياة البشرية(1).ولهذا يدخل القرآن عنوة إلى ميدان علم الاجتماع، ويصبح جزءا من مواضيع بحث هذا العلم.وهذا يعني أنّ إجراء أية دراسة أو تحقيق حول تاريخ العالم خلال الأربعة عشر قرنا الماضيات، ومعرفة المجتمعات الإسلامية على وجه الخصوص، لا يمكن أن يتيسر قبل أن نعرف القرآن.
أما ضرورة معرفة القرآن للمسلم المؤمن، فناشئة من كونه أصل إيمان المسلم، ومنبع دينه وأساس فكره، فما يمنح حياة المسلم حرارتها ومعناها وحرمتها وروحها إنما هو القرآن.
والقرآن ليس كباقي الكتب الدينية التي تطرح سلسلة من المسائل الغامضة فيما يختص بالله والخليقة والتكوين، ومن ثم يتقدم بسلسلة من المواعظ الأخلاقية الساذجة فحسب، بحيث أن المؤمنين لا يرون مندوحة عن اللجوء إلى مصادر أخرى يستقون منها القوانين والأفكار.


(1) من حيث اتجاه الأثر، وهل كان نحو تغيير سير التاريخ باتجاه سعادة البشر ورفاهم، ام باتجاه التفسخ والانحطاط، أو انه بسبب هذا الكتاب ظهرت في التاريخ وثبة وحركة، فسرت في عروق المجتمعات البشرية دماء جديدة، أو انه العكس ذلك موضوع خارج عن نطاق هذا البحث.

إن القرآن يبين أصول المعتقدات والأفكار، والآراء اللازمة للإنسان كفرد "مؤمن" وذي عقيدة، وكذلك يضع أصول التربية والأخلاق والنظام الإجتماعي والأسري، ولم يترك على عاتق السنة أو الاجتهاد سوى ما يتطلبه التوضيح، والتفسير، والتشريح، والاجتهاد احيانا، وتطبيق الاصول على الفروع.لذلك فكل رجوع إلى أي مصدر آخر، يقتضي أوّلا الرجوع إلى القرآن ومعرفته.إذ أن القرآن هو المقياس والمعيار لكل المنابع الأخرى.فالحديث والسنة علينا نقيسهما بمعيار القرآن لكى نرى إن كانا يطابقان القرآن فنتقبلهما وإلا فلا.
إن أهم مصادرنا المقدسة ـ بعد القرآن ـ في الحديث هي "الكتب الأربعة".وهي: "الكافي" و"من لا يحضره الفقيه" و"التهذيب" و"الاستبصار" وفي الخطب "نهج البلاغة"، وفي الأدعية "الصحيفة السجادية".إلا إنها جميعا فروع من القرآن، وليست لها قطعية بتّ القرآن.أي إن اعتبارنا لحديث الكافي، يعتمد على مقدار تطابقه مع القرآن وتعليماته.وعلى ألا يكون بينهما اختلاف.كان الرسول الاعظم (ص) والأئمة الأطهار يقولون: اعرضوا أقوالنا على القرآن، فما لم ينطبق عليه منها، فاعلموا إنه موضوع ومختلق ومنسوب الينا، فنحن لا نقول ما يخالف القرآن.

انواع معرفة القرآن

اما وقد شخصنا ضرورة معرفة القرآن، فقد بقي أن نعرف طرق معرفة هذا الكتاب.
إن لمعرفة كل كتاب ودراسته، عموما طرقا ثلاثة:
الأول: المعرفة السندية او الانتسابية
في هذه المرحلة، نسعى لمعرفة مدى انتساب الكتاب إلى مؤلفه.فلنفترض اننا نريد معرفة ديوان حافظ [الشيرازي] أو خيّام.إن الخطوة الأولى هي أن نرى إن كان ما يطلق عليه اسم ديوان حافظ كله من نظم حافظ، أو إن بعضا منه فقط من نظمه، وإن بعضه الآخر مضاف إليه.
كذلك الأمر بشأن خيام وغيره.
وهنا تبرز قضية تعدد النسخ، وعلى الأخص أقدمها تاريخا واكثرها اعتبارا، فنلاحظ إن أيا من هذه الكتب لا يستغني عن المعرفة والتمحيص.فديوان حافظ الذي طبعه المرحوم القزويني،

