المثل الأول: المنافقون

المثل الأول: المنافقون

المثل الاول لموضوع بحثنا هو ما ورد في الآيات 17 و 18 من سورة البقرة:

( مَثَلُهُم كَمَثَلِ الَّذي اسْتَوقَدَ نَاراً فلمَّا أضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَب الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكهُم في ظُلُمَات لا يُبْصُرون صُمٌ بُكُم عُميٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) .

 

تصوير البحث

تحدثت الاية عن المنافقين الذين تستروا بستار النفاق; الا ان التمزق كان عاقبة هذا الستار، والخزي هو عاقبة المنافقين انفسهم.

ان المنافق شُبّه هنا بانسان ضلّ وحيداً في صحراء يسعى للحصول على طريق لانقاذ نفسه من خلال استيقاد النار، إلاّ أنّ ذلك لم ينفعه ولا زال في حيرة من أمره.

 

الشرح والتفسير

دُوّن تفسيران للآية الشريفة:

التفسير الأول: إنَّ مثل المنافقين مثل الذين يضلون في صحراء ظلماء ومخوفة. افرضوا أنّ مسافراً تخلف وحيداً عن قافلته في صحراء ظلماء، فهو لا يملك نوراً ولا ضوءاً ولا دليلا يرشده، ولا يعرف الطريق ولا يملك بوصلة. فهو يخاف قطاعي الطرق والحيوانات المفترسة من جهة، ويخاف الهلاك من الجوع والعطش من جهة أخرى. وهذا يدفعه للتفكير بجدية

[ 26 ]

بطريق والسعي الأوفر للخلاص مما هو فيه. فيجد حطباً بعد البحث المتوالي فيستوقد ناراً ثم يأخذ بشعلة نار بيده، إلاّ أنّ الريح تطفئ الشعلة فيبادر إلى جمع حطب آخر ليوقد ناراً أخرى إلاّ ان بحثه هذا لا يؤدي به إلا إلى ضلال آخر وانحراف عن الطريق تارة اخرى.

إنَّ المنافقين كهذا المسافر فهم قد ضلوا الطريق. انهم يعيشون في ظلمات في حياة مضيئة. تخلفوا عن قافلة الانسانية والايمان. ولا دليل لهم على الطريق، لأنّ الله سلب عنهم نور الهداية، وتركهم في ظلمات.

للمنافقين شخصيات مزدوجة، ظاهرها مسلمة وباطنها كافرة; ظاهرها صادقة وباطنها كاذب; ظاهرها مخلص وباطنها مرائي، ظاهرها أمين وباطنها خائن، ظاهرها الصداقة وباطنها العداوة و.. انهم يصنعون من ظاهرهم إنارة خادعة. يتظاهرون بالاسلام وينتفعون بمزايا الإسلام; فذبيحتهم حلال واعتبارهم وعرضهم محفوظ وأموالهم محترمة، ويتمتعون بحق الزواج من المسلمين و.. انهم يتمتعون بمنافع مادية ودنيوية قليلة يحصلون عليها من خلال تلك النار التي استوقدوها، إلا ان هذه النار تخمد بعد الموت ( ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ )ويتركهم الله آنذاك في ظلمات القبر والبرزخ والقيامة وحينئذ يدركون ان لا فائدة في اسلامهم الظاهري وايمانهم الريائي.

النتيجة هي أن في الآية أو المثل تشبيهاً، المنافقون هم المشبهون والمسافر المحتار في الصحراء هو المشبه به ووجه الشبه هو الحيرة والضلالة وأن لا أثر لسعيه الظاهري.

التفسير الثاني: فيما يخص التفسير الأول ينبغي التذكير هنا بان الاضاءة الظاهرية لتلك النار والظلمات التي تلحق تلك الإضاءة لا تختص بعالم القيامة المعنوي; بل إنّ لها نتائج في هذه الدنيا كذلك.

لا يتمكن المنافق اخفاء نفاقه للابد فانه سيفتضح في النهاية; وهذا يحصل فيما لو وجد نفسه أو مصالحه عرضة للخطر والفناء، فانه يفصح عن خلده القذر آنذاك كما افصح المنافقون في صدر الإسلام عن بواطنهم في الحروب والحوادث المختلفة؟!

ألم نرَ بأم اعيننا في الثورة الاسلامية وخلال النهضة التي سبقتها كم من المنافقين كشفوا بمرور الزمن عن بواطنهم النتنة وأزالوا نقاب النفاق عمّا في دواخلهم وافتضحوا في هذه الدنيا

[ 27 ]

- أعاذنا الله من شرور أنفسنا - وعلى هذا; فان ( ذَهَبَ الُله بِنُورِهِم ) لا يختص بالاخرة والقيامة بل انه أمر يتحقق في هذا الدنيا كذلك.

 

خطابات الآية

1- أقسام المنافقين

ان المنافق ليس شخصاً بالضرورة، بل يمكن ان يكون جماعة أو منظمة أو حزب بل وحتى حكومة دولة ما. لقد شاهدنا افتضاح بعض الدول التي تتقمص بالاسلام ظاهراً وتشترك في المجالس والمؤتمرات الاسلامية. وذلك إثر اتضاح العلاقة بينها وبين أكبر أعداء الإسلام أي اسرائيل الغاصبة، وافشاء أمر العقود المبرمة بينها وبين اسرائيل ما خفى منها وما ظهر. فان ضوء نار ادعاءاتها اخذت بالخمود وثبتت ازدواجيتها ورياءها.

نعم; ان ذلك هو عاقبة النفاق

«فاعْتَبِرُوا يَا أوِلي الأَبْصَار».

 

2- صور النفاق

من الأمور التي تستنتج من البحث الاجمالي السابق هو صور النفاق المختلفة وهي كالتالي:

أ - النفاق في العقيدة: وذلك مثل الذي يدعي بلسانه الإسلام، الا انه لا يعد مسلماً، أو أنه يتظاهر بالايمان لكنه لا يحسب من زمرة المؤمنين.

ب - النفاق في الكلام: وهو كالذي ينطق بكلام لا يعتقد به. وعلى هذا، فان الكاذب منافق لأنه لا يتطابق قلبه مع لسانه.

ج - النفاق في العمل: وهو مثل الذي يتضاد ويختلف عمله مع نيته وباطنه، كالذي يتظاهر بالصلاة أو الامانة لكنه في الواقع لا يصلي وخائن.(1)

 

3- علائم النفاق

يحكي الرسول(صلى الله عليه وآله) في رواية له عن علائم المنافق حيث يقول: ( ثلاث من كن فيه كان منافقاً


1. للمزيد راجع ميزان الحكمة، الباب 3966 الحديث 20599.

[ 28 ]

وان صام وصلى وزعم انه مسلم، من إذا أؤتمن خان، و إذا حدث كذب و إذا وعد اخلف... ) .

الأولى: الخيانة، ان الخائن منافق وذلك لانه يتظاهر بالأمانة وهو في الواقع خائن. وعلى هذا لا يمكننا أن نأتمنه بيت المال. قد يكون البعض امناء تجاه الأموال القليلة إلا انهم يفصحون عن واقعهم الخائن عند ائتمانهم على الأموال الطائلة.

الثانية: الكذب، ان الكاذب منافق وذلك لانه يبطِّن نوايا قذرة ومخالفة للحقيقة والواقع من خلال تملقه الكلامي، رغم انه يصلي ويقرأ دعاء الندبة والتوسل وغيرهما.

الثالثة: خلف الوعد، ان الذي يخلف الوعد منافق، وذلك لأنَّ الوفاء بالوعد ضروري من الناحية الاخلاقية ومن الناحية الفقهية قد يكون واجباً أحياناً.(1) وخلاصة الكلام هنا ان كل نوع من الأزدواجية يعدّ نفاقاً.

 

4 - نبذة من تاريخ المنافقين

لم تخل المجتمعات البشرية من المنافقين ابداً، ويمكن ان يقال ان النفاق وجد منذ ان بدأ الإنسان حياته على الكرة الأرضية، وعداء المنافقين للبشرية اتضح منذ ذلك الحين.

إذا عد المنافقون اخطر أعداء المجتمعات البشرية فذلك بسبب انهم يتقمصون قميص الاصدقاء ويبطنون العداء.

ان مقارعة الأعداء هي احد صفات المجتمعات البشرية، وهي آلية تفقد فاعليتها عند المنافق، وذلك لانه يظهر نفسه صديقاً، ولهذا كان ألد الأعداء، ولأجل ذلك كانت التعابير القرآنية في حقه شديدة جداً.

 

المنافقون في القرآن

كلما قلنا سابقاً، فإنَّ القرآن أشار إلى المنافقين بتعابير شديدة نشير إلى بعض منها هنا:

أ - يقول الله في الآية 4 من سورة المنافقين: ( هُمُ العَدُوُّ فاحْذَرْهُمْ ) .


1. ميزان الحكمة، الباب 3931، الحديث 20577، و في الباب روايات اُخرى عدَّت علائم اُخرى للنفاق.

[ 29 ]

لقد أشار القرآن المجيد إلى أعداء المسلمين(1) من خلال آياته الشريفة لكنه لم يستخدم هكذا اسلوب تجاه أىّ من الأعداء. وحسب قواعد اللغة العربية فان الجملة تفيد ان المنافقين هم الاعداء الحقيقيون للانسان.

ب - يقول الله في تتمة الاية: ( قَاتَلَهُمُ اللهُ أنَّى يُؤْفَكُونَ ) أي ينحرفون عن الحق.

إنَّ هذا الخطاب الشديد فريد ولم يستعمله القرآن في مورد اخر.(2)

ج - يقول الله في الاية 145 من سورة النساء: ( إنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْك الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ ولَنْ تَجِدَ لهُمْ نَصِيراً ) وعلى هذا ينبغي تجنب صداقة أعداء الله التي هي من علائم النفاق.

إن (الدرج) أو (الدرجة) ذات معنى واحد وهو نفسه الذي في (دَرْك) أو (دَرَك) إلاّ أنّ المفردتين الأوليتين تستخدمان للسّلم بلحاظ الاتجاه إلى الأعلى، بينما تستخدم المفردتان الاخيرتان بلحاظ اتجاه السلم إلى الأسفل. كما أنّ كلا منهما استخدم مرة واحدة في القرآن.(3)

ان (الدرك الاسفل) هو قعر جهنم أو اخفض نقطة فيها، ومن البديهي ان يكون العذاب في هذه النقطة اشد، ومن هنا نستنتج أنّ الله أعدّ أشد العذاب للمنافقين. وهذا يكشف عن مدى حساسية موضوع النفاق وخطر المنافقين في جميع العهود ماضياً وحاضراً.

 

خطر المنافقين من وجهة نظر رسول الإسلام(صلى الله عليه وآله)

ينقل المرحوم الشيخ عباس القمي (رض) في كتابه القيّم (سفينة البحار) تحت مادة (نَفَق) حديثاً ملفتاً عن الرسول(صلى الله عليه وآله) نأتي به هنا:


1. عدّ القرآن الشيطان والكافرين والمجرمين والمنافقين أعداءً للإنسان; ولأجل المزيد يراجع المعجم المفهرس للقرآن المجيد كلمة (عدو).

2. لقد استخدم القرآن هذا الخطاب في اليهود في الاية 30 من سورة التوبة لكن ينبغي الالتفات إلى ان اليهود كانوا مبتلين بنوع من النفاق.

3. (الدَرْك) استخدمت في الاية المذكورة في النص. اما (دَرَك) فقد استخدمت في الاية 77 من سورة طه عند بيانه لعبور موسى(عليه السلام) والاسرائيليين من نهر النيل للاشارة إلى المسير الذي ينتهي إلى سطح النهر.

[ 30 ]

«إني لا أخاف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً، أمّا المؤمن فيمنعه الله بايمانه وأما المشرك فيقمعه الله بشركه، ولكني أخاف عليكم كل منافق عالم اللسان، يقول ما تعرفون ويفعل ما تنكرون».(1)

وفقاً لهذه الرواية، إنَّ الرسول(صلى الله عليه وآله) كان قلقاً على المجتمع الاسلامي من خطر المنافقين، وقلقه لم ينحصر في العهود الماضية وفي الحجاز فحسب; بل ان قلقه شامل لجميع العصور والبلاد الاسلامية وحتى الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

 

5 - التعبير بـ (النار) في القرآن

هناك نتيجتان تترتبان على استخدام القرآن لمفردة (نار) لا (نور):

الاولى: ان الدخان والرماد من لوازم النار، والمنافق يبلي الآخرين بما ينجم من مضار عن هذه النار التي اججها بنفسه، المضار التي نتيجتها التفرقة والضغوط التي تفرض على الناس، هذا مع ان المؤمن ينهل من النور الخالص والمشعل المضيء للايمان.

الثانية: رغم تظاهر المنافقين بنور الإيمان الا ان واقعهم نار، واذا تمتعوا فبشعلة ضعيفة وقصيرة مدتها.(2)

 

6- النور والظلمات

يقول الله ( وَتَرَكَهُمْ فى ظُلُمَات لا يُبْصِرُونَ ).

إنَّ مفردة (ظلمات) استخدمت 23 مرة في القرآن، ولم تستخدم في مورد من الموارد بصيغتها المفردة بل كانت في جميع هذه الموارد جمعاً. أما مفردة (النور) فقد استخدمت 43 مرة في القرآن وفي صيغة المفرد لا الجمع. ويا ترى أليس في ذلك خطاب؟

سر هذا يرجع إلى أنّ القرآن يريد بيان ان النور واحد مهما كان نوعه، وهو نور الله ( اللهُ


1. نهج البلاغة الرسالة 27 وكذا ميزان الحكمة، الباب 3934.

2. للمزيد راجع تفسير الأمثل 1: 96 - 100.

[ 31 ]

نُورُ السَّمَواتِ والأَرْضِ ).(1) أما نور الايمان ونور العلم ونور اليقين ونور الاتحاد والتلاحم وفكلها ترجع إلى نور واحد، وهو نور الله ولا نور غيره; لذلك لم يستخدم القرآن النور الا بصيغة المفرد.

أمّا النفاق والكفر والاختلاف والتفرقة فهي ليست ظلمة واحدة، بل ظلمات متعددة، هناك ظلمة الجهل وظلمة الكفر وظلمة البخل وظلمة الحسد وظلمة عدم الخوف من الله وظلمة الهوى والهوس وظلمة الوساوس الشيطانية و.. وخلاصة الظلمات متنوعة وليست واحدة، لذلك استخدمت بصيغة الجمع.

 

7 - خصال المنافقين الثلاث

إنّ المنافقين - حسب هذه الآية (18) - لهم ثلاث خصال:

الأولى: صمّ، وهي صيغة جمع لأصم وتعني عدم السمع.

الثانية: بكم، وهي صيغة جمع لأبكم وتعني أخرس.

والآية تعني أنهم لا يسمعون ولا ينطقون. إنّ الاصم لا يستطيع التكلم رغم سلامة جهاز النطق عنده; لأنَّ الإنسان لا يمكنه ان ينطق بكلمة لم يسمعها ولم يتعلمها، ولذلك جاء القرآن بصفة الاصم قبل صفة الابكم، وهي تعني في النهاية ان المنافقين صمّ وبكم دائماً.

الثالثة: عمي، وهي جمع (أعمى) وتعني فاقد البصر، وعلى هذا فان المنافقين صم بكم وعمي، أي لا اذن لهم يسمعون بها ولا لسان لهم ينطقون به ولا عين لهم يبصرون بها. ومع هذا الحال، كيف يمكنهم معرفة الطريق الصحيح وكيف يمكنهم ادراك انحرافهم وخطأهم؟

إنَّ هذه الحواس والعناصر الثلاثة هي وسائل معرفة الإنسان، فالاذن وسيلة للتعلم، واللسان وسيلة لنقل العلوم من جيل إلى آخر، والبصر هو وسيلة لاكتشاف العلوم والظواهر الجديدة، والذي يفقد هذه العناصر الثلاثة لا يمكنه الخروج من الطريق المنحرف كما لا يمكنه الرجوع إلى طريق الحق . لكن يطرح سؤال هنا وهو: انا نشهد المنافقين يتمتعون بالحواس الثلاث، فلم القرآن ينفيها عنهم؟


1. النور: 35.

[ 32 ]

نقول في الجواب: للقرآن منطقاً خاصاً فينُظر إلى كل شيء في معجم القرآن من حيث الاثار التي تترتب عليه، ووجود الشيء وعدمه يتوقف على وجود آثاره وعدمها.

وعلى هذا; فالذين يتمتعون بنعمة النظر لكنهم لم يستخدموه لمشاهدة آيات الله والاعتبار من مناظر الدنيا هم في الحقيقة عمي حسب رؤية القرآن. واولئك الذين يتمتعون بنعمة السمع لكنهم لا يصغون لكلام الله ولا صوت المظلومين والمستضعفين فهم صم في منطق القرآن. واولئك الذين يتمتعون بنعمة اللسان لكنهم لا يشغلونه في ذكر الله والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وارشاد الجاهل و.. فهم بكم في معجم القرآن. ووفقاً لهذا المعجم في مقياس اوسع اعتبر بعض الاحياء من الناس أمواتاً، وبعض الاموات احياءً، كمثال على ذلك يصف القرآن شهداء طريق الحق بأنهم احياء رغم انهم اموات ظاهراً.

( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الّذين قُتِلُوا فِي سَبِيْلِ اللهِ أمْوَاتاً بَلْ أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ).(1)

إنَّ الشهداء من وجهة نظر القرآن احياء; وذلك لانهم يحضون بالتأثير الذي يحضى به الإنسان الحي، فانهم يقوّون الإسلام وذكرهم يداعي في الاذهان المعروف والحسنات.

ويقول القرآن في مكان آخر: ( إنْ هُوَ إلاّ ذِكْرٌ وقُرْآنٌ مُبِينٌ ليُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ القَولُ على الكَافِرِينَ ).(2)

إنّ الأحياء من وجهة نظر القرآن المجيد وفق هذه الاية هم طائفتان: الاولى: المؤمنون الذين يعيشون حياة قرآنية. الثانية: غير المؤمنين وهم اموات يعيشون بين الأحياء، فإنّ الذين يفقدون الأذن الصاغية أموات حسب رأي القرآن.

وفي النتيجة إنّ المنافقين رغم ما يحضون به من اذن وعين ولسان، يفقدون الآثار الوجودية المترتبة على هذه الحواس. لذلك عُدّوا صمّاً وبُكماً وعُمياً من وجهة نظر القرآن، فهم إذن (لا يْرجِعُونَ) أي لا يرجعون عن طريق الباطل; وذلك لأنهم يفقدون آليات المعرفة; شأنهم شأن الذي تجتمع فيه صفات الصم والبكم والعمي وقد أخذ بالسقوط، فإنّا لا يمكننا انقاذه أبداً;


1. آل عمران: 169.

2. يس: 69 و 70.

[ 33 ]

لأنه لا لسان له ليستنجد ولا اذن له ليسمع تحذيرنا، ولا يملك عيناً ليرى بها علائم الخطر قبل أن يسقط.

 

8 - منشأ (النفاق)

للنفاق ثلاثة مناشىء:

الأول - العجز عن المواجهة والنزاع المباشر: ان الاعداء عندما يخسرون النزاع ويفقدون القدرة عليه بشكل مباشر، يتقمصون قميص النفاق ليستمروا بالعداء والخصومة. إنّ اعداء الرسول(صلى الله عليه وآله) كانوا يتظاهرون بالعداء له، لكنهم تظاهروا بالاستسلام عندما تغلب الرسول عليهم واستمروا يبطنون الكفر والعداء له وللإسلام وإنَّ أبا سفيان وأمثاله ضلوا منافقين إلى آخر عمرهم.(1)

ولأجل ذلك كان الإعتقاد بأن النفاق بدأ من المدينة; لأن الإسلام في مكة كان ضعيفاً، وما كان أحد يخافه. لذلك ما كان حاجة للتظاهر بالإسلام وتبطين الكفر الا انا نعتقد ان النفاق بدأ من مكة رغم ان دواعي النفاق في مكة لم تكن الخوف، بل داعي النفاق آنذاك هو توقع البعض مستقبلا زاهراً للإسلام، الأمر الذي يضمن لهم مستقبلا وموقعاً جيداً.

يمكننا مشاهدة هذا الاسلوب من النفاق في جميع الازمنة والثورات منها الثورة الإسلامية في ايران; فان بعض المنافقين هم الأعداء الذين خسروا المعركة ضد الثورة وعيوا النزاع المباشر والعلني.

