المُفَسِّر
الشروط التي يجب توفرها في المفسر :
والتفسير بوصفه علماً تتوقف ممارسته على شروط كثيرة
لا يمكن بدونها ان ينجح البحث في القرآن ويوفق المفسر في مهمته ويمكن ان نلخص تلك
الشروط في الامور الاربعة التالية :
1 - يجب على المفسر ان يدرس القرآن ويفسره بذهنية :
(اسلامية) أي ضمن الاطار الاسلامي للتفكير فيقيم بحوثه دائماً على أساس ان القرآن
كتاب الهي : انزل للهداية وبناء الانسانية بأفضل طريقة ممكنة. ولا يخضع للعوامل
والظروف والمؤثرات التي يخضع لها النتاج البشري في مختلف حقول المعرفة الانسانية.
فان هذا الاساس هو الاساس الوحيد لامكان فهم القرآن وتفسير ظواهره بطريقة صحيحة.
واما حين يستعمل المفسر في دراسة القرآن نفس المقاييس
التي يدرس على ضوئها أي كتاب دعوة أخرى أو أي نتاج بشري، فهو يقع نتيجة لذلك في
أخطاء كبيرة واستنتاجات خاطئة، كما يتفق ذلك لبحوث
{ 81 }
المستشرقين الذين يدرسون القرآن على ضوء نفس
المقاييس التي يدرسون بها أي ظاهرة من ظواهر المجتمع التي تنشأ في داخله وترتبط
بمؤثراته وعوامله وتتكيف بموجبها.
وهذا الشرط تفرضه طبيعة الموقف العلمي لان المفهوم
الذي يكونه المفسر عن القرآن ككل يشكل القاعدة الاساسية لفهم تفصيلاته، ودرس مختلف
جوانبه، فلا بد ان يبنى التفسير على قاعدة سليمة ومفهوم صحيح عن القرآن، يتفق مع
الاطار الاسلامي للتفكير، لكي يتجه اتجاهاً صحيحاً في الشرح والتحليل. واما اذا
اقيم التفسير على أساس تقييم خاطئ للقرآن ومفهوم غير صحيح عنه، فسوف ينعكس انحراف
القاعدة على التفصيلات ويفرض على اتجاه البحث انحرافاً في التحليل والاستنتاج.
وفيما يلي نذكر بعض الامثلة التي يتجلى فيها مدى
الفرق في الاتجاه بين دراسة القرآن بوصفه كتاباً الهياً للهداية ودراسته بوصفه
ظاهرة في مجتمع تتأثر به وتتفاعل مع عوامله ومؤثراته وكيف تنعكس القاعدة التي يقام
على أساسها التفسير في التفصيلات وطريقة التحليل والاستنتاج.
1 - ففي اقرار القرآن لعدد من الاعراف وألوان من
السلوك التي كانت سائدة بين العرب قبل بزوغ نور الرسالة الجديدة قد يخيل لمن ينطلق
من قاعدة خاطئة ويحاول ان يفسر القرآن بمقاييس غيره من منتجات الارض ان ذلك
الاقرار يعبر عن تأثر القرآن بالمجتمع الذي وجد فيه، ولكن هذا التفسير لا معنى له
حين ننطلق من القاعدة الصحيحة ونفهم القرآن الكريم بوصفه كتاباً الهياً للهداية
وبناء الانسانية، بالصورة التي تعيد اليها فطرتها النقية وتوجهها نحو أهدافها
الحقيقية الكبرى.
بل نستطيع على أساس هذه القاعدة الصحيحة ان نفهم
ذلك الاقرار من القرآن فهماً صحيحاً اذ ليس من الضروري لكتاب هداية من هذا
{ 82 }
القبيل ان يشجب كل الوضع الذي كانت الانسانية عليه
قبله لان الانسانية مهما تفسد وتنحرف عن طريق الفطرة والاهداف الحقيقية الكبرى فهي
لا تفسد كلها بل تبقى في العادة جوانب صالحة في حياة الانسانية تمثل فطرة الانسان
أو تجاربه الخيرة فمن الطبيعي للقرآن ان يقر بعض الجوانب ويشجب اكثر الجوانب في
عملية التغيير العظيم التي مارسها وحتى هذا الذي أقره وضعه في اطاره الخاص وربطه
بأصوله وقطع صلته بالجاهلية وجذورها.