إستنادا إلى اكثر النسخ اعتبارا، يختلف اختلافا بينا عن دواوين حافظ المعروفة التي طبعت في ايران أو في بمبي، والتي يحتفظ بها الناس في دورهم.فالدواوين التي طبعت قبل 30 أو 40 سنة تكاد تبلغ ضعفي حجم الدواوين التي يعتمدها الباحثون اليوم.على الرغم من إننا نجد بين الأشعار التي يعتبرها الباحثون منحولة أبياتا لا تقل جودة عن شعره الموثوق.
وعندما ننظر إلى الرباعيات المنسوبة إلى خيام نجد ثمة 200 رباعية تكاد تكون متقاربة المستوى ولا يتعدى ما فيها من اختلاف تلك الحدود المتعارف عليها عند الشعراء.ولكننا كلما تقدمنا تاريخا مقتربين من عصر الخيام نجد أن ما لا يشك في نسبته إلى الخيام من ذلك العدد لا يتجاوز عشرين رباعية.والباقي إما أن يكون مشكوكا في انتسابه إليه، أو أنه لشعراء آخرين حتما.
وعليه، فإن المرحلة الأولى في معرفة كتاب ما هي أن ننظر إذا كان ما بين أيدينا يمكن إسناده إلى مؤلفه أم لا.وإلى أي مدى يصح ذلك.هل إن مستنداتنا تؤيد كل ما بين أيدينا، أم أنها تصح على بعض دون بعض؟ وفي هذه الحالة، ما هي النسبة المئوية لصحة المنسوب إلى المؤلف؟ ثم ما دليلنا على صحة الانتساب، أو على الشك في الانتساب؟.
إن القرآن غني عن هذا النوع من المعرفة، وهو، لهذا السبب، كتاب فريد بابه في العالم القديم، فما من كتاب بين الكتب القديمة يمكن ان تمر عليه قرون طويلة ويبقى مع ذلك لا تناله شبهة أو اعتراضات من قبيل أن تكون السورة الفلانية مشكوكا فيه، أو أن الآية الفلانية موجودة في النسخة الفلانية وغير موجودة في غيرها، ليس مطروحة اساسا.إن القرآن متقدم على النسخ وعلم المعرفة بالنسخ، فليس ثمة أدنى شك في إن الذي أتى بجميع تلك الآيات هو محمد بن عبد الله (ص) على اعتبار أنها معجزة، وأنها كلام الله.وإن احدا لا يستطيع أن يدعي بوجود نسخة مختلفة من القرآن، ولا الزعم باحتمال وجودها.ولم يظهر من المسشرقين أحد يحاول تناول القرآن من هذه الناحية، ليقول إن علينا أن نبحث عن نسخ القرآن القديمة جدا لكي نرى ما فيها وما ليس فيها ولئن كانت كتب مثل التوراة والأنجيل والأفستا، أو مثل "شاهنامة" فردوسي و"گلستان" سعدي وغيرها تستلزم هذه الطريقة، فإن القرآن غني عن كل ذلك.
في هذا الموضوع سبق أن قلنا إن القرآن متقدم على النسخ والعلم بالنسخ، فهو فضلا عن كونه كتابا مقدسا سماويا وينظر إليه أتباعه من هذا المنظور، فانه أقوى دليل وبرهان على صدق دعوى الرسول وأكبر معجزة من معاجزه.

 