الثاني - الإحساس بالحقارة الباطنية: ان الشخصيات الضعيفة والجبانة والتي تفقد الشجاعة اللازمة لابراز الاعتراض والتفوه بما يخالف الآخرين، تسعى هذه الشخصيات ان تسلك النفاق منهجاًً لحياتها ولتتجنب المواجهة بل تتظاهر بالاتفاق مع الجميع.

إن المنافق يتظاهر بالإسلام عند المسلمين ويتظاهر بعبادة النار عند عبدة النار، ويتظاهر


1. إنَّ الرسول(صلى الله عليه وآله) كان يعلم بحالهم لكن باعتبار ان مواجهتهم العلنية والمباشرة كانت تؤدي إلى نتائج لا يحمد عقباها اجتنب عن منازعتهم ومخاصمتهم وقد قال: «لولا اني اكره ان يقال: ان محمداً استعان بقوم حتى إذا ظفر بعدوه قتلهم لضربت أعناق قوم كثير» وسائل الشيعة ج18، ابواب حد المرتد، الباب 5، الحديث 3.

[ 34 ]

بالعلمانية عند العلمانيين; وذلك لضعف الشخصية، فهو لا يتجرأ التفوه بعقيدته الواقعية.(1)

الثالث - حب الدنيا: إنّ النفاق الدولي والعالمي لهذا العصر ينبع من هذا المنشأ . إن سبب الازدواجية في التعامل وانطلاق دعوات لاحترام حقوق البشر من قبل بعض الدول الاستكبارية في موارد، وسكوت ذات الدول في موارد أخرى، رغم ما تحصل من انتهاكات وجرائم ضد البشرية، هو حب الدنيا . فالدول تطلق هذه الدعوات متى ما تعرضت مصالحها للخطر وتستخدم هذه الحربة ضد الدول التي تعرض مصالحها للأخطار; إلاّ أنها تتغاضى عن هذه الانتهاكات إذا ما صدرت عن احد صديقاتها التي لا تعرّض مصالحها للخطر، حتى لو كانت الانتهاكات واضحة ولا شبهة فيها ولا تبرير لها.

القرآن المجيد يحكي نماذج بارزة ومؤلمة عن هذه الطائفة من المنافقين في الايات 75 - 77 من سورة التوبة:

( وَمِنْهُم مَنْ عَاهَدَ اللَه لَئِنْ آتينا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَدَّقَنَّ ولنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمّا آتاهُم مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُو بِه وتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فأعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فى قُلُوبِهِمْ إلى يَومِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أخْلَفُوا الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ) .

هذه الايات نزلت في ثعلبة بن حاطب، وكان من الانصار فقال للنبي(صلى الله عليه وآله): ادع الله ان يرزقني مالا. فقال: «يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه(2) أمّا لك في رسول الله اسوة حسنة؟ والذي نفسي بيده لو أردت ان تسير الجبال معي ذهباً وفضة لسارت».

ثم اتاه بعد ذلك فقال: يا رسول الله ادع الله ان يرزقني مالا والذي بعثك بالحق، لئن رزقني الله مالا لاعطين كل ذي حق حقه.(3) فقال(صلى الله عليه وآله): «اللهم ارزق ثعلبة مالا».


1. في حديث للامام علي(عليه السلام) اشار فيه إلى هذا المنشأ «نفاق المرء من ذل يجده في نفسَه» ميزان الحكمة الباب 9392، الحديث 20258.

2. مراد الرسول الاكتفاء بالحياة البسيطة والقناعة بها.

3. من الأمور المستفادة من هذه الرواية هو عدم الاصرار على الطلب. وقد جربت هذه القضية لمرات عديدة، فان عدم الاستجابة قد تكون لصالح الإنسان وهو لا يعلم بذلك كما يقول الله (عَسَى أن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُو خَيْرٌ لَكُم) الأمر صادق حتى بالنسبة إلى الطلبات المعقولة مثل الاصرار على التوفيق لاداء صلاة الليل فان عدم توفيقه قد يكون لاجل الحول دون ابتلائه بالعجب والرياء.

[ 35 ]

فاتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل وادياً من أوديتها، ثم كثرت نمواً حتى تباعد من المدينة فاشتغل بذلك عن الجمعة والجماعة. وبعث رسول الله(صلى الله عليه وآله) اليه المصدق ليأخذ الصدقة فابى وبخل وقال: ما هذه الا اخت الجزية،(1) فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله):«يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة»، وأنزل الله الآيات.(2)

أرجع القرآن سبب نفاق ثعلبة إلى بخله وحبه للدنيا وخلفه للوعد. والمدهش أنّ الآية الشريفة اعتبرت نفاق امثال ثعلبة مستمراً إلى يوم القيامة ولا يخرج من قلوبهم إلى يوم يلقون الله. اللهم اجعل عواقب امورنا خيراً.

إذا اردنا ان لا نبتلى بهذا المرض الخطر علينا تجنب مناشىء النفاق والابتعاد عنها، وبخاصة أنا في ليالي شهر رمضان المباركة، علينا ان ننهل من بركة هذه الليالي في الاسحار وذلك باداء صلاة الليل ولو باختصار ومن دون المستحبات جميعها والسجود واللجوء إلى الله والعوذ به من النفاق وجميع الذنوب والرذائل الأخلاقية.


1. كثير اولئك الذين لا يؤدون ما عليهم من خمس ويبررون عملهم باقاويل مثل: «نحن حصلنا على هذه الاموال بعرق جبيننا فلماذا نعطيها لغيرنا؟».

2. تفسير الأمثل 7: 124 - 125.

[ 36 ]

[ 37 ]

 

 

 

 

المثل الثاني: تمثيل آخر للمنافقين

 

يقول الله في الايتين 19 و 20 من سورة البقرة:

( أَوْ كَصَيِّب منَ السَّماءِ فيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبْرقٌ، يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُم فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ واللُه مُحِيطٌ بالكَافِرِينَ يَكَادُ البَرْقُ يَخْطِفُ أبصارَهُمْ كُلَّمَا أضاءَ لهُم مَشَوا فيه وإذا أظْلَمَ عليهم قامُوا ولو شَاء اللهُ لذَهَبَ بِسَمْعِهِم وأبصَارِهِم إنّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيء قَدِيْرٌ ) .

 

تنوع أمثال القرآن

أمثال القرآن متنوعة جداً. والله استعان بمختلف الأمثال لاجل ايضاح حقائق مهمة لها تأثير بالغ في تربية الإنسان وسعادته. تارة يمثل الله بالجمادات كما في الآية 17 من سورة الرعد: (أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فسَالَتْ أودِيَةٌ بِقَدَرِها فاحْتمَلَ السَّيْلُ زبَداً رابياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ في النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةً أو مَتَاع زَبَدٌ مثلُهُ كَذَلك يَضْرِبُ اللُه الحقَّ والبَاطِل.. ) .

لأجل ايضاح ماهية الحق والباطل استعان القرآن هنا بالتمثيل بالمطر، فانه عندما ينزل من السماء ينزل زلالا طاهراً، الا انه عندما يجري على الارض يتسخ بالوحل وبما على الارض من أوساخ، وتتبدل الاوساخ أحياناً إلى رغوة (زبد) وعندما يصل هذا الماء الجاري إلى أودية يفقد رغوته تدريجياً ليرجع إلى زلاله. والحق والباطل مثل هذا الماء فالرغوة الوسخة بمثابة الباطل والماء الجاري الطاهر بمثابة الحق.

وقد يمثل القرآن بالنباتات كما هو الحال في الاية 24 من سورة ابراهيم: ( ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ

[ 38 ]

اللهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيّبةً كَشَجَرَة طَيّبَة أصلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّماء ) .

إنّ أبرز مصداق للكلمة الطيبة هو كلمة (لا اله الا الله) فمثّلها الله بالشجرة الطيبة الخضراء دائماً.

وقد يمثل القرآن بالحيوانات ونموذج ذلك ما جاء في الاية 26 من سورة البقرة: ( إنَّ اللهَ لا يَسْتَحِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا... ) فمثّل هنا بحيوان صغير، كما مثل في سورة العنكبوت الآية 41 بالعنكبوت.

وقد يمثل القرآن بإنسان كما فعل في الآية 171 من سورة البقرة: ( وَمَثَلُ الّذينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إلاّ دُعاءً ونِِدَاءً صُمٌ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) .

مثل الله تعالى الرسول(صلى الله عليه وآله) في الاية بالراعي والكفار بالحيوانات التي يرعاها الراعي.

إنّ اهم سبب لتنوع أمثال القرآن هو تبسيط الفهم وتعميقه عند المخاطبين الاوائل للقران وهم العرب الاميون في عهد الجاهلية وكذا المسلمون فانهم باستثناء عدد قليل منهم كانوا اميين وما كانوا يتمتعون بحظ وافر من الفهم والتعقل.

وما كان بالامكان تفهيمهم المفاهيم القرآنية الا بهذا الأسلوب وبآلية التمثيل التي تجسد المفاهيم القرآنية الرفيعة.

على الجميع وبخاصة العلماء والفقهاء والخطباء و.. ان ينتهجوا منهج القرآن هذا، ليسهلوا على المخاطب إدراك المفاهيم ويؤثروا في نفسه ويجذبوه نحوها. إنَّ القرآن الذي هو من تجليات الجمال الإلهي هو بنفسه مظهر للجمال الكلامي. وعلى هذا ينبغي اتباع القرآن في تسهيل الكلام وتنميقه، ونحن نعدُّ هذا أصلا قيمياً.

اولئك الذين تحضى كتابتهم بالتعقيد وصعوبة الفهم ويعدون استخدام اسلوب التسهيل في الكتابة علامة على قلة العلم، هم في الحقيقة انتهجوا منهجاً عكس المنهج الذي سلكه القرآن.(1) نأمل من الجيل الشاب للحوزة العلمية وطلاب الجامعة ان يعدوا سهولة البيان فناً


1. يقول الله في الاية 4 من سورة ابراهيم (وَمَا أرْسَلْنَا مِنْ رَسُول إلاَّ بِلسَان قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) كما قال الرسول(صلى الله عليه وآله)مراراً: «أمرنا ان نكلم الناس على قدر عقولهم» بحار الانوار 1: 85.

[ 39 ]

وقيمة ويعدوا صعوبة الكلام وتعقده كعمل غ الشرح والتفسير

الآيات ماضية الذكر(1) تحدثت عن المنافقين وخطر النفاق، وقد تكون آيات المثل السابق ناظرة إلى مجموعة خاصة من المنافقين; وهذه الايات ناظرة إلى مجموعة أخرى من ذوي الوجهين.

إنَّ مثل هؤلاء المنافقين حسب هذه الايات كمثل المسافر الذي يضل في صحراء ويتخلف عن قافلته في يوم ممطر ولا ملجأ يأويه ولا صديق يعينه ولا يعلم الطريق ولا ضوء ينير له الطريق، في وقت ملئت ظلمات الغيوم السماء بحيث لا يصله حتى نور النجوم الضعيف، والسماء ترتعد، والبرق لا يزيده الا خوفاً ودهشة، وذلك لشدة صوت ووقع الرعد والبرق في الصحاري، وكأنّ البرق يريد أن يخطف بصره ويعميه، وخوفه من الرعد يجره لوضع اصابعه في اذنيه وهو مرتجف خوف موت الصاعقة. ان المنافق بمثابة هذا المسافر.

( ... واللهُ مُحِيطٌ بالْكَافِرِينَ ) لقد فسرت الاحاطة في الاية بتفسيرين: الاول: الاحاطة العلمية لله. الثاني: احاطة الله من حيث قدرته. فاذا كانت الاحاطة بمعناها الاول فالاية تعني أنَّ الله يعلم بالكافرين. واذا كانت الاحاطة بمعناها الثاني فالاية تعني ان الله قادر على كل شيء ولا يخرج شيء عن دائرة قدرته.

( يَكَادُ البَرْقُ يَخْطِفُ أبْصَارَهُم ) وذلك لأنَّ الإنسان إذا اعتاد على مكان مظلم، ثُمَّ يُسلِّط على عينه ضوءً قوياً، فانه سيكون حينئذ عرضة للعماء وفقدان البصر.

( كُلَّمَا أضَاءَ لَهُم مَشَوْا فِيه ) هذا المسافر عندما يشاهد البرق يفرح لأنّه اضاء له الطريق، لكن فرصته لم تدم; لأن الضوء سريعاً ما ينطفئ.

( وإذا أظْلِمَ عَلَيْهِم قَامُوا ) أي يتوقف المسافر بعد ان انطفئ نور البرق، ويرجع إلى حيرته السابقة.


1. الايات 19 - 20 من سورة البقرة.

[ 40 ]

( وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبْصَارِهِمْ ) .

شأن المنافق شأن هذا المسافر حيث يفيد من نور الايمان، لكن بما أنّ ايمانه ظاهري لم يستمر الا لمدة محدودة وما يمضي زمن طويل حتى يفتضح ويغرق تارة أخرى في ظلمات ريائه وكفره ونفاقه.

 

خطابات الآية

1- كيفية ايجاد البرق والرعد والصاعقة

إنّ البرق يحصل اثر اصطدام غيمتين أحدهما تحمل شحنات موجبة واخرى شحنات سالبة والاصطدام هذا يولد الضوء المعروف بالبرق; كما ان صوتاً شديداً يحصل اثر هذا الاصطدام يعرف بالرعد. وكلما كانت الغيمتان كبيرتين كان البرق والرعد أعظم; وذلك لكثرة الشحنات المحمولة من قبل كل من الغيمتين.

أمّا الصاعقة فتحصل اثر اصطدام غيمة ذات شحنات موجبة مع مانع ارضي من قبيل الجبل أو الشجرة أو الإنسان، ونتيجة ذلك هي اشتعال الشيء المصطدم به - إذا كان قابلا للاشتعال - وتبدله إلى كومة من الرماد بسرعة مدهشة، ولذلك يقال: إنَّ الصاعقة خطرة على الإنسان إذا كان في سهل.

ما يلفت الانتباه هنا هو أنَّ بعض الروايات عدت الرعد والبرق نتيجتين لاعمال موجودات ميتافيزيقية، فاعتبرت الرعد اصواتاً للملائكة والبرق من آثار جلد الملائكة للغيوم والسحب.(1) وهذا أمر يتنافى مع المسلمات العلمية للعصر الحاضر، كما ان هذا الاختلاف يطبع تساؤلا في ذهن المتأمّل.

يا ترى أي الامرين هو السبب الحقيقي والواقعي للرعد والبرق؟

في الجواب نقول: لا تضاد بين التبرير العلمي والديني لظاهرتي البرق والرعد; وذلك لأنَّ احد معاني مفردة الملك الواردة في الروايات هو القوى الطبيعية التي خلقها الله، فالجاذبية


1. من لا يحضره الفقيه 1: 334، الحديث 9 و 10.

[ 41 ]

والسحاب وغيرها من الظواهر الطبيعية التي سميت في الروايات ملكاً. لقد جاء في رواية أنَّ كل قطرة تنزل من السماء يحتضنها ملك وينزلها إلى الارض.(1)

وبهذا التبرير أي اعتبار الجاذبية ملكاً يمكن القول بعدم التضاد بين الرؤى والكشفيات العلمية مع ما ورد في الروايات الدينية، بل ينطبق احدهما على الاخر وتحل بذلك عقدة التضاد الظاهري بينهما.

 

2- الاختلاف بين المثلين

المثلان يتعلقان بالمسافر الذي ضل الطريق في صحراء; لكن المسافر في المثل الأول يواجه خطر المجاعة والعطش والافتراس من قبل الحيوانات، أمّا في المثل الثاني فان الأخطار التي تحدق به هي الاعصار والسيول والرعد والبرق والصاعقة. ومن الطبيعي ان تكون شدة الاخطار في المورد الثاني اكثر من المورد الأول وتجعل حياته عرضة للموت بشكل اشد.

يعتقد البعض أنَّ المثلين يحكيان حال طائفة خاصة وهي طائفة المنافقين عموماً، إلاّ أنِّي أرى أنَّ كلا من المثلين يحكي حال قسم من المنافقين، فان المنافقين ينقسمون إلى قسمين:

القسم الاول: هم المسلمون الذين ضعف ايمانهم عن مواجهة المطامع المادية والدنيوية مثل المال والجاه والمقام، فلا يهابون الكذب وخلف الوعد ونكث العهد; وصولا لمآربهم الشخصية، فهم في النتيجة (مسلمون ضعيفو الإيمان) امثال ثعلبة بن حاطب الذي تكلمنا عنه في الصفحات الماضية.

والقسم الآخر للمنافقين: هم اولئك الذين لم يدخل الايمان في قلوبهم ابداً وقد تظاهروا به فحسب دون ان يحملوه، وذلك خوفاً من قدرة الإسلام أو طمعاً بمصالح المسلمين، فهم في النتيجة (كفار متظاهرون بالاسلام) أمثال أبي سفيان ومعاوية ومروان.

ومن الواضح أنّ القسم الثاني هم الاعداء اللدودون للإسلام ووجودهم يشكل خطراً على الإسلام والمسلمين يفوق خطر القسم الاول بمرات، ولذلك نرى أنّ المثل الأول ناظر إلى


1. من لا يحضره الفقيه 1: 333، الحديث 5.

[ 42 ]

القسم الاول من المنافقين، والمثل الثاني ناظر إلى القسم الثاني من المنافقين الذين يعدّ خطرهم أشد وأعظم من خطر القسم الأول.

 

3 - عالم النفاق أو النفاق العالمي

للنفاق مستويات مختلفة، فمنه ذات المستوى الفردي ومنه ذات المستوى الجماعي والحكومي والعالمي. ومما يؤسف له أنّ عالمنا اليوم عالم منافق حيث يدعو لشيء ويعمل بما يخالف دعوته، والحدث الآتي ذكره من أبسط مظاهر النفاق العالمي واوضحها في ذات الوقت.

أرسل الإنسان في سنة من السنوات الماضية كلباً في مركب فضائي وذلك لدراسة تأثير الفضاء على الموجودات الحية، وبعد هبوط المركبة على وجه الارض وجد الكلب ميتاً.

اذاعة هذا الخبر آثار إعتراضاً من قبل منظمات الدفاع عن حقوق الحيوانات وكذا غيرها من المؤسسات والجمعيات وقد كان محور الاعتراضات هو: لماذا قتلتم حيواناً في سبيل تجربة علمية؟

إنَّ هذه الاعتراضات تكشف عن الوجه الظاهري النزيه للمجتمع الدولي، إلاّ أنا نشاهد حالياً مقتل العشرات بل المئات والآلاف من المواطنين الجزائريين في مجازر جماعية دون أنْ تطلق صرخات ضد هذه المجازر.

لمن تلك الايادي التي ترتكب هذه المجازر من دون ان تلاقي اعتراضات معتد بها ؟ يا لها من أيد لا تستطيع الشرطة بل ولا الجيش ان تقف امامها ؟ انها ايدي العالم المتستر والمتقمص قميص الدفاع عن حقوق الحيوانات فضلا عن حقوق البشر. ألا يمكن ان نقول: ان هذا العالم هو عالم منافق؟ واي نفاق يرتكبه؟ انه نفاق وقح، فيه صرخات تعلو وتشتد لاجل قتل كلب، كما فيه سكوت على قتل الشعوب وارتكاب المجازر الجماعية.

إن الإسلام ووجدان البشرية ينفر من هذا النفاق العالمي ونحن مطمئنون بان زعماء النفاق سيفتضحون يوماً ما.

الهي اكف المستضعفين وبخاصة المسلمين شر هذا النوع من النفاق.

 

[ 43 ]

- ظهور المنافقين في الإسلام

هل (جذور النفاق) بدأت من المدينة ام من مكة؟ قضية مختلف فيها.

ولاجل ايضاح الموضوع ودراسة تاريخ النفاق والمنافقين في الإسلام نستعين بالقرآن المجيد، فقد جاءت آيات كثيرة في مجال النفاق، والدراسة الاجمالية للموضوع يكشف عن استخدام هذه المادة 37 مرة في القرآن.

لكن أمر النفاق والمنافقين لا ينحصر في هذه الموارد المحدودة; وذلك لانا نجد الكثير من الايات تعرضت لهذه القضية من دون ذكر لهذه المادة أبداً، كما هو الحال بالنسبة لثلاثة عشر آية من الايات الاوائل لسورة البقرة(1) فقد كان موضوعها النفاق من دون ان يأتي ذكر لمادة النفاق مباشرة بل استخدمت مواد مرادفة لمادة النفاق.

