الشخصية الرسالية ومواجهة التحديات.. تأملات في سورة يوسف

صحيح أن الرسالة الإسلامية هي الرسالة الخاتم التي نسخت سائر الأديان ومختلف الشرائع، وصحيح أن نبيها محمد بن عبدالله (ص) أُرسل مبشراً بدين سماوي عالمي يعتنقه الإنس والجان في كل زمان ومكان، وصحيح أن معجزة هذا الدين (القرآن الكريم) جاءت شاملة وأبدية.. صحيح كل ذلك، ولكنها لم تلغِ دور الأنبياء والصالحين، ولم تنسخ الحاجة إليهم .

فقد جاء القرآن الكريم زاخراً بقصصهم ومواقفهم الرسالية المشرفة، فبعد أن يقص الله سبحانه وتعالى في سورة الأنعام شيئاً من خبر أبي الأنبياء إبراهيم (ع) ويثني على عددٍ من الأنبياء؛ يوجه الخطاب إلى الرسول

الأمي (ص) آمراً إياه بالاقتداء بهدى الأنبياء الذين سبقوه: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده }(

1).

ومن ذلك نفهم أن الباري عز وجل حين أتى في سور كتابه الكريم بقصص الأنبياء والصالحين، وكذلك بقصص المفسدين والطالحين، لم يكن يستهدف من وراء ذلك مجرد تسلية الرسول المصطفى (ص) وترفيه من معه من المؤمنين، وإلا لكان الأولى جلب أساطير وحكايات خيالية أو قصص أكثر تشويقاً. كلا .. فثمة آية قرآنية تبين أهداف القرآن الكريم من سرد هذه القصص، إذ يقول جل ثناؤه في خاتمة سورة يوسف: {لقد كان في قصصهم عبرةٌ لأولي الألباب ما كان حديثاً يُفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيءٍ وهدىً ورحمةً لقومٍ يؤمنون}(2 ).

فهذه الآية المباركة تؤكد على أن في قصص القرآن موعظة توجب الاعتبار لمن يملكون العقول الكاملة والواعية، وأن ما جاء في القرآن ليس حديث مفترى أو خبر مكذوباً، بل هو حديث واقعي له تصديق وتأييد في الكتب السماوية السابقة، وفيه تفصيل وتبيان لكل ما يحتاجه المرء، وهو دليل هدى يضيء للناس دربهم ويبعدهم عن سبل الضلال، وهو رحمة ولطف وبركة ينعمها الله على من آمن وصدق بما جاء فيه .

ومن هذا البعد في الرؤية، فإننا نسلط الضوء -هنا- على واحدٍ من أبطال تلك القصص القرآنية، وهو نبي الله يوسف بن يعقوب (ع). و"لعل سورة يوسف هي السورة الوحيدة من السور الطوال في القرآن، تتمحض لسرد قصة واحدة تستغرق السورة بأكملها، دون أن يتخللها نثر غير قصصي: عدا الآيات التسع التي تنتهي السورة بها: وهي - في الواقع- تعقيب على القصة ذاتها .

ومن الواضح، أن تخصيص سورة بأكملها لقصة واحدة: يتحرك من خلالها بطل رئيسي واحد، ثم أبطال ثانويون يتحركون ضمن ذلك البطل... أقول: إن تخصيص سورة بأكملها لقصة واحدة، إنما يكشف عن أهمية هذه القصة وما تنطوي عليه من دلالات خطيرة ينبغي أن نضعها في الاعتبار"(3 ).

ففي قصته (ع) دروساً عظيمة وسامية؛ عبادية وتربوية وأخلاقية واقتصادية وسياسية وقضائية وغيرها، وفوائد عديدة فيما يرتبط بالعلائق الفردية أو الاجتماعية؛ كعلاقة الفرد مع ربه، وعلاقة الأب مع ابنه، وعلاقة الأخ مع أخيه، وعلاقة الزوج مع زوجه، وعلاقة الخادم مع سيده، وغير ذلك مما يستلزم الوقفات الكثيرة مع تفاصيل وجزئيات هذه القصة، ونحن -في هذا المقال- سنركز الحديث عن وباء الحسد والانحراف الجنسي كنقطتين رئيستين في أحداث القصة، ومدى الخطر والحساسية اللتان تمثلانه، وكيف واجههما يوسف الصديق (ع)، على أمل أن نوفق لاستكمال بعض المحاور والنقاط الأخرى في مقالات لاحقة .