ثم إن القرآن لم ينزل دفعة واحدة كالتوراة لتظهر عندئذ مشكلة التساؤل عن النسخة الأصلية، بل تتابع نزول القرآن خلال ثلاث وعشرين سنة.ومنذ اليوم الأول من نزوله أخذ المسلمون يعبون منه مثلما يعب العطشان من الماء الفرات عبا، فكانوا يستوعبون آياته ويحفظونها في قلوبهم.حيث كان المجتمع الاسلامي يومئذ مجتمعا بسيطا وليس عنده كتاب آخر يقرؤه ويحفظه إلى جانب القرآن، فكان يمتاز بخلو الذهن وقوة الحافظةكما إن تفشي الأمية بينهم حملهم على أن يتناولوا معلوماتهم ومعارفهم من بين ما يرون ويسمعون
لذلك فقد ارتسم القرآن على قلوبهم ـ وهو الذي نزل منسجما مع ما لديهم من عاطفة وإحساس ـ ارتسام النقش على الحجر.ولما كان القرآن عندهم كلام الله، لا كلام بشر، فقد راحوا ينظرون إليه بتقديس، ولا يسمحون بأن يتبدل فيه حرف واحد، ولا أن يتغير مكان كلمة واحدة تقديما وتأخيرا، بل كانوا لا يفتأون يتلونه ويرتلونه تقربا إلى الله تعالى.ولا بد ان نذكر ان النبي (ص) قد انتخب منذ الايام الأول عددا من الكتبة عرفوا باسم "كتاب الوحي". هذه ميزة أخرى تضاف إلى مميزات القرآن لم تكن من نصيب أي كتاب أخر.إذ إن تدوين كلام الله منذ البداية يعتبر من جملة الأسباب الرئيسة في حفظه وصيانته من التحريف.
إن من المظاهر الأخرى التي كانت سببا في حسن استقبال الناس للقرآن، هو جانبه الأدبي والفني والرفيع..جانب فصاحته وبلاغته.كانت لقوته الأدبية جاذبية تشد الناس إليه شدا وتحملهم على سرعة استيعابه، بخلاف ما هو عليه الأمر بشأن كتب الأدب الأخرى، مثل ديوان حافظ وأشعار مولوي وغيرهما، فقد كان المولعون بها لا يتحرجون من التلاعب بما فيها لكي يزيدوها اكتمالا على ما يدعون.
إلا أن أحدا لم يجز لنفسه أن يمد يدا في القرآن، وقد نزل قوله تعالى: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين)(1)
وآيات غيرها تبين وخامة التقول على الله سبحانه، وعلى ذلك، وقبل أن يطرأ أي تحريف على هذا الكتاب السماوي، تواترت آياته حتى بلغت مرحلة لم يعد بالإمكان معها حدوث أي تصحيف أو تحريف أو انكار.ولهذا فلسنا بحاجة إلى أن نبحث هذا الجانب من جوانب القرآن، كما لا يحتاج ذلك أي خبير متضلع في القرآن.بيد أننا لا بد أن نتطرق إلى نقطة بهذا الخصوص، وهي إنه على أثر سرعة انتشار الإسلام ودخول الناس فيه أفواجا، وبسبب ترامي اطراف بلاد المسلمين وبعدها عن المدينة المنورة، مركز الصحابة وحفظة القرآن، فقد ظهر احتمال وجود خطر يهدد القرآن، وعلى الأخص في المناطق النائية، حيث يمكن أن يقوم بعضهم من باب التعمد أو السهو، بإضافة أو حذف أو تغيير في نسخ القران هناك.غير أن


(1)الحاقه: 44 ـ 46.

ذكاء المسلمين وحسن تقديرهم للأمور حال دون وقوع هذا الإحتمال، إذ إنهم تنبهوا إلى ذلك مبكرا في النصف الأول من القرن الأول الهجري، وأدركوا أن عليهم أن يدرأوا خطر أي تغيير متعمد، أو غير متعمد في القرآن، فاستفادوا من حفظته ومن الصحابة.
وأرسلوا نسخا مصدقة من المدينة إلى تخوم الإسلام البعيدة، وبذلك وقفوا بوجه أي تخريب من هذا القبيل، وعلى الأخص بوجه اليهود الذين كانوا أساتذة فن التزوير والتحريف المشهورين.

الثاني: المعرفة التحليلية

في هذه المرحلة يكون تحليل الكتاب هو موضع الدراسة، أي دراسة ما يشتمل عليه الكتاب من مطالب، وما يقصد إليه من أهداف، ما هي نظرته إلى الكون؟ وإلى الإنسان؟ وإلى المجتمع؟ ما هي طريقة عرضه لتلك المطالب وأسلوب معالجته إياها؟ أينطوي على منظور فلسفي، أو كما نقول اليوم، أفيه منظور علمي؟ أينظر إلى الأمور بعين العارف، أم أن له أسلوبه الخاص؟ وثمة سؤال آخر: أيحمل هذا الكتاب رسالة ما موجهة للبشرية؟ فاذا كان الجواب بالإيجاب، فما هي تلك الرسالة؟
في الواقع إن المجموعة الأولى من الاسئلة تتعلق بوجهة نظر الكتاب في الكون والانسان والحياة والموت، أو بعبارة أشمل تتعلق بوجهة نظره الكونية، وهو ما يصطلح عليه فلاسفتنا اليوم بحكمته النظرية.أما المجموعة الأخرى من الأسئلة فتتعلق بما إذا كان الكتاب يعرض خطة لمستقبل الإنسان، وعلى أي طراز يريد أن يبني الإنسان والمجتمع؟ وهذا ما نطلق عليه اسم: رسالة الكتاب.
على كل حال، هذا الضرب من المعرفة يخص المحتوى، ويمكن إخضاع أي كتاب إلى هذه المعرفة سواء أكان كتاب "الشفاء" لابن سينا، أو ديوان "گلستان" لسعدي.
وقد نجد كتابا ليس فيه (منظور) ولا (رسالة) أو قد يكون له (منظور) بغير رسالة، أو قد يضمهما كليهما.
اما من حيث معرفة القرآن معرفة تحليلية، فينبغي علينا أن نعرف المسائل التي يتناولها وكيفية تناوله إياها، وكيف تكون استدلالاته ومجادلاته في مختلف المواضيع.
وإذا كان القرآن حارس الإيمان ومحافظا له، ورسالته رسالة الايمان، فهل ينظر إلى العقل بعين الرقيب المنافس محاولا صد هجماته، أو انه بالعكس ينظر دائما إلى العقل بعين الحامي والمدافع محاولا الاستعانة به؟ هذه الاسئلة، ومئات غيرها مما يطرح خلال المعرفة التحليلية، هي التي تقودنا إدراك ماهية القرآن.