إنَّ الايات السبع والثلاثين التي تضمنت مادة النفاق، نزلت كلها في المدينة; ومن هنا يمكننا ان نستنتج ان القائلين ببدء النفاق من المدينة نظروا إلى ظاهر القرآن، إلاّ أنّ الافضل لنا ان نرجع إلى الوراء قليلا لننظر إلى تاريخ حياة الرسول(صلى الله عليه وآله) والنبوة وكيفية التبليغ ومراحل جهاد الرسول لاعداء الإسلام.

 

مراحل جهاد الرسول لاعداء الإسلام

ان مواجهة الكفار و المشركين للرسول(صلى الله عليه وآله)والدين الاسلامي الحنيف ذات مراحل ست:

المرحلة الاولى: الاستهزاء والاستخفاف بالدين

بُعث محمد نبياً في غار حراء ونزلت آنذاك اول آيات القرآن عليه، وأصبحت دعوته علنية بعد ثلاث سنوات من الكتمان والتستر في دعوة الناس إلى الدين الجديد.

كان المشركون والوثنيون يعتبرون هذا الدين خطراً على مصالحهم، لكنهم ما كانوا يأخذونه مأخذاً جدياً لذا بادروا إلى الاستهزاء بالرسول ونسبة الجنون اليه.

يقول الله في هذا المجال في الاية 6 من سورة الحجر: ( قَالُوا يَا أيُّها الّذي نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرَ إنَّكَ


1. من الاية الثامنة وحتى العشرين.

[ 44 ]

لَمَجْنُونٌ )(1) وكانوا يستهدفون من ذلك عدم اخذ الناس هذا الدين مأخذاً جدياً، وعدم الاعتناء والتصديق بكلام الرسول; إلاّ أنّ المسلمين رغم هذه الاتهامات كانوا يزدادون يوماً بعد اخر، وكان الناس وبخاصة الشباب(2) منهم يصغون لكلام الرسول وينجذبون اليه، لذلك باءت مواجهتهم في هذه المرحلة بالفشل، وباتوا يفكرون بمواجهة أخرى ومرحلة أخرى من التصدي.

 

المرحلة الثانية: نسبة السحر والشعر للرسول(صلى الله عليه وآله)

بما أنّ الكفار لم ينجحوا في الحد من تأثير الرسول على الناس، من خلال المرحلة الاولى من المواجهة، بادروا إلى التصدي له بنعته بالكذب والشعر والسحر. إنّ النسبة هذه تعني أنهم قالوا للناس: إنّ تأثير الرسول فيهم لأجل كونه - نعوذ بالله - ساحراً ذكياً وشخصية مرموقة ويجذب النفوس نحوه لعلمه بالشعر وامتهانه مهارة انشاده. ولو كان كلامه كلاماً عادياً ما كان يجذب الناس بهذه الشدة. يقول القرآن في هذا المجال في الاية 4 من سورة (ص): « وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذّابٌ ).(3)

لم توفّر آلية المواجهة هذه جميع الاهداف التي كانوا يستهدفونها، وذلك لأن عدد المسلمين لا زال في تزايد مستمر والرجال والنساء والشباب والشيوخ لا زالوا يتوافدون على الرسول ليعلنوا الإسلام، وكان نتيجة ذلك ان بادر الكفار إلى تغيير اسلوبهم في المواجهة.


1. وقد تكررت هذه الإتهامات في آيات أخرى نقلا عن المشركين، وهي: الدخان: 14 والطور: 92، والقلم: 2، و51 والتكوير: 21. ويستفاد من آيات القرآن ان اول مواجهة يخوضها المشركون والكفار لرسول يبعث لهم هي نسبة الجنون إليه. وللمزيد يمكن مراجعة الايات التالية: الذاريات: 39 و52، الصافات: 36، الشعراء: 72، نوح: 9.

2. لقد كان لجيل الشباب دور فاعل في تمكن الإسلام وامتداده في بقاع الارض; وحالياً للشباب نفس الدور الذي كان للشباب في صدر الإسلام; فما دام الشباب في حضن الإسلام لا خطر يواجه هذا الدين. ولهذا ينبغي العناية الخاصة بهذه الشريحة في بلداننا.

3. ان هذه التهمة لم تختص برسولنا، بل شملت الكثير من الرسل حيث يقول الله في الاية 52 من سورة الذاريات: (كَذِلك ما أتَى الّذين مِنْ قَبْلِهِم مِنْ رَسُول إلاّ قَالُوا سَاحِرٌ مَجْنُونٌ) وقد جاءت آيات كثيرة من القرآن متناولة الموضوع ذاته.

[ 45 ]

المرحلة الثالثة: المحاصرة الاقتصادية وقطع العلاقات

إنَّ فشل أساليب التهم ونسبة الجنون وغيره إلى الرسول جعلت الكفار والمشركين يفكرون بالمواجهة العملية، لذلك فرضوا حضراً على المسلمين وحبسوهم في مكان يدعى (شعب ابي طالب)، فمنعوا التردد عليهم والتعامل معهم.

لقد صبر المسلمون مدة ثلاث سنوات في ذلك الشعب الخالي من الماء والكلاء، وتحملوا المشاكل التي واجهتهم آنذاك وثبتوا ولم تزل أقدامهم.(1) والمكان هذا رغم انه مشجر حالياً إلاّ أن الإنسان لا يطيق قراءة الفاتحة على قبر ابي طالب(عليه السلام)هناك، وذلك لشدة الحرارة، والمسلمون آنذاك صمدوا وثبتوا، وقد قضى البعض نحبه هناك، رغم ذلك لم يستسلموا للاعداء.

وبعد تجييش عواطف اهالي مكة بادر البعض إلى فك الحصار عنهم شيئاً فشيئاً إلى ان فقد الحصار تأثيره وباءت جهود الكفار مرة أخرى بالفشل الذريع وما باتت هذه الآلية تجدي نفعاً.

 

المرحلة الرابعة: التدبير لاغتيال الرسول(صلى الله عليه وآله)

لقد شاهد المشركون من جانب فشل آليات التصدي للرسول والمسلمين ومن جانب اخر شاهدوا انتشار الدعوة الاسلامية بشكل سريع بين الناس وإدبارهم عن الاصنام; لذا فكروا باجراءات جدية وخطرة اكثر من ذي قبل وقد استهدفوا في هذه المرحلة شخصية الرسول(صلى الله عليه وآله) ذاتها. فقد وجد زعماء قريش حلولا ثلاثة لمشكلتهم:

الأول: نفي الرسول(صلى الله عليه وآله) خارج مكة حفظاً لمصالح الكفار في مكة.

الثاني: حبسه للحيلولة دون اتصاله بالناس والمسلمين.

الثالث: قتله.


1. ان الإسلام الذي بلغنا حالياً هو نتيجة للمشاق والزحمات والشهادات والتضحيات التي تحملها الاوائل، لذلك كان علينا لزاماً ان نسعى لحفظ هذا الدين بالقول والعمل.

[ 46 ]

نتيجة شوراهم كان قرار قتل الرسول في ليلة المبيت(1) حيث حاصر أربعون شخصاً من شجعان العرب بيت الرسول(صلى الله عليه وآله) ليقتلوه في صباح تلك الليلة. اطّلع الرسول(صلى الله عليه وآله)على مؤامرتهم بوحي الهي فامر الامام علي(عليه السلام) ان ينام في فراشه آنذاك، وخرج بشكل معجز من بيته قاصداً يثرب (المدينة)، إلاّ أنه تحرك خلاف اتجاه وطريق المدينة لخداع المشركين، وبعد ان اطلع المشركون على تملُّص الرسول قاموا بتعقيبه وتتبع خطواته، لكنَّ الله شاء بقدرته ان يصل الرسول المدينة بسلامة ليقيم اول حكومة اسلامية زادت من قدرة المسلمين وشوكتهم.

 

المرحلة الخامسة: الحروب المتوالية ضد المسلمين

بعد ما نجع الكفار من النيل من شخصية الرسول(صلى الله عليه وآله) سلكوا طريق المواجهة المسلحة، وذلك لعدم نجاح آليات الحرب النفسية التي سلكوها ضد المسلمين لردهم عن دينهم وللحد من توسع رقعة الإسلام.

إنّ الإسلام يهدد سلطة الكفار ومصالحهم; ولاجل القيام بمهمة المواجهة العسكرية هموا في البداية اعداد رجال مكة ثم رجال القبائل الاخرى لبدء سلسلة حروب عسكرية متوالية ومتواصلة كانت معركة (بدر) البداية ومعركة الاحزاب(2) هي الذروة.

لقد استفاد كفار قريش في معركة الاحزاب من جميع ما توفر لهم من امكانيات وقوى، وكما يبدو من اسمها فان جميع قبائل العرب وطوائفهم اجتمعوا واعدوا انفسهم للنزال ضد الإسلام ولقتل الرسول ورجال المسلمين وللإغارة على اموالهم ولهدم بيوتهم، وسبي نسائهم والقضاء على الإسلام في النهاية.

تشير الآيتان 9 و 10 من سورة الاحزاب إلى هذه المرحلة من المواجهة: ( يَا أيُّها الّذِيْنَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللِهِ عَلَيْكُم إذْ جَاءَتْكُم جُنُودٌ فأرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيْحَاً وجُنُودَاً لَم تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ


1. الاصطلاح يطلق على الليلة التي نام فيها الامام علي(عليه السلام) مكان الرسول(صلى الله عليه وآله) ليموّه على خروج الرسول من بيته. ولاجل هذه التضحية العظيمة نزلت الاية الشريفة التالية في حقه(عليه السلام): (وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ واللهُ رؤوفٌ بالعِبَادِ).

2. بعد الاحزاب كانت معارك أخرى الا انها ليست بمستوى الاحزاب من حيث الاهمية.

[ 47 ]

بِمَا تَعْمَلُون بَصِيْراً، إذ جَاؤوكُم مِنْ فَوْقِكُم وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجرَ وتَظُنُّونَ باللهِ الظَّ نُونا ) .

إنّ هذه الايات أهل للتأمل من حيث أنها تكشف عن معاناة المسلمين في صدر الإسلام.

وحسب هذه الآيات، فإنّ العَدُو حاصر المدينة مِنْ جميع الجهات، وقد بلغت اعدادات الاعداء وعدتهم إلى مستوى جعلت أبصار المؤمنين تزيغ، وقلوبهم تبلغ الحناجر; وذلك لأن المسلمين قليلون وعدتهم محدودة وأسلحتهم بسيطة، وهذا هو السبب في نفوذ الرعب والخوف في قلوب ضعاف الايمان من المسلمين حيث كانت عبارات التزلزل والشك تدور في اذهانهم وقد يكون المسلمون جميعاً باستثناء الرسول(صلى الله عليه وآله) والإمام علي(عليه السلام) وعدة قليلة من المسلمين تزلزلوا إيماناً. فان ضعيف الإيمان يتزلزل عند مواجهته لأزمة شديدة، عكس قوي الايمان حيث يقوى ايمانه ويزداد ثباته عند مواجهة الأزمات والمشاكل.

إنّ معركة الاحزاب كانت ساحة للإختبار لتمييز المؤمنين الحقيقيين عن غيرهم من ضعاف الايمان والمترددين في إيمانهم. إنّ نهاية هذه المعركة كان لصالح المسلمين ولم تحصل مواجهة واراقة دماء الا في مورد واحد، حيث قتل الإمام علي (عليه السلام) عمرو بن ود.

عسكر الاعداء ابتلي باعصار شديد، ولشدته كانت تقلع خيامهم من اماكنها وتقلب قدور الطعام، كما سادهم خوف واضطراب وخيبة امل اجبرت أبا سفيان وغيره من زعماء الكفر على الرجوع كالجيش الخاسر، وبذلك تحقق وعد الله بنصر المؤمنين تارة أخرى، ونجى المؤمنون من خطر كبير كان يهدد وجودهم ودينهم، فكان نصراً للمسلمين اضفى عليهم قدرة وعظمة جعلت مكة وضواحيها لا تفكر بعدئذ بحرب مع المسلمين. ولاجل هذا استسلمت بعد فترة من الزمن مكة واهاليها ليصبح الإسلام القوة الوحيدة في بلاد الحجاز.

 

المرحلة السادسة، اللجوء إلى اخطر سلاح (النفاق)

رغم انتكاسة الاعداء في حرب الاحزاب وخسرانهم الحرب آنذاك، ورغم ما ترتب على هذه الانتكاسة من عدم تفكيرهم بعدئذ بدخول حرب مع المسلمين، إلاّ أنّ ذلك ما كان يعني تركهم لمعارضة الإسلام ومخالفته. إنّ الأعداء، اثر ادراكهم فشل وسائل المواجهة السابقة

[ 48 ]

واقرارهم بذلك، بدأوا يفكرون بوسيلة ناجحة وفضلى للتخريب والدمار، وما كانت وسيلتهم الجديدة إلاّ النفاق.

إنّ الأعداء خسروا الحرب مع المسلمين، وهو أمر جعلهم في النهاية يستسلمون ويفتضحون إلاّ أنهم لم ينسوا حربهم مع الإسلام وعدائهم له، وقد تستروا في هذه المرحلة من المواجهة بنقاب النفاق وانتظروا يترصدون الفرصة للنيل من الإسلام وانزال الضربة القاصمة فيه. والآية الشريفة الأولى من سورة المنافقين ناظرة إلى هذه المرحلة من المواجهة ( إذا جاَءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنّكَ لَرَسُولُ اللهِ والُله يَعْلَمُ إنّكَ لَرَسُولُه واللهُ يَشْهَدُ إنّ المُنَافِقِينَ لكَاذِبُونَ ) .

وبهذا الشكل تشكّل تيار النفاق ليصبح تدريجياً كالسيل الجارف،(1) وظاهر هذه الآية وايات أخرى هو أنّ النفاق بدأ من المدينة. لكن هذا لا يعني أنّ مكة كانت تخلو من النفاق والمنافقين، فقد يملك البعض قدرة حدس وتخمين المستقبل وفكراً سياسياً قوياً، وكان من خلال ذلك قد رأى النصر النتيجة الحتمية لنشاطات الرسول(صلى الله عليه وآله)، ولا يمكن بلوغ المقامات العليا آنذاك إلا من خلال التظاهر بالايمان الواقعي والقوي والتماشي مع هذا التيار.

 

نتائج الأمثال

يمكننا الخروج بالنتيجة التالية من الآيات الأربع للمثلين السابقين: (المنافق لا ثبات له) وانه يعاني من حالات نفسية منها الوحدة والخوف والوحشة والاضطراب والفضيحة، كما تُتصور في حقه جميع الأخطار التي عدت للمسافر الذي ضلّ الطريق في الصحراء. أمّا المؤمن فيحضى بهدوء وسكينة واطمئنان خاص يحصل في ظلّ الإيمان الخالص باللّه.

ما أحسن ما قال الله تعالى في هذا المجال: ( الّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْم أُولئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ).(2)


1. ان الثورة الاسلامية في ايران واجهت نفس المراحل الست، وقد شهدناها قبل الثورة وبعدها فكان منها الاستهزاء بالامام الخميني (قده) واهانته ونفيه إلى الخارج والحصار الاقتصادي والحروب المسلحة الداخلية منها والخارجية، والنهاية هو النفاق الذي كانت منظمة خلق ايران نموذجاً بارزاً له.

2. الأنعام: 82.

[ 49 ]

وقد فسّر الظلم في الاية بتفسيرين، الاول: هو الشرك، أي أنّ ( إيْمَانَهُمْ بِظُلْم ) تعني الإيمان الخالص الذي لم يمتزج بالشرك. والثاني: هو المعنى المعروف والمتبادر من المفردة، أي أنّ المؤمن الذي لم يمتزج ايمانه بظلم لأحد فله الأمن وهو مهتد.

ونقرأ في آيات أخرى: ( ألا إنّ أوْلِيَاءَ الله لا خَوْفٌ عَلَيْهِم وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الّذينَ آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُم البُشرَى فِي الحيوةِ الدُّنْيَا وفي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذَلك هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ ).(1)

إنَّ عدم الأمن والاضطراب والخوف والوحشة في الدنيا، وعذاب جهنم في الآخرة هو نصيب المنافقين، أمّا المؤمنون فنصيبهم الأمن والسعادة والفلاح.

وهذا أمر اثبت العلم الحديث صحته، ففي مؤتمر حمل عنوان (تأثير الدين على نفس الإنسان)، توصل العلماء المشتركون فيه إلى ان المؤمنين قليلا ما يبتلون بالامراض النفسية وكثيراً ما نجد هذا النوع من الامراض في الذين يفقدون الايمان بالله; وذلك لأنّ غير المؤمن يشعر بالوحدة دائماً وتهزه ابسط المشاكل.

أمّا المؤمن فيرى الله معه، يتوكل عليه في الحوادث ويبدي الثبات والصبر من نفسه دائماً، فإذا فقد أحد أعزته قال: ( إنَّا للهِ وإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ )(2) وبهذا الإعتقاد تسهل عليه الوطئة وتتغمده رحمة الله وألطافه كما تقول الاية 157 من سورة البقرة.

وهو إذا فقد رأس ماله لا يأسى ولا يحزن، كما انه إذا اتاه شيء ثمين لا يفرح ولا يفخر ( لَكَيْلا تأسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ واللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَال فَخُور )(3)

وإذا حصلت له حوادث أخرى فيعدها امتحانات الهية تسلك به نحو الكمال في الدنيا وتدرُّ عليه الثواب والأجر في الآخرة. فهو لا يلعن الزمان ولا المكان بل يشكر الله ويحكّم ايمانه بالله ويقوّيه. واذا ما تصفحنا سيرة عظمائنا لوجدنا مفاهيم هذه الايات متجسدة فيهم عملياً.

 


1. يونس: 26- 64.

2. البقرة: 165.

3. الحديد: 23.

[ 50 ]

سعيد بن جبير عند الموت

إن سعيد بن جبير من العظماء والأولياء، كما انه من انصار الامام السجاد(عليه السلام)، فقد كان مؤمناً حنيفاً ومتوكلا على الله في اعماله، وقد ابتسم عند مقتله.

عندما جي بسعيد بن جبير إلى الحجاج(1) دار نقاش بينهما استهدف الحجاج عبره النيل والاستهزاء بسعيد، إلاّ أنَّه ما استطاع، لقدرة سعيد على الكلام، فامر بقتله وقال له: اختر أي قتلة شئت ! قال:اختر لنفسك فان القصاص امامك. ولما أمر بقتله قال ( وَجَّهْتُ وَجْهِي للّذي فَطَرَ السَّمَواتِ والأَرْضَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكينَ )(2) فقال: شدوا به لغير القبلة. فقال: ( أيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ).(3) قال: كُبوَّه على وجهه. فقال: ( مِنْها خَلَقْنَاكُم وَفِيْها نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارةً أُخْرَى ).(4)

وبعدما أمر الحجاج بقتله دعى سعيد بهذا الدعاء (اللهم لا تسلّطه على احد بعدي)، وقد استجيب دعاؤه ولم يبق الحجاج بعده الا خمسة عشرة ليلة(5) ولم يقتل بعده الحجاج احداً. وقد مات الحجاج اثر مرض كان يشعر خلاله بالبرودة والرعشة بحيث كان يدخل يديه في النار وتحترق وهو لا يشعر بها. ولما جاءه احد الوجهاء وطلب منه ان يدعو له، ذكّره بما قد أوصاه سابقاً من عدم الاكثار في القتل.

نعم إنَّ الامان في الدنيا للمؤمنين فقط دون المنافقين، ودين الله ليس للاخرة فقط بل هو منهج للحياة الدنيا كذلك.


1. يقول احد الكتّاب في الحجاج: «لو كانت هناك مسابقة تعرّف من خلالها الملل والنحل طغاتها وجناتها وعرّفنا نحن المسلمون الحجاج في تلك المسابقة لربحنا تلك المسابقة قطعاً».

ويبدو انه منصف في كلامه وليس الأمر بعيداً عن الواقع; فانَّ قطع رؤوس المعارضين له ومشاهدة فوران الدم من الجسد والشرايين هي احد موارد ترفيهه والتذاذه، وكان يصّرح بالتذاذه بمشاهدة هذه المناظر.

2. الأنعام: 79.

3. البقرة: 115.

4. طه: 55.

5. سفينة البحار، مادة سعد.

[ 51 ]

 

 

 

 

المثل الثالث: قسوة القلب

 

يقول الله في الاية المباركة 74 من سورة البقرة:

( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْد ذَلك فَهِيَ كالحِجَارَةِ أوْ أشَدُّ قُسْوَةً وإنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وإنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءَ وإنّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وما اللهُ بِغَافِل عَمَّا تَعْمَلُونَ ) .