آفـة الحسد

الحسد من أخطر الأوبئة والأمراض التي تصيب النفس البشرية، ويُقصد به "تمني زوال نعمةٍ من مستحقٍ لها وربما كان مع ذلك سعيٌ في إزالتها"(4)، فهو "عقدة نفسية ناتجة من تلاقح الشعور بالنقص مع حب الاستئثار، وهذه العقدة مترسبة في أكثر النفوس، غير أن الواعين يعملون لحل هذه العقدة"(5 ).

ولكون الحسد آفة تأكل كل شيء كما تأكل النار الحطب، فقد جاء الخطاب الإسلامي مصرِّحاً بأخذ الحيطة والحذر من الوقوع في شراكها، إذ ذمَّ القرآن الكريم الحسد والحساد واستعاذ من شرهم: {ومن شر حاسدٍ إذا حسد}(6)، وفي أحاديث الرسول الأكرم (ص) وروايات أهل بيته الطاهرين (ع) الكثير من ذلك .

وللحسد دور جوهري في قصة نبي الله يوسف (ع)، ويظهر هذا الدور منذ بدايات القصة، والمهول في أمر هذا الحسد أنه وقع بين طرفين قريبين؛ بين الأخ وأخيه، فإذا كان الحسد في أصله عظيم، فكونه يقع بين الأخ وأخيه فهو أعظم وأبلى .

يوسف الصديق (ع) الذي يحبه أبوه يعقوب (ع) حباً قوياً صنعته شخصية يوسف المميزة عن سائر أخوته، فهو المخلص والصادق الذي لا يملك إلا الخُلق الحسن النابع عن نفس طاهرة وصافية، وكذلك لأن والدته توفيت عنه صغيراً ويحتاج إلى الرعاية والعناية، ولذا استحق بجدارة أن يحتل القسط الأكبر من قلب أبيه .

ويزداد حب الأب لابنه، حينما يرى يوسف في منامه تلك الرؤيا فيقصها على أبيه، فيبشره بأن الله العليم الحكيم سيجتبيه ويعلمه من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليه وعلى آل يعقوب، ولكن بعد أن يحذره من قص رؤياه تلك على أخوته: {قال يا بني لا تقصص رؤياك على أخوتك فيكيدوا لك كيداً إن الشيطان للإنسان عدوٌ مبينٌ}(7)، فيعقوب (ع) يعرف أبناءه جيداً، ويقرأ في نفوسهم المريضة بعض الحسد تجاه أخيهم يوسف بسبب تعلق قلبه به وحبه الشديد له .

إنهم الأبناء الذين يعيشون في كنف أبٍ واحد، وأي أب؟ إنه يعقوب النبي الصالح.. فيكون هناك يوسف ويكون الباقون الذين ارتضوا للحسد أن يسكن قلوبهم فيسيطر على عقولهم، فالبيئة التربوية الطيبة التي تتوافر في المنزل قد لا تكفي وحدها لبناء إنسان سليم النفس والدين، فإذا سمح ذلك الإنسان لحواسه بالإنصات إلى أبواق الشيطان ووسائل الإعلام الخارجية دون تنقية وتصفية، فلا شك أن براثن الانحراف ستبدأ بالتسلل إلى قلبه، وتجره إلى دفةٍ لا تمر بطريق الفطرة .

ويبدأ الحسد بالتغلغل إلى تلك القلوب الضعيفة في إيمانها وأخلاقها، إنهم يحسدون أخاهم يوسف وكذلك أخاهم الأصغر - ويظهر أن يوسف والأخير أخوان من أم واحدة-، يتحرَّقون كلما رأوا حب الأب لأبنائه، إنه الحسد الذي يولد صغيراً، ثم ينمو ويكبر حتى يبتلع صاحبه، وكما في كلمة للإمام علي بن أبي طالب (ع): "الحسد داءٌ عياء لا يزول إلا بهلك الحاسد أو موت المحسود"(8). ومن أجل ذلك صار رذيلة من الرذائل النتنة بل رأسها(9)، فكيف يتجرأ المرء على أن يحسد إنساناً آخر على نعمة ما؟! والأدهى من ذلك أن يكون الحسد بين الأخ وأخيه !

هكذا يحلُّ بهم هذا الوباء بكل ما يواكبه من غمٍ، وشقاءٍ، وسقمٍ، وكمدٍ، ونكدٍ، وعلةٍ، وغيظٍ، وامتطاءٍ للتعب(10 ) ، فلا تهدأ نفوسهم حتى يجتمعوا ليحيكوا خيوط المؤامرة ضد أخاهم يوسف.. فيا لقبح هذا الموقف الذي يجمع الأخوة على مائدة الشر والسوء بدلاً من الخير والصلاح ..