ب - وفي تدرج القرآن الكريم في التشريع قد يخيل لمن
ينطلق من القاعدة الخاطئة التي تقول ببشرية القرآن يرتبط بطبيعة عملية البناء التي
يمارسها القرآن لان القرآن لم ينزل ليكون كتاباً علمياً يدرسه العلماء وانما نزل
لتغيير الانسانية وبنائها من جديد على أفضل الاسس وعملية التغيير تتطلب التدرج.
ج - وفي القرآن الكريم نجد كثيراً من التشريعات
والمفاهيم الحضارية التي كانت متبناة من قبل الشرائع السماوية الاخرى كاليهودية
والنصرانية. وقد يخيل لمن يدرس القرآن على أساس القاعدة الخاطئة بان القرآن قد
تأثر في ذلك بهذه الاديان فانعكس هذا الانفصال بالتالي على القرآن نفسه.
ولكن الواقع - وعلى أساس المفهوم الصحيح - ان
القرآن يمثل الاسلام الذي هو امتداد لرسالات السماء وخاتمها. ومن الطبيعي ان تشتمل
الرسالة الخاتمة على الكثير مما احتوته الرسالات السماوية السابقة وتنسخ الجوانب
التي لا تتلائم مع التطورات النفسية والفكرية والاجتماعية للمرحلة التي وصل اليها
الفرد الانساني بشكل عام. لان مصدر الرسالات هذه كلها شيء واحد وهو اللّه سبحانه.
{ 83 }
خصوصاً اذا أخذنا بنظر الاعتبار ايمان الاسلام بهذه
الوحدة في مصدر الرسالات وتأكيده عليها.
2 - وبعد سلامة القاعدة الاساسية في فهم القرآن
وتقييمه يجب ان يتوفر في المفسر مستوى رفيع من الاطلاع على اللغة العربية،
ونظامها، لان القرآن جاء وفق هذا النظام فما لم تكن لدينا صورة عن النظام العام
للغة العربية لا نستطيع ان نستوعب معاني القرآن. فيحتاج المفسر الى الاطلاع على
علم النحو والصرف، المعاني والبيان وغيرها من العلوم العربية. والقدر اللازم توفره
من هذا الشرط، يختلف باختلاف الجوانب التي يريد المفسر معالجتها من القرآن الكريم،
فحين يريد ان يدرس فقه القرآن مثلاً، لا يحتاج الى التعمق في أسرار اللغة العربية
بالدرجة التي يحتاجها المفسر، اذا درس الفن القصصي في القرآن أو المجاز في القرآن
مثلاً.
3 - ولا بد للمفسر ان يحاول الى اكبر درجة ممكنة
الاندماج كلياً في القرآن عند تفسيره.. ونقصد بالاندماج في القرآن ان يدرس النص
القرآني ويستوحي معناه دون تقييد مسبق باتجاه معين غير مستوحى من القرآن نفسه، كما
يصنع كثير من أصحاب المذاهب الذين يحاولون في تفسيرهم اخضاع النص القرآني لعقيدتهم
المذهبية فلا يدرسون النص ليكتشفوا اتجاهه بل يفرضون عليه اتجاههم المذهبي
ويحاولون فهمه دائماً ضمن اطارهم العقائدي الخاص. وهذا ليس تفسيراً وانما هو
محاولة تبرير للمذهب وتوفيق بينه وبين النص القرآني، ولهذا كان من أهم الشروط في المفسر
ان يكون بدرجة من التحرر الفكري تتيح له الاندماج بالقرآن، وجعله قاعدة لتكوين أي
اطار مذهبي بدلاً عن جعل الاتجاه
{ 84 }
المذهبي المحدد قاعدة لفهم القرآن.
4 - وأخيراً لا بد للمفسر من منهج عام للتفسير،
يحدد فيه عن اجتهاد علمي طريقته في التفسير، ووسائل الاثبات التي يستعملها، ومدى
اعتماده، على ظهور اللفظ وعلى السنة، وعلى اخبار الآحاد، وعلى القرائن العقلية في
تفسير النص القرآني. لان في كل واحد من هذه الامور خلافاً علمياً، ووجهات نظر
عديدة، فلا يمكن ممارسة التفسير دون درس تلك الخلافات درساً دقيقاً، والخروج من
دراستنا بوجهات نظر معينة تؤلف المنهج العام للمفسر، الذي يسير عليه في تفسيره.
ولما كانت تلك الخلافات تتصل بجوانب من الاصول والكلام والرجال وغيرها كان لزاماً
على المفسر لدى وضعه للمنهج ودراسته لتلك الخلافات أن يكون ملمّاً الماماً كافياً
بتلك العلوم.
| |