الآية الشريفة جاءت في بني اسرائيل وضربت مثلا جميلا في قسوة قلوبهم; فان دفتر أعمالهم مسوَّد على طول التاريخ. وإن التعصب واللجاجة والتحجج والغرور والضغينة تجاه الانبياء والمقاومة قبال الحق من خصال هذا القوم العاصي والكافر لنعم الله.

لقد شاكس هذا القوم المسلمين ونافق ضدهم، فمن جانب كانوا يتعاهدون مع المسلمين ومن جانب اخر ينالون منهم بخنجر من الخلف. إنَّ عداء هذا القوم المعاند للمسلمين لم تنته ابداً ولا زال مشهوداً في عصرنا هذا، بل هو حالياً بلغ ذروته. ويمكن القول: إنَّ اكبر صفعة نالتها الامة الاسلامية كانت من بني اسرائيل ومن قسم خاص منهم معروف باسم (الصهاينة); انهم في الدول الاسلامية منشأ الفساد والقتل والنزاعات والاختلافات والفحشاء واللامبالاة تجاه الاحكام الاسلامية والربا و.. إنَّ انتهاكاتهم ومظالمهم لو جمعت في مكان واحد لاصبحت كتاباً ضخماً بل كتباً. إنَّ قسوة قلوبهم بلغت درجة حيث لا يرحمون حتى انبيائهم فضلا عن غيرهم، وقد حمل منهم نبيهم موسى(عليه السلام) الكثير.

 

[ 52 ]

قصة بقرة بني اسرائيل

الاية الشريفة جاءت بعد آيات حكت قصة بقرة بني اسرائيل; وخلاصة القصة محكية في الايات 67 - 73 من سورة البقرة نأتي بها هنا:

قُتِل شخص من بني اسرائيل من دون ان يعرف القاتل، وهو أمر سبب اختلافاً بين القوم. وعادة عندما يُقتل شخص يسعى البعض ان يرجعه إلى عملية تصفية الحسابات فيلقي القتل على عاتق اطراف خاصة. وقد كان اصل الحادث ان شخصاً قتل عمه الثري، وقد كان الشاب الوارث الوحيد لعمه وكان منزعجاً من جراء تأخر وفاة عمه فقتله لينال نصيبه من الارث في وقت مبكر. وقد عدَّ البعض حبّ الشاب لابنة عمه هو سبب القتل; وذلك لان العم رغم حبه لابن اخيه زوج ابنته من شخص آخر.

إنَّ بث خبر مقتل هذا الشخص اثار ضجة شديدة جعلت البعض ومنهم القاتل الحقيقي يبحثون عن القاتل، فكانت الفتنة العظيمة وكان الموقف يوشك على نزاع بين القبائل ليتبدل إلى حرب شاملة، فطلبوا من موسى ان يحل لهم المشكلة فكانت المساءلة التالية حسب ما دونها القرآن:

( وإذْ قَالَ مُوسَىَ لِقَومهِ إنَّ الله يَأمُرُكُم أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أتتَّخذُنا هُزُواً ) ؟

( قَالَ أعُوذُ باللهِ أن أكُون مِنَ الجَاهِلِينَ ). أي أنَّ الاستهزاء من عمل الجاهلين، والانبياء مبرؤون من ذلك.

بعد أن ايقنوا جدية المسألة، ( قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّك يُبَيِّنُ لَنَا مَا هِي ) ؟

أجابهم موسى(عليه السلام): ( قَالَ إنَّهُ يَقُولُ إنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلك )، أي لا كبيرة هرمة ولا صغيرة بل متوسطة بين الحالتين ( فافْعَلُوا ماَ تُؤْمَرُونَ ) لكن بني اسرائيل لم يكفوا عن لجاجتهم، ( قَالُوا ادعُ لَنَا رَبَّك يُبَيِّنُ لَنَا مَا لَوْنُها ) أجابهم موسى ( قَالَ إنَّهُ يَقُولُ إنَّهَا بَقرَةٌ صَفْرَاءٌ فَاقِعٌ لَوْنُها تُسِرُّ النَاظِرِينَ ) أي أنَّها حسنة ولا يشوبها لون آخر.

ثم لجوا مرة أخرى وعاودوا السؤال: ( قَالُوا ادْعُ لَنَا ربَّك يُبَيِّنُ لَنَا مَا هِيَ إنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وإنَّا إنْ شَاءَ اللهُ لمُهْتَدُونَ ) .

أجابهم موسى ( قَالَ إنَّهُ يَقُولُ إنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُول تُثِيرُ الأرضَ ولا تُسْقِى الحَرْثَ )، أي ليست

[ 53 ]

من النوع المذلل لحرث الارض وسقيها. وبعد المساعي الحثيثة وجدوا هذه البقرة وذبحوها ولمسوا الاعجاز الالهي.

 

الشرح والتفسير

المفروض بهذه الاية العظيمة ان تزيد من ايمان القوم إلا أنَّ ذلك لم يحصل، بل الآية الشريفة حكت حالهم بعد ذلك بالقول: ( قَسَتْ فَهِيَ كالحِجَارَةِ أوْ أشدُّ قَسْوَةً ) أي لم تزد هذه الاية الكبرى القوم الا لجاجة وقسوة وتمرداً وعصياناً وانتهاكاً لحرمات الانبياء و.. وذلك بسبب قسوة قلوبهم تحجّرها.

ان مفردة (قلب) استخدمت مائة وثلاثين مرة في القرآن، لكن يا ترى هل يراد من هذه المفردة ذلك العضو الصنوبري الذي يدق في الدقيقة اكثر من سبعين مرة في الجسم ليضخ دم الإنسان إلى جميع اجزاء جسمه مرتين في الدقيقة؟ إنَّ هذا العضو من عجائب خلق الله حقاً وله في الجسم وظائف مهمة، لكن مراد الله من القلب في القرآن ليس ذلك العضو.

نشير هنا باقتضاب إلى مهام هذا العضو وذلك لايضاح اهميته:

أولا: تغذية جميع خلايا الجسم; إنَّ الاغذية التي تصل المعدة تمتزج مع ترشحات المعدة لتتهيّأ للذهاب إلى الأمعاء; وتتم عملية هضم وجذب الاغذية في الامعاء من خلال الدم، والأخير يوزعها على جميع خلايا الجسم وبذلك تتم عملية تغذية الجسم.

ثانيا: ارواء الإنسان; إنَّ الجزء الاكبر من جسم الإنسان عبارة عن الماء واذا ما قلت نسبة الماء في الجسم فانه قد يؤول ذلك الامر إلى الموت إذا ما بلغ مستوى الجفاف.

ثالثاً: ايصال الحرارة الموحدة للجسم; ان جسم الإنسان حار، لكن هل فكرتم من اين قدمت له هذه الحرارة ؟ ان الاوكسجين يدخل الجهاز التنفسي ومن خلال هذا الجهاز يدخل الدم ليصل من خلاله إلى جميع خلايا الجسم، واثر الاحتراق الذي يوجده الاوكسجين عند تركبه مع اغذية الخلايا تتولد حرارة تنتقل هذه الحرارة بشكل ثابت إلى جميع اجزاء الجسم بواسطة الدم.

رابعاً: جمع المواد الزائدة والسمية ودفعها. ان احتراق الاغذية في الجسم يولد مواد سمية

[ 54 ]

وزائدة يطرح جسم الإنسان بعضها من خلال الزفير وبعضها الاخر من خلال الكلية والادرار، وهذه العمليات كلها تتم من خلال الدم.

ير قيمي بل مخالف للقيم.

حقاً ان القلب مع هذه الظرافة والعمل المتواصل آية إلهية عظمى، فلو كان هذا القلب من حديد لصدأ وتلف خلال سبعين سنة من عمر الإنسان الا ان قدرة الله اللامتناهية صنعت منه عضواً يعمل اكثر من مائة سنة في بعض الموارد. والمدهش هنا أنَّ القلب من الاعضاء التي تعمل ليل نهار وفي النوم واليقظة رغم أنَّ نشاطه عند النوم أقل.

ومن هنا نجد سر تعظيم المؤمنين وتمجيدهم مقولة الله تعالى: ( وفِي الأرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أنْفُسِكُمْ أفَلاَ تُبْصِرُونَ ).(1)

لو لم يكن لدينا دليل على عظمة الخالق غير القلب لكان كافياً لادراك قدرته وحكمته السرمدية.

ولأجل استيعاب عظمة الخلق وادراك اكبر لهذه الهدية الالهية القيمة نقرأ الموضوع التالي:

 

القلب الصناعي مرآة لعظمة قلب الإنسان

كلّفت صناعة قلب صناعي قبل عدة سنوات ثلاثين مليون دولاراً، إلاَّ أنَّ هذا القلب لم يدم عمله اكثر من ستة أيام، كما أنَّ المستفيد منه لم يكن قادراً على الحركة والمشي خلال هذه الفترة. كيف يمكننا شكر الخالق على نعمة القلب التي منحها اياناً مجاناً؟

ما أجمل ما قاله القرآن: ( وَفِي أنْفُسِكُم أفَلاَ تُبْصِرُونَ ) .

وبعد ما عرفنا أنَّ المراد من القلب في الاية ليس ذلك العضو الصنوبري نقول هنا: إنَّ المراد منه هو العقل والعاطفة. يقول الله في سورة الاعراف الاية 179: ( وَلَهُم قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا )فالمراد من القلب هنا هو العقل والعاطفة; لأن الفهم والادراك من شأن العقل، كما أنّ الإحساس والشعور والحب والمعرفة من شأن العاطفة والعقل، وكنموذج على ذلك يقول الله في الاية 10 من سورة البقرة: ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فزَادَهُم اللهُ مَرَضَاً ) .


1. الذاريات: 20 - 21.

[ 55 ]

هل إنَّ قلب المنافق الصنوبري يعطل من جراء مرض النفاق؟ أو أنَّ مرض النفاق يؤدي إلى اتساع في صمام القلب؟

من الواضح أنَّه لا يراد من القلب ذلك العضو الصنوبري، ولا يراد من المرض تلك الحالة الطبيعية التي تعرض للإنسان وأعضائه. إنّ القلب هنا هو العقل والعاطفة اللتان قد يضعفان بسبب مرض النفاق إلى مستوى يسمحان للانسان قتل الابرياء في حرم الامام الرضا(عليه السلام)، فهما في الحقيقة يموتان.

نقرأ في رواية أنّ للأمر بالمعروف ثلاث مراحل: الأمر بالقلب أولا، وباللسان ثانياً، وبالعمل ثالثاً. فاذا كانت المرحلة الأخيرة غير ممكنة فتتوجب المرحلتان الاوليتان. وإذا استحالت المرحلة الثانية والثالثة فعلينا بالاولى أي علينا ان نكون متذمرين من الظالمين وسلوكهم وأن نكون محبين للمؤمنين والمصلحين. واذا ترك شخص الامر بالمعروف بمراحله الثلاث فقد صدق عليه الحديث التالي: «فمن لم يعرف بقلبه معروفاً ولم ينكر منكراً قُلبَ; فَجُعِلَ أعلاه اسفله».(1) وهل يراد من القلب هنا هو ذلك العضو الصنوبري ؟ بالطبع لا، لان ذلك العضو لا يتحرك من مكانه ولا يتزلزل بل المراد منه هو العاطفة والادراك.

مما مضى نستنتج ان للقلب معينين في القرآن والروايات: 1- العقل الانساني 2- العواطف الانسانية. وهما ظاهرتان روحيتان يعدان مركزاً للادراك والشعور. ولهذا عندما يقال: (لهم قلوب لكن لا يفقهون) فان المراد كونهم يملكون القلب لكن ملكة الادراك عندهم معطلة وإذا قيل (قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) فإنَّ المراد أنَّ عواطفهم ميتة.

القلب الذي في الاية 46 من سورة الحج ( فإنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ التي فِي الصُّدُورِ ) قد يعني ذلك العضو الصنوبري بقرينة (في الصدور)، لكن هل الواقع كذلك؟

رغم أنَّ العقل ليس في صدر الإنسان، إلاّ أنَّ له ارتباطاً بالدماغ ولذلك نرى البعض قد تعطل دماغه لكنَّ قلبه لا زال يعمل. وعلى هذا فالصدر الذي في الاية ليس ذلك الجزء من البدن المكسو بالقفص بل المراد منه الروح. وعليه فالقلب هنا يعني العقل والإدراك، فمفهوم


1. بحار الانوار 97: 89 (طبع بيروت).

[ 56 ]

الآية هو (العقول التي في الأرواح).

وهناك إحتمال آخر وهو: رغم أنّ هذا العضو الصنوبري ليس مركزاً للعواطف والعقل، إلاّ أنَّ الأمر لا يخلو عن علاقة بينهما; وذلك لان هناك علاقة مباشرة بين القلب والروح أو العقل والعاطفة فان القلب يتأثر مباشرة وأولا في أي ظاهرة تطرأ على الإنسان، فاذا واجه الإنسان موقفاً مفرحاً ازدادت ضربات قلبه وسرعت; وإذا واجه موقفاً مؤلماً شعر في قلبه التعب والثقل، وكذا الامر في كل الحوادث والقضايا الروحية. إنَّ العلاقة بين القضايا الروحية والقلب هي كالعلاقة بين الماء والعين وسطح الارض. إنَّ الماء يعلو من الطبقات التحتية للارض ثم ينبع من نقطة خاصة من الارض والظواهر الروحية مثل ذلك، فإنها تنبع من القلب. ومن خلال التفاسير الماضية يمكننا معرفة الكلام الالهي في الاية الكريمة ( قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ) .

تصوير القرآن لقلوب بني إسرائيل

لقد وصف القرآن قلوب بني اسرائيل في الاية 74 من سورة البقرة بانها كالحجارة أو اشد قسوة: ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُهُم مِنْ بَعْدِ ذلك فَهِيَ كالحِجَارةِ أو أشدّ قَسْوَةً ) وقد اختلف المفسرون في تفسير ( فَهِيَ كالحِجَارَةِ ) وفي ( أو أشَدَّ قَسْوَةً ) .

بما أنَّ الآية نزلت في المنافقين وبما أنَّ للنفاق درجات ومراتب فإنَّ صفة كالحجارة ترجع إلى طائفة خاصة من المنافقين، وأمّا ( أو أشَدُّ قَسْوَةً ) فترجع إلى طائفة أخرى أسوء حالا من السابقة.

لكن كيف يمكن للقلب أنْ يَكُون أشدَّ قسوةً من الحجارة ؟

إنَّ القُرآن يعدّ ثلاث بركات من بركات الحجارة:

الأُولى: بعض الاحجار في الجبال تتفجر لينبع منها الماء والأنهار وبجريانه تُروى المزارع والنباتات والحيوانات. نعم، ان للحجارة بركة التفجر لينبع الماء، وهي بركة عظيمة إلاّ أنَّ قلوب بني اسرائيل لا ينبع منها الفضيلة ولا العلم ولا الحكمة كما انها ليست مراكز للعواطف والحب والحنان; إنَّ قُلُوبهم أشدّ قَسوة من الحجارة حقاً.

الثانية: إنَّ من الاحجار تتشقق لتضم في شقوقها مقداراً من الماء. ورغم أنَّ هذا الماء لا يروي المزارع والحيوانات، إلاّ أنه قد ينقذ حياة سائر عطشان. أمّا قلوب بني اسرائيل فهي لا

[ 57 ]

تضم حتى ذلك المقدار القليل من المحبة والحنان.

الثالثة: بعض الاحجار تهبط وتسقط خشية من الله وخضوعاً امام قدرته واستطاعته العظمى كما تؤكد ذلك الآية 21 من سورة الحشر ( لَوْ أنْزَلْنَا هذا القُرْآنَ عَلَى جَبَل لَرَأيْتَه خاَشِعاً مُتَصَدّعاً مِن خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُها للنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفكَرُونَ ).

 

تسبيح الموجودات جميعاً

إن خضوع وخشوع الاحجار والجبال امام قدرة الله وعظمته وتسبيحها عموماً أمر يمكن استظهاره من الايات العديدة للقران، والاية 44 من سورة الاسراء نموذج على ذلك: ( وَإنْ مِنْ شَيء إلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِه وَلَكِن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيْحَهُم... )(1) وقد اعتبر بعض المفسرين الجمادات حية ومنحها حياة ذات نوع خاص من الشعور والاحساس الذاتي يختلف عن الشعور الإنساني، فشعورها مثل تسبيحها الذي لا يُفقه ( لا يَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُم )حيث نجد مقابل الحمد والخشوع والخضوع امام الله القادر الذي يشهد من الموجودات وبخاصة الاحجار قلوباً قاسية لا تسبّح ولا تذكر الله ولا تخضع أمامه.

 

القسوة

للانسان قوتان قوة العقل والفكر وقوة العاطفة الإنسانية، الجهاز الذي يستطيع الإنسان من خلاله فهم الحقائق يقال له عقل، وكل ما يدركه الإنسان ويفهمه يتم من خلال عقله.

أمّا العاطفة فهي القوة التي يتمكن الإنسان من خلالها ادراك القضايا الاخلاقية مثل الحب والبغض، فنحن مثلا نتأثر من جراء سماعنا للمجازر الجماعية التي ترتكب من قبل اناس فقدوا العاطفة في الدولة المسلمة (الجزائر). أو نتأثر بالاوضاع المتأزمة لافغانستان الذي ابتلي بحب وبغض بعض الزعماء الانانيين.


1. نجد هذا المضمون في آيات أخرى منها الاية 14من سورة النور والاية 24 من سورة الحشر، والاية 1 من سورة الجمعة، وفي سورة التغابن والحديد والحشر والصف.

[ 58 ]

إنّ هذه الاحاسيس تتعلق بقوة العاطفة الإنسانية، والشعوب الانسانية حية ما دامت عواطفها حية، وفي الحقيقة ان موت هذه العواطف يعني موت المجتمعات البشرية.

تباً للإنسان في اليوم الذي تموت فيه عواطفه حباً للدنيا; فإنّه يصبح انذاك انساناً خطراً اخطر من الحيوان المفترس والوحشي!

من الذي صنع القنابل الكيمياوية؟ العلماء الذين فقدوا عواطفهم حباً للدنيا، اولئك الذين اشتروا العواطف الانسانية بالدولارات وغضوا اطرافهم عن الذين قتلوا في حلبجة! من هم الذين قصفوا مدينتي هيروشيما وناكازاكي وقتلوا فيهما مئات الالاف بالقنابل النووية في لحظة.(1)

انهم العلماء الذين ماتت عندهم العواطف والذين لم يأثروا من الإنسانية شيئاً، والذين يرون اللذة في تدمير الاخرين! من هم الذين زرعوا اكثر من عشرين مليون لغم من النوع المضاد للافراد على سطح الكرة الارضية؟ هم اولئك الذين اتسموا بصفات حيوانية ولم يأثروا من الانسانية الا اسمها وما كان لهم نصيب من العواطف الإنسانية.

إنَّ العالم قرر منع تصنيع هذا النوع من اللغم; وذلك لاجل كونها غير اخلاقية وذات ابعاد غير انسانية; إلا أن الدولة العطوفة والمهتمة بحقوق البشر، أي امريكا، خالفت ذلك، كما خالفت مشروع حضر تصنيع اسلحة الدمار الشامل رغم تظاهرها بالدفاع عن حقوق البشر وتزعمها لمنظمات انسانية تهتم بهذه المجالات. هذا كله بسبب الضغوط التي تمارسها اسرائيل والصهاينة المنافقين على أمريكا، وهي تستخدم هذه المنظمات والآليات الاعلامية دائماً لاجل تدمير الأعداء، وكأنّ رعاية حقوق البشر أمر ينبغي ان يحصل في الدول المناهضة لامريكا فحسب دون الصديقة لها.

 


1. يقول الطيار الذي ألقى بهذه القنابل: (في مدة ساعة وجدت المدينة كالخيمة التي تلتهب وترتفع ألسنة النار فيها إلى مستوى مائة متر).

[ 59 ]

العلم والعاطفة وجه تمايز الإنسان عن الحيوان

اختلاف الإنسان عن الحيوان في أنَّ الاول يتمتع بالعقل والعاطفة، أو بتعبير آخر يمكنه الادراك والشعور، أمّا الحيوان فانه يفقد هذين الامتيازين. ورغم أنَّ بعض الحيوانات تحضى بذكاء واحساس ضعيفين وفي بعضها نرى نوعاً خاصاً من العاطفة البسيطة، كدفاع الدجاجة عن افراخها عند الاحساس بالخطر، فإنَّ هذا لا يعد شيئاً بالنسبة للعاطفة الإنسانية، بل إنَّ بعض الحيوانات تأكل أفراخها وبعضها الاخر تطرد افراخها عند البلوغ.