 

معرفة الاصل

في هذه المرحلة، وبعد الاطمئنان إلى نسبة الكتاب إلى مؤلفه، وبعد التحليل التام لمحتواه، علينا أن نبدأ البحث لنعرف إن كانت محتويات الكتاب ومطاليبه من إبداعات فكر المؤلف نفسه، أم إنها مدينة إلى افكار الآخرين.
ففيما يتعلق بديوان حافظ، مثلا، وبعد الانتهاء من مرحلتي المعرفة المستندية والمعرفة التحليلية، علينا ان نتساءل إن كانت هذه الافكار والآراء التي أفرغها حافظ في قوالب الكلمات والجمل والابيات، وعبر عنها بلغته الخاصة، قد ابتدعها بنفسه، أم إن ابوتّه لها انما تقتصر على الألفاظ والكلمات وجمالها الفني فحسب، وإن الأفكار والآراء تخص غيره من الناس؟ وبعبارة اخرى إننا بعد ان نتأكد من اصالة حافظ الفنية، ينبغي ان نتأكد من اصالته الفكرية ايضا.(1)
هذا النوع من المعرفة بخصوص حافظ أو أي مؤلف آخر هو معرفة أصول أفكار المؤلف وآرائه.وهذه المعرفة فرع يتفرع من المعرفة التحليلية.أي إننا يجب أولا أن نعرف محتوى أفكار المؤلف بدقة، ومن ثم نتوجه إلى معرفة أصوله، وبغير هذه الطريقة يكون حاصل عملنا مشابها لما يقوم به بعض المؤلفين في كتابة تاريخ العلوم بدون أن يكون لهم أي علم بها.أو مثل بعض المؤلفين الذين يكتبون في الفلسفة، كأن يكتبوا عن ابن سينا وأرسطو ويحاولون إيجاد ما يتشابهان فيه وما يختلفان، ولكنهم مع الأسف لا يعرفون ابن سينا ولا أرسطو.
إنهم ما إن يجدوا عندهما بعض الالفاظ المتشابهة، حتى يأخذوا بإصدار الأحكام، مع إن عليهم عند المقارنة أن يتعمقوا في فهم الفكرة، وإن التعمق في إدراك عمق افكار اشخاص مثل ابن سينا وأرسطو ليستغرق عمرا بأكمله، وليس ما يقال غير ذلك سوى تخمين وخبط عشواء.
عند بحث القرآن ومعرفته، وبعد أن نكون قد أنجزنا مطالعتنا التحليلية، يأتي دور المقارنة والمعرفة التاريخية.
وهذا يعني إن علينا أن نقارن القرآن بكل محتوياته مع كتب أخرى كانت موجودة في عصره، وعلى الاخص الكتب الدينية.