" وتذاكروا فيما بينهم ما كانوا يشاهدونه من أمر أبيهم وما يصنعه بيوسف وأخيه حيث يشتغل عنهم ويؤثرهما عليهم وهما طفلان صغيران لا يغنيان عنه بطائل وهم عصبة أولو قوة وشدة أركان حياته وأياديه الفعالة في دفع كل رزية وجلب منافع المعيشة وإدارة الأموال والمواشي، وليس من حسن السيرة واستقامة الطريقة إيثار هذين الضعيفين على ضعفهما على أولئك العصبة القوية على قوتهم فذموا سيرة أبيهم وحكموا بأنه في ضلال مبين من جهة طريقته هذه"(11 ).

إنها شدة الحسد التي دفعتهم جميعاً إلى الاعتقاد بأن أباهم يعقوب -وهو النبي العارف- قد ضلَّ بشكل واضح في طريقته في الحب والتعامل والتعاطي.. هو يحبهم لكن يوسف وأخيه (أحب) منهم إليه وهم العصبة العاملة، فلم يدركوا المساكين كنه الأمور، فصنعوا لأنفسهم أسباباً حتى باغتهم الحسد بأنفاثه .

لحظات يخيم عليها الشيطان في ذلك الاجتماع الملعون.. اقترح بعضهم قتل يوسف، واقترح ثان أن ينُفى إلى أرض مجهولة يهلك فيها، واقترح ثالث أن يُلقى في غيابة الجب (البئر) فتمر قافلة من القوافل السيَّارة وتلتقطه إلى نفسها. وكان الاقتراح الأخير أرجحهم لديهم، وبذلك يخفوه عن وجه أبيه فيخلو لهم، ومن ثم يتوبون عن فعلتهم وتصير أمورهم وحالهم إلى صلاح -كما يعتقدون -.

يا ويلهم، هل نسوا نبأ ابني آدم، إذ حسد قابيلُ أخاه هابيل، {فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله، فأصبح من الخاسرين}(12 ) ، وحينما عجز أن يواري سوءة أخيه أصبح من النادمين، لقد جرَّه الحسد إلى أن يبوء بإثمه وإثم أخيه ويكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين .

جاءوا إلى أبيهم يتعطفونه ويحتالون من أجل تنفيذ مخططهم، {قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون * أرسله معنا غداً يرتع ويلعب وإنا له لحافظون}(13)، ويجيبهم الأب مباشرة بأن ذلك سيستوجب حزنه فهو لا يقدر على مفارقة يوسف، هذا سببٌ، والسبب الثاني أنه يخاف أن يهجم عليه ذئب من ذئاب المراتع في لحظة غفلة منهم فيأكله.. لكنهم يصرون ويخاطبون أباهم بأن الذئب لا يمكن أن يقترب منه وهم جماعة قوية، فيضطر الأب المسكين النزول تحت رغبتهم تلك.. وهكذا يجتاز بهم الشيطان المرحلة الأولى من المخطط الذي يحركه الحسد بصفته الدافع الرئيس .

وأكملوا المسرحية المُحاكة مسبقاً، ذهبوا به وحينما وصلوا أشبعوه ضرباً وشتماً وسخرية -كما في عددٍ من الروايات-، ثم جعلوه في غيابة البئر وعادوا إلى أبيهم متباكين ليكملوا التمثيل، فيلوثون قميص يوسف بدمِ حيوانٍ ما، ثم يأتون به إلى أبيهم المتلهف إلى رؤية ابنه الغالي، فيكذبون ويدَّعون أن الذئب قد أكله، والذئب بريء من دم يوسف، وعندما يرى الأب أن القميص لم يتمزق، يعرف حقيقة الأمر، ويقول لهم: {بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبرٌ جميلٌ والله المستعان على ما تصفون}(14 ).

" لقد مارسوا عملية (الكذب) بأحّد أشكاله مرارة. ثم اصطنعوا عملية (البكاء) المُفتَعل. ثم اصطنعوا عملية تلطيخ القميص بالدم... كل أولئك، بسببٍ من (الحسد) الذي جرّهم إلى ممارسات متنوعة من السلوك : كلها تنم عن المرض الداخلي الذي طبع تصرفاتهم"(15 ).