إن الإنسان إذا فقد عقله عُدَّ احمقاً ولا يستحق اطلاق الإنسان عليه، أمّا إذا فقد العاطفة فسوف لا يرى معنى للترحم والمروة والحب والعشق، فهو حينئذ بهيمة بل أسوأ حالا.

 

دنيا دون عاطفة

من المؤسف أنَّ عالم اليوم عالم يخلو من العواطف رغم أنَّ الإنسان بلغ المدارج العليا في مجال العلم والمعرفة وقد حصل على المزيد من التقنيات، إلاَّ أنَّه بنفس المقدار فقد العواطف والاحاسيس البشرية في ذات الوقت.

إنَّ القيم في الدول الصناعية هي المال والمادة; أمّا سلعة المحبة والعاطفة فغير متوفرة، واذا وجدت فلا مشتري لها!

إنَّ العواطف هناك حتى في العائلة الواحدة قليلة وضعيفة. الوالدان يتخلاّن عن أبنائهما بمجرد ان يبلغوا، والأولاد يتخلون عن والديهم بمجرد ان يشيبوا ويضعفوا، واذا شعروا بعاطفة جزئية تجاههم أودعوهم في دار العجزة، وتركوا السؤال عنهم حتى الموت.

إنّ نسبة الطلاق في هذه الدول كبيرة جداً وقد تقدر هذه النسبة في بعض الدول إلى اكثر من خمسين بالمائة، أي أنَّ نصف حالات الزواج أو اكثر من ذلك تؤول إلى الطلاق. إلاَّ أنَّ نسبة الطلاق في بلدنا هي واحد بالعشرين رغم ذلك نعدها نسبة كبيرة.

إنَّ البيئة التي تفقد العواطف لا تجد معنى لاعانة الفقراء والمحتاجين، فلا نسمع شيئاً عن

[ 60 ]

(حفلة العواطف) و(تعالوا لنتقاسم افراحنا)(1) ولا شأن للناس هناك حتى لو سمعوا بشخص يوشك ان يموت من الجوع والعطش.

لقد ورد في الأخبار أنَّ شخصاً نفد وقود سيارته في طريق مزدحم وفي يوم بارد جداً، فأخذ بوعاء البنزين يؤشر للسيارات المارة طلباً للوقود، إلاَّ أنَّه لم يجد عوناً رغم انتظاره مدة احدى عشرة ساعة هناك، وما كانت النتيجة الا موته في الطريق. في الحقيقة ان موت العواطف في هكذا مجتمعات ادى إلى موت هذا الشخص.

ولاجل هذه الشواهد نعتقد أنَّ الغرب لا قدرة له على استيعاب المفاهيم الاسلامية الرفيعة، مثل الشهادة والجهاد والايثار واعانة المحتاجين وغيرها، وحتى دفاعهم عن حقوق البشر لا يكشف عن عواطفهم، بل انها وسيلة لتدمير وتسقيط أعدائهم. فاذا قُتل اسرائيلي مثلا على يد فلسطيني في عملية استشهادية ارتفعت اصوات مدوية لهذه الموجودات الفاقدة للعواطف; وذلك دفاعاً عن حقوق البشر، إلاَّ أنه عند مقتل النساء والرجال والاطفال والشباب في الجزائر وتقطّع أبدانهم إرباً إرباً لا تثار حفيضة هؤلاء المنافقين المترائين، وكأنه لم يحدث شيء ابداً.

 

الدين أو المذهب يقويان العاطفة

الدين أو المذهب هو اهم عامل يقوي العاطفة الانسانية; وذلك لأن الدين عُرّف في الروايات (بالحب والبغض) أي محبة المسلمين وبغض الكافرين.

جاء في رواية عن الصادق(عليه السلام) يسأله فضيل بن يسار عن الحب والبغض، أمن الايمان هو؟ فقال: «وهل الايمان الا الحب والبغض»؟!(2) ونقرأ في رواية أخرى أن رسول الله(صلى الله عليه وآله)قبّل الحسن والحسين(عليهما السلام) فقال الاقرع بن حابس: إنَّ لي عشرة من الاولاد ما قبلت واحداً منهم.


1. ان حفلة العواطف حفلة تقام في نهاية السنة الهجرية الشمسية في ايران تجمع خلالها التبرعات للفقراء والمحتاجين ويرفع في خلال هذه الحفلة شعار (تعالوا نتقاسم افراحنا).

2. ميزان الحكمة، الباب 658 الحديث 3096، وفي هذا الباب نرى ثلاث روايات أخرى حكت نفس المضمون.

[ 61 ]

فقال: «ما علي ان نزع الله الرحمة منك».(1)

القلب الذي يخلو من الحب ليس قلباً بل قطعة من الحجر، وليس اهلا لاستقبال نعم الجنة، بل اهل لعقوبة جهنم.

ببركة دين الإسلام وببركة تمتع شعبنا المؤمن بالعواطف الإنسانية النبيلة نرى تسارع الإيرانيين للخيرات ونصبهم للخيم لاجل جمع الاعانات في الشوارع والاحياء بمجرد حصول حادثة أو كارثة تستدعي المساعدة والاعانة..

ياله من منظر رائع وجميل للعواطف الانسانية.

 

عوامل القسوة في القرآن

يشير الله من خلال الايات التالية إلى عوامل القسوة وأسبابها.

الأول: يقول في الاية 13 من سورة المائدة: ( فَبِمَا نَقْضِهِم مِيْثَاقَهُمْ لَعَنّاهُمْ وَجَعلنَا قُلوبَهُمْ قَاسِيَةً ) .

القرآن هنا يعتبر (نقض الميثاق) من عوامل قسوة القلب، نقض الميثاق مع الله ومع الرسول(صلى الله عليه وآله) ومع الفطرة الانسانية ومع البشرية. نعم إنّ بني اسرائيل لم يحترموا أيّاً من المواثيق وكأنّهم - لأجل الدعامة العسكرية القوية التي كانوا يتمتعون بها - لم يبرموا ميثاقاً إلاّ مع مصالحهم الدنيوية ولم يفوا بميثاق إلاّ به.

الثاني: يقول الله في الآية 16 من سورة الحديد:

( ألَمْ يَأن للّذِينَ آمنوا أنْ تَخْشَعَ قُلوبُهُم لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَّلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالذِّيِن أُوتُوا الكِتَاب مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيْرٌ مِنْهُم فَاسِقُونَ ) .

إنَّ الآية الشريفة توقظ في البداية الغافلين بكلام حق.

يا انسان متى تصدق الموت وانت ترى موت اعزتك وأقاربك؟!

إلى متى تستمر في تعلقك بالدنيا رغم ما ترى منها من الفناء وعدم الوفاء.


1. مكارم الاخلاق: 474، طبع جامعة المدرسين في قم، نقلا عن اخلاق الأنبياء: 416.

[ 62 ]

ثم تحذّر المؤمنين خوف ان يصبحوا مثل بني اسرائيل الذين قست قلوبهم بعد ما طالت اعمارهم، وتأخرت بعثة الرسول اللاحق، ونسيانهم تدريجاً لتعاليم نبيهم، وعدم نزول العذاب الإلهي عليهم، فكانت الغفلة التي لحقتها قسوة القلوب وكثرة الذنوب.

يمكننا معرفة السبب الثاني لقسوة القلب من خلال هذه الآية وهو (الابتعاد عن تعاليم الأنبياء والأولياء والأديان الإلهية).

ومن خلال هذه العوامل التي بينها القرآن يتضح لنا أن بعضاً من العذاب الالهي في الحياة الدنيا هو نوع من ألطافه تعالى; وذلك لأنَّه يؤدي إلى التوبة والابتعاد عن الذنوب والرجوع إلى الله، وهو في الحقيقة الحائل دون الابتلاء بقسوة القلب.(1)

إخوتي وأخواتي الأعزاء! اتصلوا بالشباب والأشبال من خلال المجالس الدينية واذهبوا بهم إلى هكذا مجالس لتعريفهم بالتعاليم الدينية الاسلامية لكي لا يبتعدوا عنها فيبتلوا بقسوة القلوب وترحل عنهم العواطف الإنسانية.

 

القسوة في الروايات الاسلامية

اشارت روايات المعصومين(عليهم السلام) إلى عوامل عديدة يمكنها ان تؤدي إلى قسوة القلب نشير إلى بعض منها هنا:

الاول: يقول الامام علي(عليه السلام): «ما جفَّت الدموع الا لقسوة القلوب وما قست القلوب الا بكثرة الذنوب».(2)

إذا شاهدنا إنساناً لم يتأثر بالمصائب الدنيوية ولا يبكي ولا يشتاق للعبادة والمناجاة، أو يفتقد العواطف والترحم على أبناء جنسه ولا يفكر الا بنفسه وضمان مصالحه، ولا يقلقه ما يصيب الآخرين، فتلك جميعها بسبب كثرة الذنوب وتراكمها.


1. ان الايات 42 و43 من سورة الأنعام تؤيدان ما اوردناه هنا: (وَلَقَدْ أرْسَلْنَا إلى أُمَم مِنْ قَبْلِكَ فأخَذنَاهُمْ بِالبَأْسَاءِ والضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرّعُونَ فَلَوْلا إَذْ جَاءَهُم بأسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُم وَزَيَّنَ لهُمُ الشَيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُون).

2. علل الشرائع: 18، ميزان الحكمة الباب 3402، الحديث 16699.

[ 63 ]

في إحدى رحلاتي إلى بيت الله الحرام كنت جالساً في المسجد الحرام، جاءني شاب وقال لي: إنّي احج الصرورة ولم اسبق بالمجئ إلى هذا المكان المقدس رغم ذلك لا اشعر بالمعنوية ولا بالحيوية في هذا المجال، فلم اشتق للمناجاة والبكاء والتضرع؟ فكان يريد معرفة سبب ذلك. اجبته يبدو أنَّك ارتكبت ذنوباً كثيرة في حياتك؟ عليك اولا طلب المغفرة من الله على تلك الذنوب، ثم اشتغل بالزيارة والعبادة والمناجاة.

الثاني: طول الامل هو من العوامل الاخرى لقسوة القلب.

جاء في احدى الروايات أنَّ الله قال لموسى(عليه السلام): «لا تطول في الدنيا أملك فيقسو قلبك والقاس القلب مني بعيد».(1)

الثالث: حب الدنيا والغرق في الطلبات المادية.

ان هذه الأمور من شأنها ان لا تترك مجالا لنمو وبروز العواطف الانسانية ولا لتقرب الإنسان لله; وذلك لان اكبر هدف للانسان العطوف هو الوصال بالحق. وعلى هذا فحب الدنيا والابتعاد عن الله هو ثالث عامل لقسوة القلب.

يقول الرسول(صلى الله عليه وآله): «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فان كثرة الكلام بغير ذكر الله تقسو القلب».(2)

فالرسول(صلى الله عليه وآله) هنا يصرح بان كثرة الكلام بالاشاعة والكذب والاتهام والمزاح الخارج عن حده والتدخل بما لا يعني الشخص وغيرها من مظاهر كثرة الكلام هي اسباب لقسوة القلب.

الرابع: هناك رواية أخرى عن الرسول(صلى الله عليه وآله) يقول فيها: «ثلاث يُقِسْنَ القلب استماع اللهو وطلب الصيد واتيان باب السلطان».(3)

إنَّ الاصغاء إلى الموسيقى حرام ويؤدي إلى قسوة القلب وينبغي هنا أنْ نكون نبهين دون الوقوع في مصيدة الشيطان بتبريرات من قبيل: إنّ الموسيقى تنشطنا روحياً، وأنَّ الموسيقى


1. ميزان الحكمة، الباب 3402، الحديث 16700.

2. ميزان الحكمة، الباب 3402 الحديث 16702.

3. ميزان الحكمة، الباب 3402، الحديث 16703.

[ 64 ]

ليست للنزهة فقط، أو أنَّ الموسيقى المحلية والتقليدية جائزة وما شابه ذلك.

الصيد إذا كان طلباً للمعيشة فلا اشكال فيه، أمّا إذا كان لاجل التسلية والترفيه فهو حرام في الإسلام، وعلى الصيّاد حينئذ التمام في الصلاة دون القصر; وذلك لان سفره معصية. أكثر الملوك والحكام كانت لهم اماكن خاصة يصطادون فيها للتسلية والترفيه. كيف يمكن ان يكون سلب روح حيوان ما سبباً للتسلية والترفيه ؟!

إنَّ الحكام أشخاص قساة القلب، كما أنَّهُم ظلمة وهم مستعدون لارتكاب ابشع الجرائم لاجل حفظ كراسيهم ومواقعهم القيادية، وقد يستعد الحاكم لقتل أبيه أو اخيه لديمومة عرشه، كما فعل المأمون بالأمين العباسيين، فقد قتل الأول الثاني، رغم انه كان أخاه. وفي الفترة الاخيرة قتل احد الملوك العرب اباه ليحكم بذلك موقعه القيادي.

ان الاشخاص الذين يرتبطون بهذه الطبقة من الناس تقسو قلوبهم ويبتعدون عن الله لما يرون من زخارف الدنيا التي تجذبهم إليها.

نسأل الله ان يمنحنا قلباً عطوفاً، قلباً ينضح من حبه، ويجري دموع العين من ذكره.

الخامس: يقول الامام علي(عليه السلام): «كثرة المال مفسدة للدين ومقاساة للقلب».(1)

مما لاشك فيه أنَّ المال وسيلة جيدة لبلوغ المقامات المعنوية العليا ولعمل الخير، وقد يكون هذا هو مغزى مقولة القرآن في الآية 180 من سورة البقرة ( ... انْ تَرَك خَيْراً الوَصِيَّةَ )فقد فسّر المفسرون (خيراً) هنا بالمال والثروة. لكن الذين يحسنون الافادة من المال هم العدة القليلة بل نادراً ما يحصل ذلك.(2)

إنَّ اكثر المتمولين لا ينفقون اموالهم في مجالات الخير وهذا يعني أنَّ كثرة اموالهم سبب لابتعادهم عن الله، الامر الذي يؤدي إلى قسوة القلب.

السادس: يقول الامام الصادق(عليه السلام) في احدى الروايات المنقولة عنه: «أنهاكم أنْ تطرحوا


1. ميزان الحكمة، الباب 3402 الحديث 16707.

2. كما هو الحال بالنسبة لخديجة سلام الله عليها حيث وضعت اموالها تحت اختيار الرسول(صلى الله عليه وآله)لتبليغ الدين الاسلامي.

[ 65 ]

التراب على ذوي الارحام فإنّ ذلك يورث القسوة ومن قسي قلبه بَعُدَ من ربّه عزوجل».(1)

لقد وضع الإسلام منهجاً لجميع شؤون الإنسان حتى في القضايا التي تبدو قليلة الاهمية، فعند استقبال الضيف مثلا يأمر الإسلام إعانة المضيف للضيف في حمل امتعته لادخالها في البيت، إلاَّ أنَّه عند التوديع يأمر بعدم اعانة الضيف على اخراج امتعته; وذلك لأن هذا يعني رغبة صاحب البيت في التخلص من الضيف وهذا يؤدي إلى قسوة في القلب.

وفي هذا الحديث اشارة أخرى لاحد القوانين الدقيقة التي تصب في هذا المجال، فبما أنَّ ذوي الارحام يحملون العواطف الوافرة تجاه احدهم الاخر فان طرح التراب ونثره على موتاهم يحد من العواطف ويجلب للناس قسوة في القلب وابتعاداً عن الله.

السابع: يقول الامام علي(عليه السلام): «النظر إلى البخيل يقسي القلب»(2) إنَّ الشخص إذا نظر إلى البخيل تذكّر بخله، وتذكُّر البخل يتداعى معه تذكُّر القساوة، وتذكُّر القساوة يؤثر تدريجياً على الإنسان.


1. ميزان الحكمة، الباب 3402، الحديث 16710.

2. ميزان الحكمة، الباب 3402، الحديث 16709.

[ 66 ]

[ 67 ]

 

 

 

 

المثل الرابع: الكفار

 

يقول الله في الآية 171 من سورة البقرة:

( وَمَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إلاّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ) .

العقبة الكبرى امام دعوة الانبياء هو التقليد الأعمى

إنّ تقليد الآباء والاسلاف كان مانعاً مهما ومتواصلا امام دعوة الأنبياء. عندما كان الانبياء يدعون اممهم للتوحيد والدين كانوا يسمعون الجواب التالي: ( بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَائَنا ).(1)

وفي الحقيقة، إنَّ سبب رد دعوة الانبياء هو عبادة الاصنام من قبل الاسلاف، والتقليد الأعمى للمعاصرين والأنبياء. وعندما دعى رسول الإسلام(صلى الله عليه وآله) الناس إلى الإسلام وعبادة الله الواحد كان رد فعلهم هو التعجب مما يدعو اليه الرسول من عقائد مخالفة لسننهم وتقاليدهم وكان وتبريرهم لرد دعوته هو اتباعهم لما كان عليه اسلافهم من عبادة اصنام كانوا يصنعونها بايديهم من التمر، ويأكلونها عند شعورهم بالجوع.

يقول الله في هذا المجال حكاية عن لسان الكافرين: ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهاً واحداً إنّ هَذَا لَشَيءٌ عُجَابٌ ).(2)


1. لقمان: 21، كما جاء هذا المعنى في آيات اُخرى من القران، منها: المائدة: 104، الأعراف: 28، يونس: 78، الأنبياء: 53، الشعراء: 74، الزخرف: 22 و 23.

2. سورة ص: الآية 5.

[ 68 ]

جاء في بعض كتب التاريخ أنّ أبا طالب (رضي الله عنه) مرض يوماً وكان محمد ابن أخيه منشغلا بالتبليغ خارج البيت فاتى اشراف قريش ابا طالب بحجة العيادة له وقالوا: أنت شيخنا وكبيرنا وقد أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن اخيك فانه سفّه احلامنا وشتم الهتنا.

فدعا ابو طالب رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقال: يا بن أخي ! هؤلاء قومك يسألونك فقال: «ماذا يسألونني»؟ قالوا: دعنا وآلهتنا ندعك وإلهك. فقال(صلى الله عليه وآله): «اتعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب والعجم»؟ فقال ابو جهل: لله أبوك نعطيك ذلك عشر أمثالها. فقال: «قولوا لا إله الا الله». فقاموا وقالوا: أجعل الالهة الهاً واحداً.(1)

وهو يدعوهم للتوحيد في عبارته الأخيرة.

 

الشرح والتفسير

شُبِّه الكفار في هذا المثل القرآني بالحيوانات; ولاجل تبرير هذا التمثيل اكد على تقليدهم التام والأعمى لأسلافهم.

يقول الله في الآية 170 من سورة البقرة: ( وَإذَا قِيْلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا ألفَيْنَا عَلَيْهِ آبائَنا أوَلَو كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ) .

وكأنّه يَقول: يا جهّال! هل أنَّ اتباعكم للاسلاف الذين لا يعقلون شيئاً اتّباع عن بصيرة؟! ثم يمثل الرسول (عندما يقرأ الايات على هذا القوم المشرك) بالراعي الذي ينادي رعيته بالاصوات لتوجيه حركتها، إلاّ أنَّ هذه البهائم لا تعقل من كلامه شيئاً إلاَّ الأصوات التي تتأثر بها، فاذا كانت اصوات الراعي شديدة وذات ايقاع قوي اثرت في البهائم وإلاّ فلا. إنّ مثل المشركين كمثل هذه البهائم لا تفهم ما تقرأه عليهم من المعاني والمفاهيم الرفيعة لكنهم يفهمون الأصوات وموسيقى كلامك فحسب لذا يستمرون في تقليدهم الأعمى للاسلاف.

 


1. مجمع البيان 8: 343 طبع مؤسسة الاعلمي بيروت.

[ 69 ]

خطابات الآية

الاول: إن الآية جواب لائق للسؤال التالي: إذا كان القرآن المجيد وحياً الهياً فينبغي أن ينفذ في القلوب ويترك اثره فيها، فلماذا لا نشاهد هذا الامر في بعض المشركين الذين ظلّت قلوبهم نائمة دون يقظة إلى اخر عمرها؟

إنَّ التأثير على أي شيء يستدعي وجود عاملين:

1- فاعلية الفاعل.

2- قابلية القابل.