(1) إذ يمكن أن يكون حافظ مجرد فنان لا مفكرا ولا عالما، ولكنه أيضا يمكن أن يكون في الوقت نفسه فنانا وعالما معا. إنما الذي نسلم به هو أن حافظا كان عالما قبل أن يكون شاعرا، وكان عارفا بالمفكرين الآخرين عن طريق كتبهم، كالشعراء والأدباء والمفسرين والفقهاء، والمتصوفين على وجه الخصوص، ولقد كان أكثر علمه بهم عن طريق أساتذته. إنما نحن اليوم نعرف حافظا شاعرا أكثر من كونه عالما، بينما كان في أيامه عالما وإن نظم الشعر أحيانا، ففي الكتب التي تم تأليفها في زمانه وفيها ذكر له، نجده موصوفا بما يوصف به العلماء لا الشعراء.
فاذا كان هذا العالم واقفا على آداب زمانه، ومطلعا على سير العلماء وسلوكهم، ومتعمقا في معرفة متصوفة عصره، بحيث إنه استطاع أن يضع كل ذلك في الشعر بأفضل مما يستطيعه أي شاعر آخر، فهل كان عرضه لتلك الافكار متأثرا بأحد ممن سبقه؟ أم إن ذلك كان من ابتداعه وابتكاره؟ وهل إن لمحي الدين الأندلسي، الذي يعد أبا التصوف الاسلامي، أي أثر على حافظ؟ أفهل يستبعد أن يكون لابن الفارض المصري ـ وهو اسبق من حافظ، ولا يقل مكانة في الأدب الصوفي العربي عن مكانة حافظ في الادب الفارسي ـ تأثيره في التكوين الشكلي لأفكار حافظ؟ إن وظيفة (معرفة الأصل) هي البحث في أمثال هذه المسائل وإيجاد الإجابة عليها.

ولأجراء هذه المقارنة لا بد من توفر جميع الشروط، مثل مدى ارتباط شبه الجزيرة العربية بالمناطق الأخرى، ونسبة الذين كانوا يعرفون القراءة والكتابة يومئذ في مكة...الخ.
ثم نقوم بالتقويم والتقدير.
ترى هل كل ما وجد في القرآن موجود ايضا في كتب اخرى؟ فاذا وجد، فما هي نسبة وجوده؟ وهل إن المطالب الموجودة في الكتب الأخرى تتخذ شكل الاقتباس أم إنها مستقلة، أم إنها لا تعدو أن تكون مجرد تصحيحات وتوضيحات لما قد يكون فيها من تحريف؟
اصالات القرآن الثلاث
عندما نقرأ عن القرآن تتضح لنا "اصالات القرآن الثلاث":
اولاها: اصالة الانتساب، أي إننا بغير أن يخامرنا أدنى شك، أو أن نحتاج إلى دراسة النسخ القديمة، نكون واثقين بأن ما يقرأ اليوم باسم القرآن المجيد، هو الكتاب عينه الذي نزل على محمد بن عبد الله (ص).
والاصالة الثانية: هي اصالة المحتوى، أي إن المعارف القرآنية ليست ملتقطة ولا مقتبسة، بل هي مبتكرة.والتحقيق في هذا الجانب تتكفل به المعرفة التحليلية.
والإصالة الثالثة: هي الإصالة الآلهية، أي إن هذه المعارف قد فاضت مما وراء أفق الرسول (ص) الذهني والفكري، وإنه لم يكن سوى ناقل هذا الوحي ومبلغ هذه الرسالة، وهذا ما تتكفل به معرفة أصل القرآن.
ان معرفة الأصل، أو بعبارة أخرى معرفة إصالة المعارف القرآنية، مبنية على النوع الثاني من المعرفة.ولذلك فإننا سنبدأ من المعرفة التحليلية، أي إننا سنبدأ ببحث محتويات القرآن وماهية المسائل المطروحة فيه، والمسائل التي تنال حظا أوفر من التوكيد، وطريقة عرض تلك المسائل.
فاذا استطعنا في المعرفة التحليلية أن نفي تلك المسائل والمطالب حقها، وأن نزداد معرفة بالمعارف القرآنية، نكون، كما قلنا، وصلنا إلى اصالة هي اهم اصالات القرآن، وهي (الاصالة الالهية) أي كون القرآن معجزة.