هل تتصور -أيها القارئ- شعور ذلك الصبي الصغير، وأخوته الذين من المفترض أن يعتضد ويتقوى بهم؛ يضربونه ويشتمونه؟ وبأي حق يظلمونه كل ذلك الظلم؟.. ترى هل بكى وصرخ واسترجاهم حينما كانوا يقتادونه إلى البئر أو حينما نزعوا عنه قميصه؟ كيف تقبَّل تلك المفاجأة المرة من قبل أخوته؟ هل كانت وجوههم عابسة أم ضاحكة وشامتة عندما كانوا ينظرون إليه وهو في غيابة البئر؟ ماذا كان إحساسه وهو وحيد ومنبوذ في الظلام الحالك؟ ماذا كان شعوره وهو يباع في سوق الرقيق بثمن بخس؟ ماذا وماذا؟.. ماذا لو كنت مكانه؟ !!

وهل تتصور -أيها القارئ- شعور ذلك الأب الحنون، وأبنائه الكبار يتآمرون على أخيهم الصغير؟ هل كاد أن يسقط مغشياً عليه؟ هل توَّقع في حياته أن يفقد أعز أبنائه إلى قلبه، وبهذه الكيفية؟.. حَزَنَ يعقوب كثيراً حتى ابيضت عيناه ففَقَدَ بصره .

آه، ما أقسى ثمار الحسد

إنهم بحسدهم جلبوا الحزن إلى قلب أبيهم، وكانوا سبباً في عمى عينيه، وكذلك خفقوا في إقناعه بحجتهم التي جاءوا بها إليه يكذبون وهم يبكون.. وإنهم بحسدهم -أيضاً- جلبوا الألم والأذى لأخيهم الصغير، وكانوا سبباً فيما جرى بعد ذلك من معاناة وغربة وسجن.. فنتائج الحسد لا تعرف الحدود، وعادة ما تكون وخيمة ومريرة على الحاسد والمحسود .

ويستفاد من القصة أن يعقوب ويوسف ( ع) واجها المعاناة التي سبَّبها الحسد إليهما بالصبر الجميل والاستعانة بالله سبحانه وتعالى، ولا شك أن الصبر -وهو محثوث عليه في الشريعة- يمثل علاجاً جيداً لحالات الظلم والقهر التي يمارسها الإنسان ضد الإنسان، فـ{إنما يُوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب}(16). وكذلك الأمر بالنسبة إلى الاستعانة بالله وبث الشكوى إليه في مواقف التوكل عليه جل جلاله، إذ يصبح المرء في ظلامٍ لا نور فيه إلا وجه الله ذو الجلال والإكرام .

كما يُعلِّمنا يوسف (ع) فن التسامح والعفو عند المقدرة، فبعد أن تُوكِلَه تلك العناية الإلهية -التي لازمته طوال أحداث القصة وحفظته- إلى خزانة الأرض ويتبوأ منها ما يشاء؛ يلتقي بأخوته فيعترفون بخطئهم وهم أذلاء، ويصبحون رهن إشارته في لحظاتٍ قلقة بانتظار أن يصدر الحكم عليهم، فها قد جاء وقت الحساب، لينتقم ممن سبَّب له الألم والحسرة على فقد الوالد. ولكن المحسنين والمتقين لا يؤمنون بالانتقام وأخذ الثأر، فبصورة مباشرة من اعترافهم يأتي صوته بدعة وحنان: {قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}(17 ).

ونشير إلى ضرورة مقاومة حسد الحاسدين من خلال الصبر والاستعانة بالله والتسامح، وصدق الشاعر عبدالله ابن المعتز إذ يقول :

اصبر على حسد الحسود فإن صـــبرك قاتله

فالنار تأكــل بعضها إن لم تجــد ما تأكله

وعلى الحاسد استبدال حسده بسلوك طيب؛ وهي (الغبطة) التي تعني: أن ترغب في نعمة مماثلة للنعمة التي لدى الطرف الثاني مع عدم تمني زوالها من عنده، ومن هنا ينبغي عليك العمل بإرادة وعزيمة وتقوى وورع من أجل الحصول عليها باستحقاقٍ غير مذموم، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}(18). فلا يعقل في الإسلام الحنيف أن يحسد أحد الوالدين أولاده والعكس، ولا الزوج يحسد زوجته والعكس، ولا الأخ يحسد أخاه، ولا عالم الدين يحسد عالماً آخر، ولا طالب المدرسة يحسد زميله المتفوق، ولا...الخ .

يقول العلامة المجلسي في بحاره : " واعلم أن الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب، ولا تداوى أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل، والعلم النافع لمرض الحسد هو أن تعرف تحقيقاً أن الحسد ضرر عليك في الدنيا والدين، وأنه لا ضرر به على المحسود في الدنيا والدين، ومهما عرفت هذا عن بصيرة، ولم تكن عدوَّ نفسك وصديق عدوِّك، فارقت الحسد لا محالة"(19 ).

