القرآن وحركة الفكر

  جعل الخالق تبارك وتعالى للإنسان قلباً ليفقه به وعقلاً ليفكر به، وهو رأس ماله الأكبر للحصول على السعادة والوصول إلى الكرامة، وبهذا القلب والعقل والفقه والفكر يمتاز عن سائر الكائنات ويتسامى شرفاً وسؤدداً على جميع الموجودات، لأنّه حين يحرّك عقله ويتأمّل ويتدبّر ويتفكّر سوف يعرف الحقيقة ويختار طريق الصواب والرشد -لأنّ فيه نجاته وسلامته- ويسلك نهج الصعود لا الهبوط والمجد لا التسافل .

       يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): "الفكر مرآة صافية " [1] . فهو يجعل الحقائق أمام المتفكّر واضحة جليّة، كما تكون الأشياء واضحة جليّة من خلال المرآة. ويقول (عليه السلام): "رحم الله امرأً تفكّر فاعتبر واعتبر فأبصر " [2] . فالتفكر طريق إلى الإعتبار والإستبصار. ويقول (عليه السلام): "ولو فكّراو في عظيم القدرة وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق وخافوا عذاب الحريق ولكن القلوب عليلة والبصائر مدخولة. ألا ينظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقه وأتقن تركيبة وفلق له السمع والبصر وسوّى له العظم والبشر"، ثم تحدّث الإمام (عليه السلام) عن النملة وعجيب أمرها وبديع صنعها مع أنها صغيرة الجثة ولطيفة الهيئة ثم قال: "ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلّتك الدلالة إلاّ على أنّ فاطر النملة هو فاطر النخلة لدقيق تفصيل كلّ شيء وغامض اختلاف كلّ حي... فانظر إلى الشمس والقمر والنبات والشجر والماء والحجر واختلاف هذا الليل والنهار وتفجُّر هذه البحار وكثرة هذه الجبال وطول هذه القلال وتفرُّق هذه اللغات والألسن المختلفات فالويل لمن جحد المقدِّر وأنكر المدبّر " [3] .

       ولأنّ التفكر هو بوّابة الرشاد والطريق إلى الإعتبار والإستبصار والتمسُّك بالحق نلاحظ أنّ القرآن الكريم وعبر كثيرٍ من آياته يسعى لتحريك الفكر وتنبيه العقل ودعوته للتأمّل واستلهام الهدى من الآيات والعبر، عبر مختلف الطرق، منها التساؤلات ومنها المقارنات ومنها رسم الصور المتنوّعة بشكلٍ مثير ومؤثّر وملفت وجذّاب .

       وإليكم -أعزّائي القُرَّاء- بعض الصور التي يثير عبرها الذكر الحكيم فكرنا ويجعله ينتفض ويتحرّك ويتأمّل ويتفكر، هذا طبعاً إذا لم نحكم عليه بالجمود والخمود ولم نجعله عاطلاً باطلاً .

1- صورتان من التاريخ

أ- في سورة البقرة (آية: 285) يتحدّث القرآن عن الحوار الذي جرى بين إبراهيم (عليه السلام ) ونمرود {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ } ( البقرة: 285). وإنّنا نلاحظ بوضوح قوّة البرهان النبوي والحُجَّة الإبراهيمية، ومع ذلك أيضاً فإنّ قوله (عليه السلام ): { إِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ } يجعل فكرنا متأمّلاً متفكراً بل ومشدوهاً ومتصوّراً لمدى عظمة القدرة الإلهية التي أبدعت أروع إبداع وأوجدت أعجب إيجاد تلك الأفلاك السيّارة الضخمة .

ب- وفي سورة هود يتحدّث القرآن عن نوح (عليه السلام) وقومه ونزول العذاب وفوران التنّور وركوب النبي ومن معه في السفينة وهيجان الأمواج الهادرة مغرقةً جميع الكفرة ثم يقول راسماً صورةً لافتةً للنظر مثيرةً للفكر { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلاَ تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ، قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنْ الْمُغْرَقِينَ } [ هود: 42-43 ].

       إن هذه اللقطة الأخّاذة والصورة الجذّابة تشدُّ الفكر إليها شدّاً، سواءً حين نسمعها أو نقرأُها أو نتذكّرها، لما تحمله من عنصر الإثارة البالغة الذي يلمسه كلاُّ ذي شعور ويحسُّ به كلُّ ذي قلبٍ وسمعٍ ونظر .

       إنّ الآيتين الكريمتين تبيّنان عدالة الله الصارمة وجزاءه الحق الدقيق الذي لا يستثني أحداً ولا يحابي مخلوقاً حتى وإنْ كان ابنَ نبي وابن رسولٍ من أُلي العزم العظام! وهذا ما يجعلنا نتفكّر تفكيراً عميقاً، خوفاً منّا على أنفسنا، فإذا كان أبناء الأنبياء لا يفلتون من عدل الله ولا يستطيعون فراراً من حكومته فهل سينجو أمثالنا إذا ما تجاوزنا الحدود وعصينا خالقنا؟ !!

2- صورة من دمار الأوّلين

       يقول الله تعالى مبيّناً عاقبة قوم ثمود بعد أن عقروا الناقة : { فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ، وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِثَمُودَ } [ هود: 66-68 ].