ومما لا شك فيه أنَّ القرآن فاعل وذات تأثير ونفوذ، إلاّ أنَّ الكافرين ليست لهم القابلية لاستقبال مفاهيم القرآن واستقطابها. لا خلاف في لطافة طبع الغيث لكنه إذا هبط على الحجر فانا لا نتوقع منه انبات الشجر; وذلك لان الحجر ليست له قابلية على تنمية البذور، وكذلك هو شأن الكافرين. فإنَّ كلام الله بروعة قطرات المطر وقلوب الكافرين بقسوة وشدة الحجر ولا تؤثر هذه القطرات اللطيفة في الحجر، لكن بمجرد أن تحصل ادنى قابلية لهذه الأحجار على الانبات نرى الغيث يؤثر فيها. وقلوب الكافرين المتحجرة إذا تبلورت فيها أي قابلية على التأثر كان كلام الله نافذاً فيها وتاركاً اثره.

وعلى هذا فتأثير المؤثر غير كافية بل قابلية القابل مهمة أيضاً، والكافرين ما كانت لهم تلك القابلية.

الثاني: افادة الناس من المعارف القرآنية يتوقف على مستوى لياقتهم وقدرتهم على الافادة.

القرآن حديقة يستطيع أنْ يتمتع بها كل شخص بمستوى ذوقه، أو هو ينبوع من الماء الزلال يستطيع كل واحد أنْ ينهل منه ماء الحياة ويروي عطشه. والاختلاف بين الجميع في مقدار ما ينهلون منه.

إنّ هؤلاء الكفار لا هم يملكون الاناء للنهل من هذا الينبوع، ولا هم قادرون على تجرع الفيض والرحمة الالهية; وذلك لأنّ تقليدهم الأعمى لدين آبائهم يمنعهم من النهل من زلال المعرفة الربانية.

[ 70 ]

وبتعبير آخر: إنَّ اتباعهم لدين آبائهم ضرب حجاباً ضخماً على وسائل معرفتهم حال دون سمعهم أو ابصارهم أو نطقهم فاصبحوا عمياً بكماً صماً لا يفقهون شيئاً.

وقد فسرت الآية المذكورة بشكل آخر، هو: أيُّها المشركين! إنَّكم تركعون لاصنام تعبدونها وتناجونها وهي لا تسمع حاجاتكم ولا ترى اعمالكم ولا تستطيع النطق والكلام معكم، فهي بكم وعمي وصم كالبهائم. أيُّها الإنسان! إنَّك قد كسرت شخصيتك بنفسك من خلال العبادة والخضوع لهذه الاصنام الجامدة.

بما أنَّ ضمير (هم) في (فهم) والضمير الذي في (لا يعقلون) يشيران إلى العقلاء لذا كان التفسير الاول اقرب للمنطق والعقل.

على أي حال، فإنَّ الخطاب الرئيسي للاية هو رفض التقليد الاعمى للاسلاف والآباء.

 

التقليد في القرآن

تحدثت آيات كثيرة عن التقليد، ومن الايات ما تذم التقليد وتعتبره عملا مضاداً للقيم، ونموذج ذلك الآية 170 من سورة البقرة.(1)

لكن بعض الايات التي وردت في التقليد لا أنّها لم تذمه فحسب، بل دعت له وشجعت الناس عليه، كما في الآية 7 من سورة الأنبياء: ( فاسْئَلُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) .

ومع الالتفات إلى التضاد الظاهري بين هذين الطائفتين من الايات، ما هي وظيفة المسلم المؤمن؟ هل التقليد أمر مستحسن ام ممنوع ومحرم؟ وهل يتمكن المؤمن من تقليد أهل العلم؟

 

أقسام التقليد

لاجل ايضاح الموضوع من الافضل ان ندرس اقسام التقليد.

1- تقليد الجاهل للجاهل: ومثل هذا هو تقليد الكفار والمشركين الجهال لابائهم الجهال.


1. وكذلك في الايات 136 و 138 من سورة الشعراء والاية 104 من سورة المائدة والاية 28 من سورة الاعراف والاية 21 من سورة لقمان والاية 23 من سورة الزخرف.

[ 71 ]

وهذا النوع من التقليد ممنوع وغير صحيح حسب الموازين الشرعية والعقلية.

2- تقليد العالم للعالم: إنَّ العالم هو صاحب الرأي وليس من الصحيح ان يقلد العالم عالماً اخر; لانه إذا كان صاحب رأي فعليه أن يفكر في أن يبدي رأيه ويفيد من علمه الذاتي، ولهذا قيل في الفقه (يحرم التقليد على المجتهد).

3- تقليد العالم للجاهل: بأن يترك صاحب الرأي رؤاه وافكاره ويبحث عن رأي الجاهل ليعمل على اساسه. من المؤسف أنَّ هذا النوع من التقليد يكثر في عالمنا اليوم، ونموذج ذلك هو الديمقراطية الغربية، فإنّ أصحاب الرأي والمفكرين يتركون من خلال هذه الديمقراطية رؤاهم في مجال تخصصهم ويبحثون عن آراء الناس فيها فاذا ابدى الناس خلاف ما يمنحهم تخصصهم من افكار طرحوا افكارهم واخذوا بما يشاء الناس.

4- تقليد الجاهل للعالم: بأنْ يَسْأل الشخص الذي يفقد المعرفة في مجال أو تخصص ما من العالم والمتخصص في ذلك المجال، فالمريض يراجع الطبيب، والذي يريد بناء بيت يراجع المهندس، والفلاح الذي يريد حفر بئر يراجع المهندس المختص في هذا المجال و.. والناس يرجعون في مسائلهم الشرعية إلى مرجع تقليدهم. وخلاصة الكلام هنا أنَّ تقليد الجاهل للعالم يعني الرجوع إلى المتخصصين والخبراء، وهذا أمر متداول في جميع شؤون الحياة، كما أنَّه أمر معقول.

وعلى هذا، فالانواع الثلاثة الاولى من التقليد هي الاقسام الممنوعة منه، والآيات التي تذم التقليد ناظرة إلى هذه الأقسام. أمّا القسم الرابع فهو ممدوح لا جائز فحسب، والايات التي تشجع التقليد وتحث عليه ناظرة إلى هذا النوع منه.(1)

لكن ينبغي الالتفات هنا إلى ان التخصص والعلم في مجال ما، هو الشيء الوحيد الذي يمنح الانسان امكانية ابداء الرأي، ولا شيء اخر يجيز للانسان ابداء الراي في موضوع ما. ومن المؤسف أنَّا نشهد مؤخراً البعض يبدي رأيه في مواضيع مختلفة قد لا تدخل في مجال تخصصه. إنَّه يُبدي رأياً في مجال الحجاب والقصاص والعاقلة والارث وقضاء النساء واجتهادهن


1. للمزيد في هذا المجال راجع نفحات القرآن 1:340 فما بعدها.

[ 72 ]

والديات وغيرها، رغم أنَّه لا يملك الارضية اللازمة في هذه المجالات. لكن يا ترى هل هؤلاء يجيزون لانفسهم الدواء عند التمرض من دون مراجعة الطبيب؟ وهل هؤلاء يقومون بعمليات جراحية عند الابتلاء بامراض حادة؟ بالطبع لا. اذن كيف يمكن لهم أن يسمحوا لانفسهم في ابداء الرأي في القضايا الشرعية من دون أن يحملوا المعرفة الكافية في مجال الفقه والمسائل الشرعية؟

[ 73 ]

 

 

 

 

المثل الخامس: الإنفاق

 

يقول الله تعالى في الآية 261 من سورة البقرة:

( مَثَلُ الّذِيْنَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُم فِي سَبِيْلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّة أنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَة مِائَةُ حَبَّة وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ واللهُ وَاسِعٌ عَلِيْمٌ ) .

 

تصوير البحث

تحدثت الآية الشريفة عن (الإنفاق) وذكرت مثالا رائعاً للانفاق في سبيل الله.

إنَّ الفقر معضلة، والبشر لا زال يعاني منها في مختلف مجتمعاته، وهي مشكلة ترجع في الحقيقة إلى عدم التوزيع العادل للثروة، الأمر الذي يؤدي إلى تقسيم البشر إلى فقير وغني.

التاريخ يشهد بأنَّه كانت هناك شخصيات مثل قارون تمتلك ثروات عظيمة، بحيث حمل مفتاح مخازن ثروته يحتاج إلى طاقة عدة اشخاص أقوياء.(1) وفي مقابل هؤلاء كان هناك اشخاص بحاجة إلى قرص من الخبز يقضوا بها ليلتهم. إنَّ هذه المشكلة اشتدت في عصرنا الحاضر.

كمثال على ما نقول: إن بعض الاحصائيات حكت عن أن نسبة 80% من ثروة الكرة


1. لقد جاءت قصة قارون في القرآن المجيد في سورة القصص الآية 76 فما بعد، ومنها الآية التالية: (وآتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا انْ مَفَاتِحَهُ لتَنُوأ بالعُصْبَة أُولِى القُوَّة...) وقصة قارون من قصص القرآن الجميلة والمليئة بالعبر.

[ 74 ]

الارضية يمتلكها نسبة 20% من الناس فاذا كان مجموع البشر في الكرة الارضية عبارة عن خمس مليارات; فان 80% من الثروة تحت تصرف مليار من البشر و20% من الثروة العالمية يتقاسمها اربعة مليارات.

وبعبارة أخرى: إذا كان مجموع شعوب الدول الصناعية يقدر بمليار فهذا المليار يملك اربعة اخماس من ثروة الكرة الارضية وما تبقى من البشر فلهم خمس تلك الثروة.

والمدهش هنا أنّ هذه النسبة وتلك المفارقات تزداد يوماً بعد آخر ولصالح الأغنياء.

 

طرق علاج الفقر

لحل هذه المعضلة قدّم العلماء منذ القدم علاجات، والبشرية جربت علاجين مختلفين.

الأول: يعتقد الاشتراكيون والشيوعيون أنَّ الفقر مشكلة نجد جذورها في الملكية الخاصة، فاذا ما اجتثثنا جذور هذه المشكلة فانَّ المشكلة ستُحل.

إنّ اصحاب هذه الفكرة جربوا هذا العلاج مدة سبعين عاماً، قتلوا خلالها الملايين من البشر، وارتكبوا جرائم كثيرة وتحلموا التكاليف الباهضة وواعدوا الناس وعوداً كاذبة كثيرة، وأمّلوهم بحياة متعالية، وتحدثوا مع الناس عن جنة الأرض، بل اعتبروا جنة الانبياء هي نتيجة اعمالهم و.. إلاّ انهم اعترفوا بفشلهم بعد هذه التجربة وتلاشى نظامهم، الامر الذي أراح الناس الذين كانوا يرضخون تحت حكومتهم.

الثانى: رسمت الدول الرأسمالية خططاً اُخرى لرفع معظلة الفقر، فشكلوا لأجل ذلك مؤسسات و منظمات كثيرة، مثل: الهلال الأحمر و صندوق النقد الدولي و البنك الدولي و صندوق التعاون و مؤسسات الاعانات الاقتصادية و الغذائية للدول الفقيرة، و خصصوا لأجل ذلك ميزانيات، لكنها جميعاً كانت تعاني من نقطتي ضعف:

الاولى: إجراءاتها محدودة و قليلة و غير متناسبة مع نفوس الدول الفقيرة، و لذلك لم تحدث تغييراً في مستوى الفقر في هذه الدول.

الثانية: كثيراً ما تقترن هذه الاعانات بأغراض سياسية، فاذا اقتضت مصالح هذه الدول الاعانة أعانوا و الاَّ امتنعوا عن الاعانة، و أحياناً يعترف بعض مسؤولي هذه الدول بهذه

[ 75 ]

الاُمور.(1)

وعلى هذا فان العلاج الثاني ما حل عقدة من عقد الفقر العالمي.

 

علاجات الإسلام

إنّ العلاج الاخر لمعضلة الفقر هو وصايا الإسلام، فإنَّ العمل بها يؤدي إلى ملء فجوة الفقر وتقليل الفاصلة بين الطبقات الفقيرة والغنية.

لقد حصل هذا في عهد الرسول(صلى الله عليه وآله) فإنَّ العمل بها حصل لاول مرة في التاريخ في ذلك العهد وكانت نتيجة ذلك هو مجتمع غير مقسم إلى طبقات، أو مجتمع مع مفارقات طبقية محدودة جداً.

إذا تمكنا اليوم تطبيق هذه الوصايا والاوامر الالهية في مجتمعنا هذا بل وفي المجتمعات البشرية لكانت الثروة موزعة على البشر بشكل عادل ولصغرت الفجوة بين الفقير والغني في مجتمعات الكرة الارضية.

 

الإنفاق طريق لرفع الفقر

الانفاق هو احد الوصايا والأوامر الالهية القيمة التي هي موضوع بحثنا هنا. إنَّ القرآن المجيد أكَّد كثيراً على موضوع الانفاق وقد كان هذا الامر موضوعاً لكثير من آياته، والآيات التي تضمنت مادة الانفاق تقدر بسبعين آية، وإذا اضفنا اليها الايات التي اشارت لهذا الموضوع من دون أنْ تأتي بمادة الانفاق، فالعدد يتجاوز عن هذا الحد بكثير.

أمر الله في القرآن الإنسان أنْ يدفع مقداراً مما كان من نصيبه في هذه الحياة الدنيا. الآية 19 من سورة الذاريات أمرت بهذا بتعبير جميل: ( وَفِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ والمَحْرُومِ )، وبناء على هذه الآية فان للفقراء والمساكين حقاً في أموال الناس.


1. كما شهدنا ذلك في حرب البوسنة و في شتائها القارص، إذا اعترف بعض رؤساء هذه الدول بعدم وجود مصالح لها في البوسنة لكي تتدخّل عسكرياً في النزاع الدائر هناك.

[ 76 ]

ولأجل تشجيع الناس على الإنفاق جاء القرآن بآيات عبرت عن الأمر بتعابير جميلة:

1- يقول الله في الآية 96 من سورة النحل: ( مَا عِنْدَكُم يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاق ).

يا له من تعبير جميل! فالعبارة تضم معان كثيرة رغم صغرها. وهي تعني أنّ الإنسان إذا صرف الملايين من امواله فان تلك الملايين تعد نافدة ومستهلكة، بينما إذا صرف اقل مقدار من امواله انفاقاً في سبيل الله فإنَّ ذلك سيبقى في خزينة الله الغيبية ولا ينفد، وهذا خلاف ما يتصوره اكثر الناس.

2- جاء في الآية 89 من سورة النمل: ( مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ) ونفسها في سورة القصص الآية 84.

وحسب ما صرحت به هذه الآية، فإنَّ الصدقة والانفاق لا يذهبان سدى فحسب، بل يمنح الله عليهما شيئاً افضل منهما عوضاً عن ذلك.

3 - الآية 160 من سورة الانعام رفعت من قيمة الانفاق لتصرح بما يلي: ( مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثَالِهَا ) .

الآية تحدثت عن الحسنات عموماً، وباعتبار أنَّ الانفاق من الحسنات العظيمة فهي تشمله. وحسب ما صرحت به، فإنَّ للإنفاق عشرة أضعاف من الثواب والأجر.

أمّا الآية المبحوث هنا (261 من سورة البقرة) فقد رفعت مستوى الانفاق إلى أعلى مستوى ممكن، فمثلت الانفاق بالسنابل التي تضمّ حبات كثيرة وكل حبة تنبت سنابل كثيرة، وهي بذلك تشير إلى التضاعف التصاعدي للثواب المترتب على الانفاق. ولكي تجيب الآية عن بعض التساؤلات التي تتراود في اذهان البعض عن مصدر هذه العطاءات أشارت إلى أن ذلك كله من كنوز الله العظيمة، وهو واسع وأوسع من أنْ يتصور.

 

خطابات الآية

1- المراد من (في سَبِيلِ اللهِ)

إنَّ اصطلاح ( فِي سَبِيْلِ اللهِ ) استخدم اكثر من 45 مرة في القرآن، واصطلاح ( عَنْ سَبِيْلِ اللهِ ) استخدم 25 مرة. وقد أُريد من ( سَبِيْلِ اللهِ ) الجهاد في كثير من الموارد كما في الآية

[ 77 ]

الشريفة 169 من سورة آل عمران التي جاءت لبيان المقام الرفيع للشهداء: ( وَلاَ تَحَسَبَنَّ الَّذِيْنَ قُتِلُوا فِي سَبِيْلِ اللهِ أمْوَاتاً بَلْ أحْياءٌ عِنْدَ رَبِهِمْ يُرْزَقُونَ ) فقد اريد من ( سَبِيْلِ اللهِ ) هنا الجهاد كما اريد منه هذا المعنى في موارد كثيرة أخرى.

إلاَّ أنَّ (سبيل الله) اختلف معناه في الآية 26 من سورة (ص): ( وَلاَ تَتَّبِع الهَوَى فَيضِلَّكَ عَنْ سِبِيلِ اللهِ.. ) فقد نهت الآية النبي داود(عليه السلام) عن اتباع الهوى في القضاء ودعته للقضاء في سبيل الله، أي القضاء العادل والذي يصل المحق إلى حقه من خلاله.

وعلى هذا; فلا نصحح ما ادعاه البعض من أنَّ المراد من ( فِي سَبِيْلِ اللهِ ) هو الانفاق لاجل الجهاد فقط; وذلك لأنَّ المُراد منه مطلق سبيل الله سواء كان في الجهاد العسكري أو الجهاد الثقافي أو الجهاد العمراني أو تأسيس مكتبة أو اعانة المحتاجين أو بناء المستشفيات والمستوصفات أو تأسيس صندوق للقروض أو غير ذلك.

بالطبع، إنَّ رعاية الأولوليات والضروريات أمر مهم وفي محله، كما أنَّ الابداع في هذا المجال سوف يؤدي إلى جذب الناس إلى هذه الاعمال بشكل واسع، نأتي هنا بنموذجين لهذه المقولة:

 

الأول: صندوق إعانة عوائل السجناء

مهما كان سبب سجن الرجل فإنه غالباً ما يكون معيلا لعائلته. وخلال فترة حبسه - بخاصة إذا كانت طويلة - تواجه عائلته مشاكل جمة، فمن جانب تهددهم مشكلة الفقر المالي، ومن جانب آخر تترصدهم المشاكل الإجتماعية والأخلاقية، وهنا إذا لم نلتفت إلى الأوضاع التي تعيشها عوائل السجناء ولم نجد حلا لها فإنَّ عملية حبس رب العائلة سوف تورث بالقوة سجناء ومجرمين آخرين. ومن المؤسف أنَّ هذا الأمر لم يُلتفت اليه في المجتمع وقلما نجد شخصاً يفكر فيه.

إذا قمنا بمثل العمل الذي حصل في بعض المحافظات وهو تأسيس صندوق القرض الحسن فإنَّ عملنا هذا سيكون علاجاً لكثير من المشكلات الخاصة بعوائل السجناء وبالسجناء انفسهم، وبذلك نقي المجتمع من كثير من الشذوذ والجرائم المحتمل وقوعها.

إنَّ شخصا إذا كان سجيناً بسبب دين في ذمته يعطى من هذا الصندوق قرضاً لكي يطلق سراحه، وبعد أن يحصل على عمل شريف يقوم بالدفع لهذا الصندوق. وبذلك نكون قد

[ 78 ]

عالجنا مشكلته ومشكلة عائلته وانقذناهم من المشاكل الأخلاقية والإجتماعية التي تترصدهم.

 

الثاني: جمعية اعانة مرضى الكلية

هناك الكثير ممن يعانون من امراض الكلية وقد يحتاج بعضهم للديلزة اكثر من مرة في الاسبوع وخلال هذه الفترة يعانون آلاماً حادة. واكثر هؤلاء يشفون إذا ما زرعت لهم كلية جديدة، لكنهم في الغالب غير قادرين على دفع مبلغ الكلية الجديدة، وفي هذه الحالة إذا تشكلّت جمعية لاعانة هؤلاء المرضى المحتاجين لأجل زرع كلية فإن الجمعية ستقوم بعمل جبار في سبيل انقاذهم من الالام التي يعانون منها، كما تخرج عوائلهم من حالة الاضطراب والقلق.

ويمكن تأسيس جمعيات مشابهة لهذه الجمعية تعم منافعها قطاعات ومجالات أخرى، وذلك سعياً لتقليل المشاكل الاجتماعية والمالية عن الناس.

 

2- المراد من «الحبّة» في الآية الشريفة

هناك بحوث كثيرة قام بها المفسرون متناولين فيها موضوع الحبة والمراد منها.

قيل: معنى ذلك أنَّ الله يقوم بهذه المضاعفة لمن يشاء، وهي قد تصل إلى سبعمائة ضعف.(1)

إنّ هذا المثل قد لا يكون له وجود في الخارج لكن هذا لا يضر، فإنَّ شأن أكثر الأمثال هو هذا سواء كانت بالفارسية أو العربية أو باي لغة أخرى. فالعنقاء وغيرها من الحيوانات التي لا وجود لها في الخارج تستخدم في الامثال.