وصدق الباري عز وجل إذ قال: {لقد كان في يوسف وإخوته آياتٌ للسائلين}(20 ).

نار الجنس

لا شك أن للدافع الجنسي محورية رئيسة في نسج أحداث قصة يوسف (ع)، وكان له دور في تغيير مجرى الأحداث التي يمر بها يوسف ومحلَّ معاناة له، ولذلك اهتم القرآن الكريم بهذا الدافع في هذه القصة وفي غيرها، ولكنه هنا يُقدِّم لنا عبر التجربة التاريخية قدوةً نموذجية في هذا الجانب، إذ غدت الأمور المرتبطة بالغريزة الجنسية موضع بلاء للمرأة والرجل في عصرنا الحالي، ولا بد للشباب من قدوة يستضيئون بمشعل إيمانها في مثل هذه الطريق الشائكة والخطيرة والمليئة بالمزالق والإغراءات .

ومن هنا لا بد -أيضاً- أن نستحضر شخصية يوسف المؤمنة والتقية في كل ما نواجهه من تحدياتٍ يعمل أنصار الشيطان على زجنا فيها، وذلك فيما يتعلق بالإثارة الجنسية التي تُقدَّم عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة في آخر صرعاتها وموضاتها تحت شعار (الحرية الجنسية المطلقة ). وسنرى من خلال شخصية يوسف (ع) كيف يمكننا مواجهة هذا الإغراء في موقف لا شك أن ما نواجهه من مواقفٍ أهون منه؟

فبعد أن سيق النبي ابن سلالة الأنبياء (ع) إلى سوق الرقيق، كان ثمنه بخساً في عملية شراء لصالح الحاكم (عزيز مصر). وفي البلاط الملكي يتكاثر الغلمان والجواري في سبيل خدمة العزيز وامرأته وتسيير أمور القصر، ولكنه كان ليوسف شأن غير كل هؤلاء، فقد قرّبه العزيز إليه وطلب من امرأته أن تُكرِّم مثواه عسى أن ينفعهما أو يتخذاه ولداً، نظراً للصفات التي يتميز بها هذا الغلام، فـ"يوسف (ع) كان ذا جمال بديع يبهر العقول ويوله الألباب، وكان قد أوتي مع جمال الخَلق حُسْن الخُلق صبوراً وقوراً لطيف الحركات مليح اللهجة حكيم المنطق كريم النفس نجيب الأصل، وهذه صفات لا تنمو في الإنسان إلا وأعراقها ناجمة فيه أيام صباوته وآثارها لائحة من سيماه من بادئ أمره"(21 ).

ويأتي دور العناية الإلهية والقوى الغيبية الغالبة التي لا تنسى العباد الصالحين والمحسنين: {وكذلك مكنّا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعملون * ولما بلغ أشده آتينا حكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين}(22)، وهنا دلالة على أن يوسف (ع) لم يُبعثر عمره في اللهو واللعب وإضاعة الوقت كما هي عادة أهل القصور، ولكنه جلس إلى مائدة العلم وأخذ يغرف من قدورها، وهذا يؤكد على أن للإيمان والعلم دور في مواجهة حبائل الشيطان وكيد الكائدين، ومن ثم الرقي إلى أعلى المراتب .

وتعتني امرأة العزيز بيوسف أشد الاعتناء وتتعلق به تعلقاً يتجاوز حدوده، وتشغف به حباً، ذلك الحب الذي يأخذ في إلهاب الشهوة الجنسية لديها، ويدعوها إلى خيانة زوجها واغتصاب الطهارة عند يوسف .. " إن امرأة العزيز تعيش ألماً نفسياً حاداً، وشوقاً هائجاً للقاء يوسف... ليس الاجتماع هو المطلوب فهي تعيش معه وهو أيضاً معها ولكنها تريد قضاء شهوتها... لقد عَبَر يوسف كل الامتحانات السابقة بنجاح فهل يعبر هذا الامتحان الصعب بنجاح؟!.. إنه امتحان من أصعب الامتحانات على الإطلاق، فالمعركة هناك مع أعداء الخارج.. فُرضت عليه فتحملها وواجهها بصبر وأناة، وأما هنا فهي معركة مع سيدته التي اعتنت به واهتمت بشؤونه وتريد أن تراوده في قضاء شهوتها التي أيضاً يعيشها يوسف كإنسان"(23 ).