 

 

العقل في نظر القرآن

تكلمنا في الفصل السابق باختصار على لغة القرآن، وذكرنا إن القرآن يستعين بلغتين في إبلاغ رسالته، وهما لغة الاستدلال المنطقي، ولغة الإحساس. ولكل من هاتين اللغتين مخاطبوها المختصون.فالاولى تخاطب العقل. والثانية تخاطب القلب. في هذا الفصل سوف نتناول بالبحث وجهة نظر القرآن في العقل.
علينا أن نعرف إن كان القرآن يعتبر العقل سندا، أو، كما يقول علماء الفقه والاصول، هل العقل حجة؟ أى إذا كان المكتشف حقا من مكتشفات العقل الصحيحة.
فهل ينبغي على البشر أن يحترموه وأن يعملوا بموجبه أم لا؟ فاذا عمل به وارتكب في ذلك أحيانا خطأ ما، فهل سيعذره الله على ذلك أم سيعاقبه؟ وإذا لم يعمل به، فهل سيعاقبه الله على عدم العمل به مع إن عقله قد حكم بذلك، أم لا؟
دلائل كون العقل حجة
إن كون العقل حجة وسندا في نظر الإسلام أمر ثابت، كما إن علماء الإسلام جميعا، ومنذ البداية وحتى الآن ـ عدا مجموعة صغيرة ـ لم يشكوا في سندية العقل، واعتبروه أحد مصادر الفقه الاربعة.
1- الدعوة إلى التعقل في القرآن
بما اننا نبحث في القرآن فلا بد لنا من الرجوع إلى القرآن نفسه للحصول على الدليل الذي يثبت كون العقل حجة.إن القرآن يضع توقيعه على مستند سندية العقل بطرق مختلفة. وأوكد: بطرق مختلفة. فمن الآيات يمكن أن نعد ستين أو سبعين آية وردت في القرآن تشير إلى أن موضوعا ما قد طرح لكي يتدبره العقل. ولنضرب مثلا احدى الآيات العجيبة في القرآن:

 

(إنّ شرّ الدّواب عند الله الصّم البكم الذين لا يعقلون)(1)

من الواضح بالطبع، إن المقصود بالصم البكم ليس العضوي منهما، بل المقصود هو الجماعة من الناس الذين لا يريدون أن يسمعوا الحقيقة، وإذا سمعوها لا يعترفون بها بألسنتهم.
فالاذن التي تعجز عن سماع الحقائق، ولا تعجز عن سماع لغو الكلام الفارغ، لهي في القرآن أذن صماء.واللسان الذي يقتصر على الشقشقة والهراء، لهو في القرآن لسان أبكم.
أما "الذين لا يعقلون" فهم الذين لا ينفعهم تفكيرهم. وهؤلاء لا يراهم القرآن جديرين بصفة (الإنسان)، فادرجهم في سلك الحيوانات والدواب، فيخاطبهم بهذا المنظور(2)
وفي اية أخرى تطرح مسألة التوحيد، بقوله:

(وما كان لنفس أن تؤمن إلاّ بأذن الله)(3)

وعلى اثر طرح هذه المسألة الغامضة التي لا يتسع بعض القول لدركها. تستأنف الآية قولها:

(ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون)(4)

في هاتين الآيتين اللتين اوردتهما مثالين، يدعو القرآن إلى إعمال العقل بدلالة التطابق، حسب تعبير أهل المنطق. هنالك آيات كثيرة أخرى يؤكد فيها القرآن سندية العقل بدلالة الالتزام(5) اي إنه يتكلم بأمور يستحيل قبولها دون القبول بسندية العقل وحجته. فهو مثلا يطلب من الخصم استدلالا عقليا، حيث يقول:

(قل هاتوا برهانكم).(6)

أي إنه يريد أن يبين، بدلالة الالتزام، إن العقل حجة وسند. أو إنه لكي يثبت وحدة الوجود صراحة يعتمد القياس المنطقي:

(لو كان فيهما الهة إلاّ الله لفسدتا)(7)


(1)سورة الانفال: 22.
(2)يورد سعدي هذا المضمون في بيت شعر جميل:


به نطق آدمى بهتر است از دواب

 


دواب از تو به گر نگوئي صواب

"الإنسان خير من الدواب بنطقه لكن الدواب خير منك ان لم تقل صوابا"..
(3)سورة يونس: 100
(4)سورة يونس: 100.
(5)عندما يقودنا وجود امر إلى امر آخر، نطلق على ذلك اسم الدلالة، والدلالات انواع شتى، ومنها الدلالة اللفظية، وهذه تتخذ صورا ثلاثا:
الأولى: دلالة التطابق أو المطابقة، أي ان اللفظة تدل على كل معناها، كأن نقول: سيارة ونقصد كل اجزائها.
الثانية: دلاله التضمين، أي إن اللفظة تدل على جزء من المعنى، كأن نقول: السيارة هنا، ونفهم من ذلك ان هيكلها أو محركها موجود ايضا.
الثالثة: دلالة الالتزام، أي إن في اللفظة دلالة على أمر خارج معناها، كأن نسمع اسم حاتم فيخطر لنا جوده وكرمه..
(6)سورة البقرة:111.
(7) الانبياء 22