لكن بما أنَّ المثل صدر من الله الحكيم والعالم، فلابد وأن يكون له وجود خارجي.

ولاجل ذلك قال البعض: المراد من الحبة في المثل هو حبة الدِّخن لا حبة القمح; لأنَّ حبة الدخن قد تنتج سبعمائة حبة. لكن بما أنَّ مزارعاً بوشهرياً (مدينة في جنوب إيران) استطاع في


1. الميزان 2: 387، طبعة جامعة المدرسين في الحوزة العلمية - قم.

[ 79 ]

السنوات الأخيرة ان ينتج 4000 حبة من حبة واحدة، لذلك فسرنا الحبة هنا بالقمح، وأمكننا القول بان لذلك وجوداً خارجياً.(1)

 

3 - المراد من (يضاعف) في الآية الشريفة

هل المراد من عبارة ( واللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ ) أنَّ الله يمنح للمحسن والمنفق ما يشاء من دون حساب بأن يمنح الشخص (أ) ضعفين من الثواب بينما يمنح الشخص (ب) ثلاثة أضعاف؟ أو أنَّ المضاعفة لها حساب خاص وقواعد خاصة؟

إنّ حكمة الله تقتضي بأن لا يكون منح الثواب بشكل اعتباطي ومن دون حساب، بل جعل الأمر مرتبطاً بمفارقات من قبيل درجة الاخلاص وكيفية الانفاق ومورده وشخصية المُنْفِق والمنفَق عليه، أي أنَّ ثواب الشخص الذي انفق خالصاً لوجه الله يختلف عن ثواب الشخص الذي لم يبلغ تلك الدرجة من الاخلاص، والشخص الذي ينفق سراً ومن دون منة واذى يختلف ثواباً عن الشخص الذي ينفق علناً، فهما يقعان في مرتبتين لا مرتبة واحدة. والمسلم الذي ينفق قرصاً من قرصي الخبز اللذين يمتلكهما يختلف عن المسلم الذي ينفق قرصاً وهو يملك عشرة أقراص من الخبز. كما أنَّ الشخص الذي يعين عائلة مسكينة لم يتفوهوا بحاجتهم لاحد يختلف عن الشخص الذي يعين عائلة طلبت الاعانة منه.

 

أرفع نموذج للإنفاق في القرآن

في القرآن سورة باسم (الدهر) أو (الإنسان) أو (الابرار) نزلت في شأن الانفاق الخالص، وقد ادرجت هذه السورة اجمل نعم الجنة للمنفقين.

العامة والخاصة نقلوا أنَّ السورة نزلت في الامامين الحسن والحسين(عليهما السلام) حيث مرضا فنذر الامام علي(عليه السلام) صيام ثلاثة ايام لشفائهما، فالتحقت فاطمة(عليها السلام) بهذا النذر، ثم فضة كذلك. وبعد الشفاء صام الجميع وقد اعدت فاطمة في اليوم الاول خمسة اقراص من خبز الشعير


1. تفسير الأمثل 2: 206.

[ 80 ]

وعند الافطار طرق فقير الباب طالباً العون فاعطى الجميع اقراصهم له وافطروا على الماء فحسب. وفي اليوم الثاني جاءهم يتيم، وفي اليوم الثالث جاءهم اسير، وقد أعطوهما مثل ما اعطوا الفقير في الليلة الاولى، وفي اليوم الرابع نزلت هذه السورة في حقهم،(1) وفيها توصيف وتمجيد للانفاق ووعود بنعم عظيمة في الجنة.

وعلى هذا، فإنّ هذه العائلة حصلت على ثواب عظيم اثر انفاقها لخمسة عشر قرصاً من الخبز.

تقول الايات 9 و 10 من سورة الدهر: ( إنَّمَا نُطْعِمَكُم لِوَجْهِ اللهِ لاِ نُرِيْدُ مِنْكُم جَزَاءً وَلاَ شُكُوْراً إنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوْساً قَمْطَرِيْراً ).

النموذج المذكور وغيره من النماذج التي اثرناها عن المعصومين(عليهم السلام)، هي في الحقيقة موارد نتأسى بها نحن المسلمون لنسير قدماً نحو مجتمع اسلامي مقبول خلو من المفارقات الإقتصادية.

مما يمكن أنْ يُستشف من الاحاديث والروايات هو: أنَّ عدم الفقر والحاجة من خصائص المجتمع الاسلامي المطلوب.

أي أنَّا إذا بلغنا يوماً مستوى اقتصادياً رفيعاً وتنمية صحيحة بحيث توزع الثروة في المجتمع الاسلامي توزيعاً عادلا في جميع البلاد الاسلامية فانا قد بلغنا - من الناحية الاقتصادية - مستوى المجتمع الاسلامي المطلوب.

إنَّ هذه العقيدة ليست شعراً ولا شعاراً ولا كلاماً عاطفياً وذات صبغة احساسية بل إنَّه مضمون رواية منقولة عن الامام الصادق(عليه السلام): محمد بن مسلم من اصحاب الامام الصادق(عليه السلام)ينقل عن الامام قوله: «إنَّ الله عزوجل فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم ولو علم أنَّ ذلك لا يسعهم لزادهم. إنهم لم يؤتوا من قبل فريضة الله عزوجل ولكن اوتوا من منع من منعهم حقهم لا مما فرض الله لهم ولو أنَّ الناس ادوا حقوقهم لكانوا عايشين بخير».(2)


1. التبيان ج 9: 211.

2. وسائل الشيعة ج 6، ابواب ما تجب فيه الزكاة، الباب 1 الحديث 2، وكذا من لا يحضره الفقيه ج 2، ابواب الزكاة، الباب 1 (علة وجوب الزكاة) الحديث 4، وكذا الكافي ج3 (كتاب الزكاة) باب فرض الزكاة، الحديث الاول.

[ 81 ]

المجتمع الذي يضمُّ فُقَرَاء، لا يكون الفقراء المتضرّرين الوحيدين من هذا المجتمع، بل اضرار الفقر تعم جميع المجتمع، فإنَّ الفقر منشأ كثير من الذنوب منها: السرقة والاعمال المنافية للعفة وغير ذلك.

وقد جاء في رواية أخرى للامام الصادق(عليه السلام): «ولو أنَّ الناس ادوا زكاة اموالهم ما بقي مسلم فقيراً محتاجاً لاستغنى بما فرض الله وأنَّ الناس ما افتقروا ولا احتاجوا ولا جاعوا ولا عروا الا بذنوب الأغنياء».(1)

وحسب هذه الرواية فإنَّ الحقوق الشرعية الواجبة مثل الخمس والزكاة تسد حاجة المحتاجين، واذا ما تم العمل بهذه الواجبات، فإنَّ هذه المعضلة ستُجتث جذورها بالكامل.

يطرح هنا تساؤل وهو: ما الحاجة إلى الانفاق والتبرعات المستحبة إذا كانت التبرعات الواجبة تعمل عملها وتسد حاجة الفقراء إلى المال؟ وعلى هذا فما دور الآية 261 من سورة البقرة في هذا المجال؟

يمكننا الاجابة عن هذا السؤال بطريقتين:

الاولى: قد يتخلّف بعض المتمولين والاغنياء عن وظائفهم الشرعية ولا يدفع ما عليه من الزكاة الواجبة - كما هو الحال في الوقت الحاضر فان كثيراً من المتمولين غير موفقين في دفع ما عليهم من الزكاة الواجبة، وفي هذه الحالة يأتي دور الصدقات والتبرعات المستحبة لتملأ الفراغ الناشئ عن عدم دفع الاغنياء لما عليهم من صدقات واجبة.

وعلى هذا، فالمحسنون من المؤمنين يقومون بدور الاغنياء العصاة ويتحملون نتائج عصيانهم، هذا اضافة إلى ما يتحملون من دفع الصدقات الواجبة عليهم.

الثانية: إنّ الزكاة وغيرها من التبرعات الواجبة والمفروضة على الاغنياء تسد الحاجة الضرورية للفقراء إذا ما دفعت. واما الانفاق فدوره يبرز في التوسيع على الفقراء ليبلغ بهم مستوى رفاهي نسبي ومعتد به.

في النتيجة: إذا اخذنا بنظر الاعتبار مستوى الفقر ونوعيته في المجتمع يمكننا الحكم في


1. وسائل الشيعة ج 6 ابواب ما تجب فيه الزكاة، الباب الاول، الرواية السادسة.

[ 82 ]

ضوئه على مستوى اقترابنا من المجتمع الاسلامي المطلوب.

4- دراسة المشبَّه في آية الانفاق

للمفسرين رأيان في تحديد المشبّه في الآية 261 من سورة البقرة، فبعض قال بأنه المال المنفق، حيث شُبِّه بالحبة المباركة التي تنتج سبعمائة حبة.

وقال بعض آخر: بأنَّ المشبَّه هو المنفِق الذي ينمو ويتكامل إلى مستوى رفيع جداً.

اكثر المفسرين يعتقد بأنَّ المشبَّه هو المال المنفق ويقدرون جملة محذوفة هنا لتكون حقيقة الآية كالتالي: (مثل اموال الذين ينفقون..).

ونحن نعتقد أنَّ الآية لا تحتاج إلى التقدير، وحسب الظاهر فإنَّ المشبَّه هو الإنسان المنفِق الذي تعلو شخصيته وتتكامل وتنمو إلى مستوى سبعمائة ضعف، ومصداق هذا الاعتقاد هو الايات والروايات التي دلت على أنَّ الإنسان كالنبات ينمو ويتكامل.

أولا: يقول الله في الايات 17 و 18 من سورة نوح: ( واللهُ أنْبَتَكُم مِنَ الأرْضِ نَبَاتاً ثم يُعيدُكُمْ فيهَا ويُخْرِجُكُمْ إخْرَاجاً ) فقد شُبّه الإنسان هنا بالنبات الّذي يُزرع لينمو ويتكامل ثم يجف ثم يحيا مرة أخرى ثم يجف ثم يحيا وهكذا...

ثانياً: يقول الله في الآية 37 من سورة آل عمران: ( فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُول حَسَن وأنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَريا... ) فقد استخدم هنا مادة الانبات للاشارة إلى تربية مريم من قبل زكريا، والشاهد هو تشبيه تربية الإنسان بتنمية الزرع بعد انباته.

ثالثاً: جاء في حديث نقل عن الرسول(صلى الله عليه وآله): «إياكم وخضراء الدمن!» قيل وما خضراء الدمن؟ قال: «المرأة الحسناء في منبت السوء»(1) فقد شبه الإنسان هنا بالنبات الذي قد ينبت في مكان سيء.

من جانب آخر، انَّ في هذا الحديث خطاباً واضحاً ووصية مهمة للشباب المقبلين على تشكيل عائلة. ففي هذا الحديث يوصي الرسول(صلى الله عليه وآله) المؤمنين أنْ لا يجعلوا الجمال المقياس الوحيد لانتخاب الزوجة بل اضافة اليه ينبغي النظر إلى العائلة، أي المكان الذي تربت فيه


1. وسائل الشيعة ج 41، أبواب مقدمات النكاح، الباب 7، الحديث 7. والدمن تعني المزبلة.

[ 83 ]

الزوجة، وذلك رغم أنَّ الجمال بحد ذاته قيمة إلاّ أنّه يرضي الزوج في الفترة الوجيزة الاولى من الحياة المشتركة، أمّا القيم الأساسية والمهمة في الحياة العائلية، وهي التربية والثقافة والفكر والقيم المكتسبة في البيت فيبرز دورها في المراحل اللاحقة من حياة الإنسان. والجميلة إذا لم تتميز بسيرة حسنة واخلاق جميلة بدلت محيط العائلة المقدس إلى جهنم يصعب تحملها.

كما شاهدنا في الايات والروايات السابقة، فإنَّ الإنسان شبّه بالنبات الذي ينمو ويتكامل، وبهذا يمكن أنْ نستدل على أنَّ المُراد من المشبَّه في الآية هو الإنسان نفسه. وفي النتيجة يكون مفهوم الآية كالتالي: أيها الإنسان أنت كالنبات والإنفاق بمثابة الماء الذي يسقي النبات ليمنحه حياة ونمواً. وبعبارة أخرى: إنَّ الانفاق يُحيي في الإنسان الصفات العليا مثل السخاء والعطاء والمروة والانصاف والشجاعة وغير ذلك.

إنَّ هذه الصفات في البداية تكون (فعلا) أو عملا مجرداً، واذا ما تكررت تصبح عادة وفي صورة الاستمرار تصبح (حالات) وفي النهاية تكون (ملكة)(1) وجزءاً من وجود الإنسان.

وعلى هذا، فالانفاق، قبل ان تكون له عوائد مادية، له مردودات معنوية، وكلما كان الانفاق عن اخلاص اشد وكلما كان اطهر وانسب كلما كانت هذه المردودات اكثر وأوسع. وقد نكون جميعاً جربنا عطاءنا مسكيناً لم يصّرح بحاجته لنا مقداراً من المال (رغم حاجتنا له) وجدنا في ذلك لذة معنوية احسسناها بكل وجودنا، وبلغنا إثر ذلك هدوءاً باطنياً وحالة روحانية ومعنوية خاصة.

ذلك هو النمو والتعالي الذي تشير اليه الآية من خلال مثلها. إنَّ الله القادر والحكيم بامكانه أنْ يغني الجميع ويجتث جذور الفقر من المجتمعات، لكنه شاء أن تكون هناك فجوة بين الفقراء والأغنياء يسعى المؤمنون في ملئها ليروا آثار أعمالهم الحسنة وبركات انفاقهم في الدنيا ويشعروا بهذه الاثار ويبلغوا اثر ذلك الدرجات العليا من الكمال والمعنوية. وعلى هذا فلا نمن على الله بالانفاق ولا على المنفق عليه، بل الله هو الذي يمن علينا أنْ وفقنا لهذا العمل العظيم


1. ان الملكة تعني (الصفة الراسخة في البدن)، وتوضيح ذلك: إذا حصلت للانسان هيئة خاصة من جراء فعل ما قيل لهذه الهيئة: (كيفية نفسانية)، واذا كانت هذه الكيفية سريعة الزوال قيل لها: (حال)، واذا كانت بطيئة الزوال كانت ملكة أو عادة (موسوعة دهخدا ينقلها عن الجرجاني).

[ 84 ]

(اللهم وفقنا لما تحب وترضى).

ومن مجموع ما مضى يمكننا ان نفسر الآية 261 من سورة البقرة بصراحة من دون حاجة إلى تقدير جملة محذوفة. رغم ذلك فانا لا نصر على تفسيرنا بل نعتبر أنَّ كلا التفسيرين مقبولان، أي يمكننا القول: الآية تفيد أنَّ مال الفرد المنفق ينمو كما أنَّ شخصيته تنمو من خلال نمو وتكامل خصالها الحسنة.(1)

 

نمو المال المنفق في كلام الرسول(صلى الله عليه وآله)

في مجال نماء المال المنفق، للرسول(صلى الله عليه وآله) كلام جميل ننقله هنا: «ما تصدق احد بصدقة من طيب - ولا يقبل الله الا الطيب - إلاَّ أخذها الله الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون اعظم من الجبل».(2)

في هذه الرواية نرى عدة نقاط أهلا للإنتباه:

الاولى: الرواية صرحت بأنَّ الله ياخذ الصدقة بيمينه وهذا أمر يطرح تساؤلا: هل لله جسم وأعضاء؟

من البديهي أنّ الله غير مجسم، وتعبير (الاخذ باليمين) كناية عن قدرة الله الكاملة، وذلك لأنَّ اليمنى عند الإنسان غالباً اقوى، لذلك كان مفهوم العبارة أنَّ الله يأخذ الصدقة بقدرة كاملة مع احترام.

الثانية: انّ ما يحضى بالأهمية في الإسلام هو كيفية العمل ودوافعه لا كميته وظاهره. وعلى هذا، فإنّ اعطاء تمرة حلال لمسكين من دون منة ولا أذى افضل عند الله من تمر كثير غير حلال أو تزامن مع منة أو أذى.

الثالثة: وفقاً لهذه الرواية، فإنّ المال المنفق ينمو إلى سبعمائة ضعف أو أكثر. وعلى هذا الأساس، فإنَّ المال يبقى عند الله ينمو ويرد إلى صاحبه يوم القيامة ليكون سبباً لانقاذه من


1. الاستاذ كغيره من محققي علم الاصول يجوّز استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد. وبناء على هذا الرأي يتمكن المتكلم النطق بلفظ وارادة عدة معاني منه. وللمزيد راجع انوار الاصول 1:141 فما بعدها.

2. صحيح مسلم 2: 702، وقد جاء نفس المضمون في روايات اهل البيت (عليهم السلام) في وسائل الشيعة ج 6، ابواب الصدقة الباب 7، الحديث 5 - 8.

[ 85 ]

نار الجحيم.

(الانفاق) في تعابير القرآن الجميلة

لاجل بيان اهمية الانفاق في الإسلام وقيمته في القران، وردت في القرآن تعابير كثيرة عن هذا الأمر، وهي اهل للالتفات والدقة نكتفي هنا بذكر نموذجين منها:

الأول: جاء في الآية الشريفة 245 من سورة البقرة ما يلي: ( مَنْ ذَا الّذِي يَقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فيُضَاعِفَهُ لَهُ أضْعَافاً كَثِيْرَةً ) .

التعبير بالقرض الحسن عن الانفاق تعبير بديع ومدهش. كيف يمكن لله القادر والمالك لكل شيء أنْ يقترض من الإنسان الفقير والمحتاج لربه في كل حركاته وسكناته وحتى في الشهيق والزفير؟ ومع لحاظ أنَّ القرض الربوي في الإسلام حرام فإنّ التعبير عن الانفاق بالقرض الحسن لا يكشف إلاّ عن اهمية الانفاق وتشجيع للعباد لاجل اداء هذا العمل بإخلاص.

ويبدو أنَّ ذكر هذه النقطة ضروري، وهي أنَّ (القرض الربوي) ناظر إلى العباد وسلوكهم بينما القرض الحسن ناظر إلى رب العباد، وهو يعني أنَّ من يقرض الله قرضاً فالله يرجعه مع اضعاف مضاعفة. والنقطة المدهشة كثيراً هنا هي أنَّ يَد الفقير - حسب الآية والروايات المذكورة - هي يد الله، وبيته هو بيت الله. وفي الحقيقة ان ما يوضع في يد الفقير يوضع في يد الله، ولذلك كانت الروايات توصينا بأنْ نضع ايدينا في مستوى ادنى من يد الفقير عند التصدق إليه، لأجل أنْ يَأخذها من أيدينا، ولأنَّ يده هي يد الله وقدرته الكاملة، وهو الذي يستلم المال من المتصدق. حذارا أن تصدر منا اهانة أو تحقير لفقير.

وقد تكررت العبارة المذكورة هنا في الآية 11 من سورة الحديد، كما قد اضيف لها جملة أخرى: ( مَنْ ذَا الذي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضَاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أجْرٌ كَرِيمٌ... ) .

الثاني: جاء في الآية 92 من سورة آل عمران: ( لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شِيء فإنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ... ) .

وكذا جاء في الآية الشريفة 267 من سورة البقرة ( يَا أيَّها الَّذِينَ آمنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّباتِ مَا كَسَبْتُم وَمِمَّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ )، أي عليكم أن لا تنفقوا الا من الطيبات فلا تنفقوا من

[ 86 ]

الاشياء التي لا فائدة فيها أو مضرة مثل الملابس الخلقة أو الفواكه والمأكولات الفاسدة وما شابه ذلك، بل تذهب الآية إلى ابعد من ذلك لتأمر بانفاق ما يحبه الإنسان، والذي هو أهل لان يعطى بيد الله، فإنَّ غير ذلك ليس أهلا لوضعه بيد الله، فالانفاق بالاكل ينبغي أنْ يكون من النوع الذي يحبه المنفق له ولعياله وفي الملابس من النوع الذي يحب لبسه المنفق واهل بيته.