في تلك الليلة تتوافر الأسباب الكثيرة التي تدعو إلى المعصية وخيانة العزيز الذي آواه، فأولاً هو في بيتها، والأبواب مغلقة بإحكام مما يدل على توفير جو السرية والخفاء، وهما رجل وامرأة في خلوة، المرأة في أشد حالات الاندفاع الجنسي لملاكٍ اسمه (يوسف)، وهي أيضاً سيدته ولها قوة العزة والملك، والرجل في بداية شبابه، وهو في غرفةٍ لا ريب أن امرأة العزيز قد جهزتها بالعطر العبق وما يتطلبه الأمر من إثارة الشهوة، والمرأة فائقة الجمال كما هي عادة نساء الملوك، وقد هيأت نفسها للإثارة والفتنة .

ويبدو أن هناك تفصيلات وجزئيات في أمر المراودة لم تذكرها الآيات المباركات خصوصاً فيما يتعلق بهيئة امرأة العزيز أثناء لحظات المراودة الشيطانية، وذلك احتراماً للقارئ من خلال الابتعاد عن الأسلوب المسف والمبتذل في عرض مثل هذه المواقف، وهنا دعوة للكتَّاب والقصاصين إلى عدم اللجوء إلى الابتذال والفحش في التصوير وطرح الأفكار ذات الحساسية الجنسية أو ما شابه، وإنه بالإمكان الكتابة أو التصوير بالأسلوب الحسن المهذب الذي يوصل إلى الغاية المأمولة من دون إثارة. يقول الإمام علي بن أبي طالب (ع): "أسفه السفهاء المتبجِّح بفحش الكلام"(24 ).

ثم قالت امرأة العزيز ليوسف وهي تراوده عن نفسه بصوت المرأة الغنوج الشبقة: هيت لك. لكن الرد يأتي حاسماً بصورة سريعة ومباشرة دون أي تردد وتراجع: {قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون}(25)، إنه الإخلاص لله، واحترام رب البيت الذي أحسن مثواه فكيف يخونه في امرأته، وذلك ظلم لي ولزوجك .

لم يستجب لها، ولكنها تصرّ أن يمارس الفحشاء معها، فيا له من إغراء، فتهمّ به، لكن إخلاصه لله يحركه إلى الخروج عن هذا الجو الشيطاني، فيتوجه إلى الباب، فتلحقه وهي مضطربة وقلقة وحرارة الجنس تلهب جسدها وعاطفتها، وتقد قميصه من الخلف. وتأتي المفاجأة بحضور الزوج مصادفة لدى الباب، ويرى امرأته وقد اختلت بيوسف، فتبادر بتوجيه أصابع الاتهام إلى يوسف وتصدر الحكم أيضاً فإما السجن وإما العذاب الأليم.. يا لهذا الظلم!! يوسف لم يسكت، فـ"الساكت عن الحق شيطان أخرس"(26)، دافع عن نفسه وصرّح بأنها هي من روادته عن نفسه .

ويأتي دور الشاهد من أهل امرأة العزيز، {وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قُدَّ من قُبلٍ فصدقت وهو الكاذبين * وإن كان قميصه قُدَّ من دبرٍ فكذبت وهو من الصادقين * فلما رأى قميصه قُدَّ من دبرٍ قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم}(27). في تلك المحاكمة الصغيرة اتضح صدق يوسف وكذب امرأة العزيز، وبكل بساطة يطلب العزيز من يوسف أن يستر ما حدث خوفاً من الفضيحة، ومن امرأته الاستغفار عن ذنبها .

لكنها القصور التي لا تعرف الستر، تتسرب الفضيحة عن طريقٍ غير يوسف إلى نسوة الطبقة الراقية من المجتمع، فتصلها أخبار سخريتهن عليها وكلامهن عنها، إنهن فارغات يستأنسن بالقيل والقال، وأكل لحوم الناس بالغيبة والنميمة. وفي المقابل تتآمر امرأة العزيز ضدهن، فتدعوهن جميعاً إليها وتعطي لكل واحدة منهن سكيناً، ثم تأمر يوسف بالخروج عليهن، {فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاشَ لله ما هذا بشراً إن هذا إلا مَلَكٌ كريم}(28)، وفي لحظة تتملكهم الإثارة والشهوة فيجرحن أيديهن بالسكاكين .

يقول الدكتور محمود البستاني: "إن هذه التجربة العملية تدلنا بدورها على أن نسوة المدينة لم يكن نقدهن لامرأة العزيز نابعاً من الفضيلة والالتزام بمبادئ السماء، بدليل أنهن وقعن في نفس السلوك المنكر الذي صدرت عنه امرأة العزيز"(29 ).