       ياله من تصوير بديع عجيب مؤثّر غايةَ التأثير، منبّه للعقل وموقظ للفكر، أُنظرْ إلى أيِّ مصيرٍ أسود وعاقبة وخيمة يسوق الإنسانُ نفسه حيثُ يكفر بربه وخالقة ويركب مركب العناد والإصرار والإستكبار ويعصي رسل الله الكرام فيحلُّ به الخزي وينزل بساحته العذاب ويا لبُعده عندئذ عن المولى الكريم ربّ الأرض والسماء، وأين الغرور الدنيوي؟ لقد تركهم وتركوه فكأنّهم لم يعيشوا في هذه الدنيا ولم يتمتعوا بنعيمها الزائل { كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا } ، فأيُّ عاقل يرضى بهكذا عاقبة؟ !

       هكذا يصوّر القرآن حاثة هلاك قوم ثمود داعياً لنا إلى التفكر وأخذ العبرة.. قبل حلول الندامة والحسرة .

       وكذلك يدعونا لأخذ العبرة من جميع الأقوام المدمَّرة، والذي ر يكون -أي أخذ العبرة- إلاّ بعد التعقُّل والتفكّر، فيقول : { فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [ الحج: 45-46 ].

3- صورة من عالم الطبيعة

       ما أكثر صور الطبيعة التي رسمتها آيات الكتاب بفنٍّ بديع وإتقانٍ عجيب، بالضبط كما هي عليه من الإبداع و الروعة والإتقان تكويناً، وما ذلك إلاّ لإحياء الفكر وإنهاض العقل ليشاهد الحقائق ويعمل وفقها، ولذا يروى أنّه لمَّا نزلت الآيات من آخر سورة آل عمران : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ...} [ آل عمران: 190-191]. قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): "ويل لمن لا كها بين فكيه ولم يتأمّل ما فيها " [3] . إذن من الضروري علينا إعمال الفكر والنظر فيما حولنا من الآيات حتى نهتدي من خلالها إلى الحق ونسلك طريق الرشد المؤيّد من قِبَل العقل والشرع .

       ومن صور الطبيعة المحيية لفكر المتفكرين نختار الصورة الرائعة التي رسمها القرآن في الآيات الأُولى من سورة الرعد : { وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ الرعد: 3-4 ].

       إنّ الآية القرآنية تجعل التأمل يدبُّ في فكر القارئ ويسري في روحه، فهذه الرواسي(4) والأنهار لماذا جُعلت على الأرض؟ إنّما لحاجة الأرض ومن يعيش عليها فالرواسي بها تثبت الكرة الأرضية ولا تميد والأنهار فيها ماء الحياة لكل إنسان وحيوان ونبات، وبالماء تحيى الأشجار المتنوّعة التي تقدّم للناس ألوان الثمار المختلفة شكلاً ولوناً وطعماً، أو فائدة!! أَوَ ليس هذا من العجائب بل من أعجب العجائب؟! فكيف حدث هذا التنوّع وهي جميعاً تُسقى بماءٍ واحد؟ !

4- صور من عالم الآخرة

       إنّ الآيات التي تصوّر المصير الأُخروي ليس فقط تحرّك العقول بل إنها ولما تنطوي عليه من الهول العظيم تجعل أفكار أولي الألباب تطير خوفاً وفزعاً .

       وفيما يلي بعض الصور عن العذاب الأُخروي التي رسمها القرآنُ أساساً لتحريك العقل وتنبيه الفكر وإيقاظ الغافل عسى أن يبصر طريق النجاة .

[m ]{ وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ، تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ، وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ، فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ } [ الملك: 6-11 ].

       { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ، لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ، وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ، وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ، لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } [ الزخرف: 74-78 ].

       { وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ، وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } [ فاطر: 36-37 ].

       بالله عليكم أَو ليس هذه الآيات لو أُحيي بها الأموات لما كان عجباً؟ فكيف نتحمّل نحن أن نسمع قوارع هذه الآيات وعظيم نذيرها؟ أَوَ ليست تؤثّر في نفوس المؤمنين أشد تأثير وتأخذ بألبابهم لما يسمعون من هول العذاب الخالد؟

5- صورة عن القرآن

       إنّ القرآن يضرب الأمثال وهي تحرّك الفكر لدى التوقُّف عندها ومحاولة فهمها، بل إنّها لا تُفْهَم ولا يدرك معناها إلاّ عندما نحرّك فكرنا ونُعمل عقلنا .

وإليك واحد من تلك الأمثلة :

       { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الحشر : 21].

       إنّ ذلك يجعلنا نتفكّر فإذا كان الجبل يتأثّر بالقرآن لو أُنزل القرآن عليه فما بالي أنا لا أتأثر؟! وهذا يدعونا لمراجعة حساباتنا ونقد أنفسنا والسعي إلى إصلاحها .

_______________

الهوامش

[1] نهج البلاغة، شرح الشيخ محمد عبده، حكمة 4، ص 663 .

[2] نفس المصدر، خطبة 103، ص 252 .

[3] تفسير مجمع البيان، للطبرسي، ج2، ص 698 .

[4] أي الجبال .