 

 

 

وهنا يقيم القرآن قضية شرطية، فقد استثنى المتقدم وأهمل المتأخر. إن القرآن، بتوكيده العقل، يريد إبطال أقوال بعض الأديان التي تقول إن الإيمان غريب على العقل وانه لكي يؤمن المر عليه ان يعطل عمل العقل، وأن يكتفي بعمل القلب، لكي يدخله نور الله.
2ـ الاستفادة من العلة والمعلول.
إن من الأدلة الأخرى على قول القرآن باصالة العقل هو تبيان بعض المسائل باستخدام العلية والمعلولية.
فالعلة والمعلول، وأصل العلية، قواعد للفكر العقلاني، وهذا ما يحترمه القرآن ويعمل به.
وعلى الرغم من أن القرآن كلام الله، وأن الله هو خالق العلة والمعلول، وأن الكلام يدور على ما وراء ما تقع العلة والمعلول دونه، فانه مع ذلك لا يغفل عن ذكر السببية والمسببية لهذا العالم، ويضع الوقائع والظواهر تحت سيطرة هذا النظام.
من ذلك الآية التي تقول:

(إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم)(1)

وهو بهذا يريد أن يقول إنه مع إن كل المصائر بيد الله، فإن الله يحمّل البشر مصائرهم بسبب اختيارهم وتصميمهم وعملهم، ولا يقوم بعمل جزافا، بل حتى المصائر لها نظام، ولن يغير الله مصير مجتمع على عواهنه وبغير بديل، إلا إذا غير المجتمع ما به، كأن يغير نظامه الأخلاقي أو الأجتماعي...
والقرآن من ناحية أخرى يحث المسلمين على النظر في احوال الاقوام السالفة ومصائرها، يستخلصون منها الدروس والعبر.من البديهي إنه لو كانت مصائر الاقوام والملل وانظمتها قد سارت خبط عشواء، ومصادفة.أو لو كانت تلك المصائر مفروضة من فوق، لما كان ثمة داع لدرس أو عبرة.فبهذا التوكيد يريد القرآن أن يشير إلى أن مصائر الاقوام تتحكم بها أنظمة واحدة، لو تشابهت ظروف مجتمع ما مع مجتمع آخر لتشابه مصيراهما.
وقد جاء في آية أخرى:


(1)سورة الرعد: 11.

(فكأيّن من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها).(1)
نجد في كل هذا ان قبول النظم بدلالة الالتزام يؤيد النظام المبني على العلة والمعلول. والقبول بحجة العلة والمعلول، قبول بسندية العقل.
3 ـ فلسفة الاحكام
من الدلائل الاخرى على القبول بحجة العقل في نظر القرآن، هو القول بوجود فلسفة للدساتير والاحكام.أي إن العلة في وضع الدستور هي المصلحة. يقول علماء الاصول ان المصالح والمفاسد تتدرج في سلسلة علل الاحكام.فمثلا، يقول القرآن: اقيموا الصلاة.
ثم يذكر في مكان آخر فلسفة هذا الأمر:

(إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر).(2)

فيشرح الأثر الروحي للصلاة، وكيف أنها ترتفع بالانسان عن الفحشاء، فيبتعد عن المفاسد والموبقات.أو أنه يذكر الصوم، ويأمر الناس به، ثم يقول:
(كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتّقون).(3)
وهكذا الأمر فيما يتعلق باحكام اخرى، كالزكاة والجهاد، فقد بين القرآن في جميع الموارد مردوداتها الفردية والاجتماعية.وعليه فإن القرآن يمنح هذه الاحكام جانبها الدنيوي، على الرغم من كونها سماوية ومن الأعلى، ويطلب من الإنسان أن يتأملها، ويتفكر فيها، لكي يستبين له كنه الامور، ولئلا يحسبها مجرد سلسلة من الرموز أسمى من فكر البشر.