وفي صورةٍ يمتزج فيها الحب والشهوة مع الكره والحقد، {قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين}(30 ).

فما أصعب هذا الموقف، فإما أن يستجيب يوسف إلى رغبة هؤلاء النسوة المنحرفات، وإما سيزج به إلى السجن. فيختار السجن، لأنه ينظر إلى الأمور بمقياس الله سبحانه وتعالى، وليس في هذا الموقف أفضل من أن يتوجه الإنسان إلى ربه السميع العليم بالدعاء: {قال ربِ السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين}(31 ).

فهل نظرت -أيها القارئ- إلى نتيجة الشهوة الجنسية إذا انحرفت عن مسارها ولم تُضبط بالصورة السليمة؟

لقد كان من نتائج ذلك أن امرأة العزيز جرّت لنفسها ولزوجها -وهو الحاكم على البلاد- العار والفضيحة، وصارت محلَّ سخريةٍ وشماتةٍ من قبل الآخرين، وقُدح في عقلها، وسقط بذلك اعتبارها وعظمتها الاجتماعية، مع العلم بأنها خسرت مراهنتها ولم تحظَ بمقاربة يوسف، وبذلك لم تطفأ نيران الجنس الملتهبة في داخلها، ولا شك أن حراب الندم قد أصابتها بعد ذلك. كما أن في إطلاق القرآن الكريم لفظة (امرأة) عليها بدلاً من (زوجة) تنقيصاً من قدرها، ودلالة على حدوث شرخ كبير في العلاقة بينها وبين زوجها العزيز .

ومن نتائج ذلك على يوسف ما يشابه إفرازات الحسد، فقد كان ذلك سبباً في إحداث نوع من الضغط النفسي المتواصل عليه، وإثارة للغرائز مع كبت قوي لها، بالإضافة إلى السجن ظلماً وما يرافقه من ألمٍ وهم، خصوصاً إذا عرفنا أن ذلك السجن استمر سنيناً .

إنها تجربة صعبة على يوسف استطاع أن يجتازها بنجاح وتفوق، ومن ذلك نستفيد أنه بالإمكان مقاومة كل الإغراءات الجنسية الموجهة إلينا، وعلينا ألاَّ نُقنع أنفسنا بتغير الزمان وظهور وسائل تعمل على توفير الجنس وإغراءاته بصورة لا نستطيع من خلالها تحدي الشيطان، وأن نعمل على الخروج من غرف وحانات الجنس عبر الأبواب التي تؤدي إلى الله عز وجل. ويكفي للإنسان أن يتفكر في بعض البيئات التي تعج بالفساد والدعارة كيف تنبت فيها الشجرة الطيبة والرجال والنساء الرساليات؟!.. حتى يهون البلاء: ومن منّا يواجهه موقف صعب وحساس كموقف يوسف ( ع)؟

إن يوسف (ع) يُقدِّم إلينا حلاً ناجعاً لمن يُبتلى في مواضعٍ كهذه، فالله سبحانه وتعالى أولاً وأخيراً، فالتوجه إلى الله والاستعاذة به من المكائد الشيطانية كفيلان بتقديم الصبر والعزيمة والإرادة في مواجهة أعتى الشياطين، ومن أجل ذلك دعا يوسف ربه بقلبٍ ملؤه الخلوص إلى الله فاستجاب له مباشرة. ومن هنا يأتي دور الذكر والدعاء وكذلك الصلاة في مقاومة إغراءات الفحشاء وسائر المنكرات، إذ يقول تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر}(32 ).

إن من يقاوم نار الجنس والشهوة المنحرفة عن طريقها، لا بد وأن تتكفله العناية الإلهية، فقد قاوم يوسف خطوات الشيطان التي تمثلت في كيد امرأة العزيز ونسوة المدينة، واختار السجن بصبر وعزيمة، محافظاً على تقواه وكرامته، ولكن عين الله عز وجل كانت معه، تحرسه وتحفظه، وكانت أن تكللت مقاومته الإيمانية تلك بالانتصار في النهاية، فخرج من السجن وأصبح خازن البلاد، وعاد إليه أبوه وأخوته .

وهكذا نجد في يوسف (ع) "ملامح الإنسان المؤمن الواعي المنفتح، الذي يملك الإرادة الصلبة، أمام كل عوامل التهديد والإغراء، من خلال إيمانه القوي الذي ينمو معه في كل لحظةٍ من خلال مراقبته لربه، في شعوره العميق، بحضوره في كل ما حوله ومن حوله، فلا يغيب عنه أية لحظة.. ثم لنلاحظ فيه الإنسان الذي يملك دقة الملاحظة للأشياء، وسرعة الحركة، وعمق الحيلة، فيما يريد الوصول إليه من دون أن يسيء إلى مبادئه.. كما يملك القلب الكبير الذي لا يتعقد ولا يحقد، ليعفو عنهم، وليستغفر لهم، كما فعل مع أخوته.. وأخيراً نجد فيه الإنسان الذي يوحي إلى نفسه دائماً، بموقع نعم الله عليه في حياته، فيما يتذكره من ماضيه، وفيما يعيشه من حاضره.. وفيما يتمناه في مستقبله.. ثم يقف موقف المبتهل إلى الله ليذكر آلاءه، وليمجده في ذلك كله، وليشكره عليه، في خشوع العبد، وخضوع العابد"(33 ).

كما أن في القصة تأكيد على دور العفة بالنسبة للمرأة أيضاً، وقد لحظنا مدى تأثير الانحراف الجنسي عليها، وإن عظمة المرأة في عفتها وتقواها، وليس في سقوطها الأخلاقي وانصياعها إلى نار الشهوة، وينبغي أن تبتعد المرأة عن مواطن الخلوة الكاملة مع الرجل، كما ينبغي ذلك على الرجل .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- سورة الأنعام، الآية (4 ).

2- سورة يوسف، الآية (111 ).

3- محمد البستاني. دراسات فنية في قصص القرآن، ط1، (بيروت: دار البلاغة، 1989م)، ص190 .

4- الراغب الأصفهاني. المفردات في غريب القرآن، ط2، (بيروت: دار المعرفة، 1999م)، ص125 .

5- السيد حسن الشيرازي. خواطري عن القرآن، ط1، (بيروت: دار العلوم، 1994م)، ج3، ص543 .

6- سورة الفلق، الآية (5 ).

7- سورة يوسف، الآية (76 ).

8- السيد هادي المدرسي. موسوعة الإمام علي في الأخلاق، ط1، (بيروت: دار الجيل، 1998م)، ص159 .

9- يقول الإمام علي بن أبي طالب ( ع): "رأس الرذايل الحسد". [المصدر السابق، ص154 ].

10- يقول الإمام علي بن أبي طالب ( ع): "الحسد لا يجلب إلا مضرة وغيظاً يوهن قلبك، ويمرض جسمك، وشر ما استشعر قلب المرء الحسد". [محمد باقر المجلسي. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، ط4، (بيروت: مؤسسة أهل البيت (ع)، 1989م)، ج70، ص256 ].

11- السيد محمد حسين الطباطبائي . الميزان في تفسير القرآن، ط3، (بيروت: دار الإرشاد الإسلامي، 1973م)، ج11، ص90-91 .

12- سورة المائدة، الآية (30 ).

13- سورة يوسف، الآيتان (11-12 ).

14- سورة يوسف، الآية (18 ).

15- محمود البستاني. مصدر سابق، ص213 .

16- سورة الزمر، الآية (10 ).

17- سورة يوسف، الآية (22 ).

18- سورة المطففين، الآية (26 ).

19- محمد باقر المجلسي. مصدر سابق، ج70، ص241 .

20- سورة يوسف، الآية (7 ).

21- محمد حسين الطباطبائي. مصدر سابق، ج11، ص109 .

22- سورة يوسف، الآيتان (21-22 ).

23- عباس علي الموسوي. الأصدق في قصص الأنبياء (ع)، ط1، (بيروت: دار المرتضى، 1996م)، ص159 .

24- السيد هادي المدرسي. مصدر سابق، ص381 .

25- سورة يوسف، الآية (21 ).

26- كلمة للرسول الأكرم (ص). [روحي البعلبكي. معجم روائع الحكمة والأقوال الخالدة، ط2، (بيروت: دار العلم للملايين، 2000 م)، ص88 ].

27- سورة يوسف، الآيات (26-28 ).

28- سورة يوسف، الآية (31 ).

29- محمود البستاني. مصدر سابق، ص224 .

30- سورة يوسف، الآية (32 ).

31- سورة يوسف، الآية (117 ).

32- سورة العنكبوت، الآية (45 ).

33- السيد محمد حسين فضل الله. من وحي القرآن، ط2، (بيروت: دار الزهراء، 1990م)، ج12، ص306 .

** عن مجلة البصائر، ع28، صيف 1424 هـ/2003م .