4ـ مكافحة شطحات العقل

ثمة دليل آخر، اقوى مما سبق، على اصالة العقل في نظر القرآن، وهو مكافحة القرآن لشطحات العقل.ولكي نوضح هذا الأمر لا بد لنا من إيراد مقدمة قصيرة.
لا شك ان فكر الإنسان يقع في الخطأ في كثير من الاحيان، وهذا أمر معروف وشائع، ولكنه ليس مقصورا على العقل، فالحواس والمشاعر تخطئ أيضا، وقد أحصوا لحاسة البصر عشرات ا لانواع من الاخطاء.ففيما يتعلق بالعقل، كثيرا ما يتفق ان يستدل الإنسان على امر، ويتوصل إلى نتيجة، ومن ثم يتضح ان استدلاله كان خطأ من أساسه.وهنا يطرح هذا السؤال نفسه: أيجب علينا ن نلغى عمل العقل بسبب خطأه هذا، أم ينبغي أن نوجد وسائل وأسبابا تحول دون العقل وارتكاب الخطأ؟ في الرد على هذا السؤال يقول السفسطائيون إن الاعتماد على العقل غير جائز، بل إن الاستدلال لغو لا طائل وراءه.ويرد الفلاسفة عليهم ردودا


(1) سورة الحج: 45 و46.
(2) سورة العنكبوت: 45.
(3)سورة البقرة: 183.

مفحمة، قائلين، مثلا، إن الحواس تقع ايضا في الخطأ كالعقل، غير إن أحدا لم يحكم بتعطيل الحواس وبعدم استعمالها.ولما لم يكن بالامكان الاستغناء عن العقل، اضطر المفكرون إلى الحيلولة دون وقوعه في الخطأ.
وفي غضون بحثهم في هذا الموضوع لاحظوا أن كل استدلال يتكون من قسمين: المادة، والصورة، كما هي الحال عند تشييد عمارة، إذ نكون بحاجة إلى السمنت والحديد والجص الخ..(المادة) وإلى هيكل البناء وشكله (الصورة).ولكي تبنى العمارة على خير ما يكون، علينا أن نهئّ أفضل المواد، وأجمل خريطة مكتملة لا نقص فيها.كذلك الأمر في الاستدلال، فلكي يكون صحيحا لا بد أن تكون مادته وصورته صحيحتين.للتوصل إلى صورة صحيحة للاستدلال، ظهر منطق ارسطو، أو المنطق الصوري.وكانت وظيفة المنطق الصوري هذا أن يبين صحة صورة الأستدلال، أو عدم صحتها، فيعين العقل لكيلا يخطئ في صورة الإستدلال(1)
إن القضية الرئيسة في ضمان صحة الإستدلال هي إن المنطق الصوري وحده لا يكفي لأثبات صحة الإستدلال.فهذا المنطق إنما يضمن جانبا واحدا، ولكي نطمئن إلى صحة مادة الإستدلال لا بد من اللجوء إلى منطق المادة أيضا، أي إننا نحتاج إلى معيار نقيس به المادة الفكرية كذلك.
لقد سعى علماء من أمثال "بيكن" و"ديكار" لوضع منطق لمادة الإستدلال، مثلما وضع أرسطو منطقه لصورة الإستدلال. ولقد نجحوا في ذلك إلى حد ما، ولكنهم لم يبلغوا به الكمال الذي اتصف به منطق أرسطو.وإن استطاع الإنسان أن يستعين به لدرء أخطاء الإستدلال. ولكن الذي قد يثير عجبكم هو أن القرآن قد عرض بهذا الخصوص أمورا لها على مقترحات أمثال ديكارت فضل التقدم وتقدم الفضل.


(1)من جملة الأخطاء التي ظهرت منذ عدة قرون في دنيا العلم وكانت سببا في كثير من سوء الفهم، هو اعتقاد بعضهم بأن وظيفة المنطق الأرسطي هي الحكم على صحة مادة الاستدلال أو عدم صحته ايضا. ولما لم يكن هذا من وظائف المنطق الأرسطي، فقد أفتوا بعدم صلاحية هذا المنطق إطلاقا. وإنه لمما يؤسف له أن هذا الخطأ ما يزال يتكرر في زماننا هذا، وهو أمر يدل على إن المفتين لم يعرفوا منطق أرسطو ولم يفهموه.لوعدنا إلى مثالنا السابق عن العمارة، لنا أن نقول إن مثل وظيفة منطق أرسطو في تعيين صحة الاستدلال، كمثل الشاقول في تعيين استقامة الجدار. إن الشيء الوحيد الذي يكشفه لنا الشاقول هو استقامة الجدار، أو اعوجاجه. إن منطق أرسطو، الذي اكتمل على يد علماء آخرين وازداد غنى، لا يصدر حكمه إلا على صورة الاستدلال، لا على مادته.