إنَّ نظام القيم الحاكم في الإسلام يحكى عن منح الإسلام القيمة والاهمية لكيفية العمل لا كميته ومقداره، ولهذا يضاعف الله أجرة تمرة واحدة ألف ضعف، بينما لا يفعل ذلك في تمرة أُخرى; لأنَّها قد لا تكون مكتسبة من حلال أو قد تنفق بنية الرياء وما شابه. ننقل هنا حكاية عن الرسول(صلى الله عليه وآله) تكشف عن دقائق الانفاق:

كان الرسول يعدُّ العدة لاحد غزواته وكان المسلمون يتبرعون لاجل هذه الغزوة.. فجاء رجل فتصدق بشيء كثير فقالوا: مراء، وهذا القول صدر من المنافقين الذين لا يامن احد من لسانهم، وجاء أبو عقيل، الذي ما كان مورده يسعه للتصدق فاضطر للعمل ليل نهار لاجل الاشتراك في هذه التعبئة الجماهيرية، بنصف صاع فقال المنافقون: إنّ الله لغني عن صدقة هذا، فنزلت الآية 79 من سورة التوبة: ( الّذِيْنَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ والّذينَ لاَ يَجِدُونَ إلاّ جُهْدَهُم فَيَسْخَرُونَ مِنْهُم سَخِرَ اللهُ مِنْهُم وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيْمٌ ) . (1)


1. انظر الامثل 6: 130 -133.

[ 87 ]

 

 

 

 

المثل السادس: الإنفاق مع المنِّ والأذى

 

يقول الله تعالى في الآية 264 من سورة البقرة:

( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ والأذَى كَالّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِر فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَان عَلَيْهِ تُرَابٌ فأصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَ يَقْدِرُونَ عَلى شَيء مِمّا كَسَبُوا وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِيْنَ ) .

المثلان الخامس والسادس كلاهما حول الانفاق لكنهما غير مكررين، بل إنَّ المثل الخامس حكى فضل الانفاق وقيمته، أمّا في المثل السادس فالحديث عن الانفاق ذات الصبغة السلبية وأنَّ المؤمنين لا ينبغي أنْ يبطلوا صدقاتهم وانفاقهم بالمنّ وأذى الآخرين.

 

الشرح والتفسير

الآية بدأت حديثها بخطاب المؤمنين، ومعنى ذلك أنَّ ما ورد في الآية من اوامر فهي خاصة بالمؤمنين، وشرطها الاول هو الايمان وأن الذي خرج مصداقاً عن هذه الآية وكان غير عامل بها فهو ليس بمؤمن.

عبارة ( لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالمَنِّ والأذَى ) تفيد أنَّ شيئين يبطلان الصدقة، الأول: المنّ، والثاني: ايصال الاذى للاخرين; وذلك لأنَّه قد لوحظ أنَّ البعض يتصدق على آخرين لكن صدقته تتزامن مع اذى إلى آخر العمر، بأن يقول له: (لولاي لكنت محتاراً وما كان لك شأن واعتبار) أو (خذ هذا المبلغ ولا تريني وجهك بعد ذلك).

[ 88 ]

ليس المنّ والاذى هما الوحيدان اللذان يبطلان الصدقة، بل قطع كلام الفقير الذي يريد حكاية حاله ومشاكله أيضاً أمر غير صحيح ومرفوض.

جاء في رواية: «لا تقطعوا على السائل مسألته، فلولا أنَّ المساكين يكذبون ما افلح من ردهم».(1)

لا بأس هنا ان نبتّ بتوضيح مفردة (المنّ). إنَّ أصل هذه المفردة هو (مَن) وهو وزن خاص، وقد استخدمت هذه المفردة للاشارة إلى المعنى المراد في الآية; لأجل أنَّ الشخص المانَّ يحمِّل الممنون عليه عبئاً وثقلا يشعر به.

من جانب آخر، فإنَّ انعام الشخص على آخر يقال له (منّ) وهو على قسمين:

الأول: المنّ العملي بأنْ ينعم شخص عملياً على شخص اخر، وهذا أمر مستحسن.

الثاني: المنّ الادعائي بان ينعم شخص على اخر بالقول دون العمل، فهو عملياً لم ينعم عليه أبداً. وقد استخدمت هذه المادة في القرآن المجيد عشرين مرة.

من موارد استخدام هذه المادة هو ما جاء في الآية 17 من سورة الحجرات: ( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أنْ أسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَىَّ إسْلاَمَكُم بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُم أنْ هَدَاكُم للإيمَانِ ) .

فالمنُّ الاول في الآية هو منٌّ إدعائي، وذلك لأنّ الاعراب لم يمنوا على النبي بأي نعمة. فإنَّ المريض إذا جاء طبيباً وطلب منه الدواء فكتب الطبيب الدواء له وشفى من جرّاء استخدام هذا الدواء، فهل هذا يعني انعام المريض ومنه على الطبيب؟ !

أمّا المنُّ الثاني في الآية فهو مَنٌّ عَمَلَيٌ; وَذلك لأنّ الله أنعم عليهم نعمة الإسلام، فَمَنَّ عليهم بهذا العطاء.

وعلى هذا، فالمَنّ الصادر من الله يعني البذل والعطاء أو المنّ العملي، أمّا المنّ الصادر من الإنسان فيحتمل كلا المعنيين العملي والإدعائي. والمنّ الأول في الآية هو منّ ادعائي وقولي.

ثم تمثل الآية هؤلاء الاشخاص بقطعة من الحجر وتقول: ( ... كالّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ باللهِ واليَومِ الآخر فَمَثَلهُ كَمَثَلِ صَفْوَان عَلَيْهِ تُرَابٌ فأصَابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَ


1. وسائل الشيعة ج 6، ابواب الصدقة الباب 22، الحديث 3.

[ 89 ]

يَقْدِرُونَ عَلى شَيء مِمَّا كَسَبُوا... ) .

فالذي ينفق مع منّ واذى (كالكافر المرائي) انفاقه غير مقبول عند الله; لأنَّ الإيمان هو شرط القبول، ومثل هذين (أي المان والمؤذي من جهة والكافر المرائي من جهة اخرى) كمثل صفوان، أي قطعة من الحجر تراكمت عليها طبقة من التراب بحيث تبدو صالحة للزراعة، فاذا بوابل (مطر) يصيبها ليكشف عن واقعها الصلد المتحجر وعدم صلاحيتها للزراعة، فيجدون أنفسهم ( لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيء ) فذهبت مساعيهم هباءً; لأنَّ عَملهم لم يكن عن علم ومعرفة بل كان بناءً على النظر إلى الظاهر لا الباطن والعمق.

الغيث نعمة يمكنه أنْ يروي المزارع وينمي البذور، كما يمكنه ان يدمر الزرع. كذلك سائر آيات الله فهي تفيد المؤمنين والصالحين من بركاتها، كما تفضح وتضل الكافرين والمنافقين.

إنَّ كلفة وزحمة المزارع الذي يزرع بذور الاخلاص والمزارع الذي يزرع بذور الرياء واحدة لكنَّ حاصل الزرعين ليس واحداً، فاحدهما يحصل على سبعمائة ضعف والاخر قد لا يحصل على ادنى شيء بل يفقد كل ما كان لديه.

 

خطابات الآية

1 - خطابات القرآن المجيد غالباً ما تكون عامة (يا أيُّها النَّاس) و(يا بَنِي آدَمَ) و (يا أيُّها الإنْسَانُ) و (يَا أيُّها الَّذِين آمَنُوا) وهذا يعني تعميم خطابات القرآن لجميع البشر مهما كان جنسهم ومهما كانت قوميتهم، ولذلك لا نجد في خطاباته عبارات من قبيل: (يا أيُّهَا العَرَبُ) أو (يا قريش) وما شابه ذلك.

هذه الخطابات تتضمن نقطة ظريفة وهي عولمة الدين الاسلامي، أي ان الإسلام دين لا يختص بقوم أو بلد أو قبيلة أو جنس بل هو للجميع اينما وجدوا.

2 - إنَّ الرياء والتظاهر عمل لا أساس له ولا تواصل، والمترائي والمتظاهر يحكم عليه بالفضيحة; وذلك لأنَّ كلّ وقت يحتمل أنْ طروّ ظاهرة تكشف عن وجه الحقيقة، كما كشف الوابل في الآية عن حقيقة الصخرة المتحجرة.

3 - إنَّ الذين ينفقون مع المنِّ والأذى كالحجارة وقلوبهم بشدة الحجارة. وما يلفت

[ 90 ]

الانتباه هنا هو أنَّ المطر اللطيف يكشف عن قسوة قلوب هؤلاء وطبيعتهم. إنَّ الغيث يروي البذرة لتنمو، لكن دوره هنا هو تدمير هذه البذرة. إنَّ الغيث من الآيات الالهية تنفذ في قلب المترائي فتغسل فيه طبقة الرياء وتكشف عن صلابة القلب، ليفتضح صاحبه.

4 - انّ المترائين والمنفقين، الذين يمنون، لا يحصلون على ثمرة من جرّاء عملهم هذا، كما هو الحال بالنسبة للمزارع الذي ينثر البذور في الارض الصلبة فانه يفقد بذوره كما تذهب مساعيه هباء، وفي النهاية لا يحصل على أي ثمرة، كذا المنفق مع الرياء فهو لا يحصل على أي ثواب كما يفقد المال المنفق.

5 - بناء على التفكير الفلسفي لاكثر المدارس، وبناء على ما يعتقده عامة الناس، فإنَّ المال شيء ثمين، والغنى يُعدُّ من القيم. وحسب ما يرى الإسلام - مع الاخذ بنظر الاعتبار اهمية المال ودوره في الحياة الدنيا - فإنَّ مفاهيم مثل الايمان والايثار والشهادة و.. لها قيمة اكبر من المال. ومن جملة تلك القيم التي يعتقد بها الإسلام هي احترام الانسانية وحفظ حرمة المؤمن وكرامته.

وعلى هذا، هل يمكن عدُّ عمل الشخص، الذي يمنح مبلغاً لمسكين أمام أعين الناس ويُذهب بذلك اعتباره وماء وجهه، صدقة أو انفاقاً؟ وهل من الصحيح أنْ يتوقع هذا الشخص الأجر والثواب من الله؟

من المؤسف أنَّ نظام القيم للمذاهب المادية هو المال، ومظهره الراهن هو الدولار، وهو بامكانه ان يبرر كل شيء حتى الجرائم التي ترتكب في حق الإنسانية.

من تلك الجرائم هو مبايعة الإنسان وبخاصة البنات والبنين الصغار، فإنَّ دلالي البشر يقومون بشراء البنات والبنين من الدول الفقيرة وبخاصة الشرقية بابخس قيمة ثم يبيعونهم في الدول الغربية المدافعة عن حقوق البشر بمبالغ باهضة. وقد يساء استخدام هؤلاء الاطفال بقطع اعضائهم وزرعها في أجسام بعض المتمولين في العالم الغربي، كما قد يستخدمون لاغراض جنسية وتجارية.

ومن جملة اجراءات الغربيين التي بررتها دولاراتهم هي (الديمقراطية) التي تشكل البنية الاساس لدعوى حقوق البشر عندهم، فقد تم المعاملة على هذه القضية بالدولارات. ومثل

[ 91 ]

ذلك هو أصوات الشعب الجزائري المظلوم حيث أبطلت وبتوا علاوة على ذلك بسلسلة من اجراءات تعسفية ومجازر جماعية، لكنّ مدعيي حقوق البشر في الجزائر عمي وصم وبكم، فلا سمعوا بهذه المجازر ولا رأوا صورها ولا غير ذلك.

إنَّ ذلك في الحقيقة من الاثار القيمة للدولار; وذلك لأنَّ هذه الحوادث تؤمّن مصالحهم، بل انفسهم مباشرة أو بشكل غير مباشر يقومون بهذه الاجراءات; حفظاً لمصالحهم.

هذا الامر لا ينحصر في الجزائر بل الامر عام في العالم أجمع، فإنَّ أي حكومة في العالم تؤمن مصالحهم ولا تحول دون زيادة مواردهم تعد حكومة جيدة مهما كانت قبلية أو بدوية أو لا يلحظ فيها أي دور لآراء الناس، بينما الحكومة التي تعرض مصالحهم واموالهم للخطر فهي حكومة غير انسانية ومخالفة لحقوق البشر ولو كانت تحضى بمعالم انسانية عالية وتدار بواسطة نظام سياسي متقدم.

إنَّ الأمر في الإسلام يختلف، فنظام القيم فيه يبتني على قيم من قبيل الايمان والكمال الانساني وكرامة الإنسان واعتباره وشرفه وحيثيته الرفيعة.

 

سيرة الائمة في الإنفاق والبذل

إنَّ طريقة بذل الائمة وكيفيتها من الحكايات التي يُعتبر ويُتعلم منها الدروس. ينقل العلامة المجلسي عند ذكر سيرة الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام) الحكاية الجميلة التالية التي ملؤها العبر والدروس:

«خرج الحسن والحسين(عليهما السلام) وعبد الله بن جعفر (زوج زينب(عليها السلام)) حجاجاً ففاتهم اثقالهم، فجاعوا وعطشوا فمروا بعجوز في خباء لها فقالوا: هل من شراب؟ فقالت: نعم فاناخوا بها وليس الا شويهة في كسر الخيمة، فقالت: احلبوها وامتذقوا لبنها، ففعلوا ذلك وقالوا لها: هل من طعام؟ قالت: لا إلاَّ هذه الشاة، فليذبحنّها احدكم حتى اهيئ لكم شيئاً تأكلون. فقام اليها أحدهم فذبحها وكشطها ثم هيأت لهم طعاماً فأكلوا ثم اقاموا حتى ابردوا فلما ارتحلوا قالوا لها: نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه، فاذا رجعنا سالمين فالمي بنا فانا صانعون اليك خيراً، ثم ارتحلوا.

[ 92 ]

واقبل زوجها واخبرته عن القوم والشاة، فغضب الرجل وقال: ويحك تذبحين شاتي لاقوام لا تعرفينهم ثم تقولين نفر من قريش.

ثم بعد مدة الجأتهم الحاجة إلى دخول المدينة، فدخلاها وجعلا ينقلان البعير اليها ويبيعانه ويعيشان منه فمرت العجوز في بعض سكك المدينة، فاذا الحسن(عليه السلام)على باب داره جالس فعرف العجوز وهي له منكرة، فبعث غلامه فردها فقال لها: يا امة الله تعرفيني؟ قالت: لا. قال انا ضيفك يوم كذا. فقالت العجوز بأبي أنت وأمي فامر الحسن(عليه السلام)فاشترى لها ما شاء الصدقة ألف شاة(1) وامر لها بألف دينار وبعث بها مع غلامه إلى اخيه الحسين(عليه السلام)فقال: بكم وصلك اخي الحسن؟ فقالت: بألف شاة والف دينار، فامر لها بمثل ذلك، ثم بعث بها مع غلامه إلى عبد الله بن جعفر(عليه السلام)فقال: بكم وصلك الحسن والحسين(عليهما السلام)؟ فقالت: بألفي دينار والفي شاة فامر لها عبد الله بألفي شاة والفي دينار».(2)

 

الصدقة تدفع ميتة السوء(3)

لقد قلنا سابقاً: إنَّ الصدقة تفيد المنفق قبل أنْ يفيد منها المحتاج، وقد درسنا في السطور السابقة ما يترتب على الصدقة من صفات كمالية اضافة إلى الاجر والثواب المعنوي، ونقول هنا: بأنَّ الصدقة تدفع البلاء والموتة السيئة، والرواية التالية تكشف عن هذا الامر.

مرَّ يهودي بالرسول(صلى الله عليه وآله) فقال: السام عليك(4) فاجاب الرسول: «وعليك»، فقال النبي(صلى الله عليه وآله): «إنَّ هذا اليهودي يعضه اسود في قفاه فيقتله»، قال: فذهب اليهودي فاحتطب حطباً كثيراً فاحتمله ثم لم يلبث أنْ انصرف فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله): «ضعه» فوضع الحطب


1. رغم الولاء الظاهر الذي كان يبديه الناس لحكومة معاوية، إلاّ أنّ قلوب كثيراً منهم أو اكثرهم كانت مع الأئمة، ويبدو أنَّ بذل الامام الحسن هذا كان من محل تبرعات الناس وانفاقهم وعطائهم لأهل البيت.

2. بحار الانوار 43: 348.

3. يراد من ذلك الموت الذي يحصل اثر الإحتراق أو الموت بالتقطيع ارباً ارباً وما شابه.

4. هذه الطريقة من السلام تعارفت عند بعض المسلمين، وهو أمر يؤسف له، ويبدو أنَّ عملهم هذا ناشىء عن الجهل بما يعني هذا السلام، الذي هو نوع من اللعن.

[ 93 ]

فاذا اسود في جوف الحطب عاض على عود فقال: «يا يهودي أي شيء عملت اليوم؟» فقال: ما عملت عملا إلاَّ حطبي هذا احتملته فجئت به وكان معي كعكتان فاكلت واحدة وتصدقت بواحدة على مسكين، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «بها دفع الله عنه» وقال: «إنّ الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان».(1)


1. وسائل الشيعة ج 6، ابواب الصدقة، الباب 9، الحديث 3، ونجد هناك روايات أخرى بهذا المضمون.

[ 94 ]

[ 95 ]

 

 

 

 

المثل السابع: الإنفاق اللائق

 

يقول الله الرازق في الآية 265 من سورة البقرة:

( وَمَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمُ ابتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أنْفُسِهِم كَمَثَلِ جَنَّة بِرَبْوَة أصَابَهَا وابِلٌ فأتَتْ أُكَلَها ضِعْفَيْنِ فإنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيْرٌ ) .

رغم أنَّ هذا المَثل كَسَابقه عن الإنفاق لكن يختلف عنه في أنَّه يعكس الجوانب الايجابية للانفاق والمناظر الجميلة له غير تلك المناظر التي تحدث عنها المثل السابق والتي تزامنت مع المنّ والأذى، لأنَّ الحديث هنا عن الانفاق المتزامن مع الاخلاص.

 

الشرح والتفسير

يقول الله في هذه الآية: إنّ مثل الذين ينفقون باخلاص ومن دون رياء وأذى كمثل البستان في مكان مرتفع ذات تربة خصبة يسقيها الغيث، والشمس تسطع عليها من كل مكان، فكانت النتيجة هي محاصيل وافرة ومضاعفة، قياساً لمحاصيل الأراضي المماثلة، والذين ينفقون بمثابة البستان ويكون انفاقهم كمحاصيل هذا البستان وافراً ومتضاعفاً.

إنَّ دَوافِع الإنفاق عند هؤلاء وفقاً لهذه الآية هي كالتالي:

الاول: ( ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ ) وهذا اشارة إلى الحديث المعروف عن الامام علي(عليه السلام): «ما عبدتك خوفاً من نارك» رغم أنَّ نَاره مخيف تصورها فضلا عن واقعها.

«ولا طمعاً في جنتك» رغم أنَّ نعمها ثمينة وقيِّمة جداً ولا يمكنها أن تدخل في مخيلة الانسان.(1)


1. لمعرفة المزيد من النعم الجسمانية والروحانية في الجنة راجع تفسير نفحات القرآن 6: 189 فما بعدها.

[ 96 ]

«لكن وجدتك اهلا للعبادة فعبدتك»(1) أي أنَّ أهليته للعبادة هي التي دفعت الامام للعبادة لا الخوف والطمع.

إنَّ النوع الاول من العبادة هو عبادة العبيد; لأنَّ العبد يَمتثل الاوامر خوفاً من مولاه وسوطه. والنوع الثاني من العبادة هو عبادة التجار; لأنَّ العبادة هنا يُتوخَّى منها الثمن والعوض. والنوع الاخير من العبادة هو عبادة الاحرار، حيث إنَّ اطاعتهم لمولاهم لا خوفاً ولا طمعاً بل لله خالصة.(2)

وقد تكون الآية الشريفة هنا ناظرة إلى النوع الاخير من العبادة، أي أنَّ الإنفاق هنا لم يتوخَّ منه إلاّ وجه الله ورضوانه.

الثاني: الدافع الثاني للمنفقين في الآية الشريفة هو بلوغ الكمالات النفسانية والملكات الروحانية، حيث قالت الآية: ( تَثْبِيتاً لأنْفُسِهِمْ )، وقد جاء في مفردات الراغب أنَّ التثبيت يعني التقوية والتحكيم . بالطبع ليس المراد من التثبيت في الدعاء ( اللَّهُمَّ ثَبِّتْ أقْدَامَنَا ) هو تقوية الاقدام وتحكيمها، بل المراد تقوية خطى الاقدام وتحكيم هذه الخطى.(3)

 

خطابات الآية

1- في هذا المثل شُبِّه المنفِق بالجنة(4) والبستان الذي يقع في ارض مرتفعة، وفي هكذا أرض توجد عدة خصائص هي كالتالي:

الف - نور الشمس من العوامل المهمة لنمو النباتات، والارض المرتفعة تنال نور الشمس من كل صوب; لأنه لا شيء يحول دون السطوع المباشر عليها.


1. بحار الانوار 67: 186.

2. هذا مضمون لكلمة قصيرة للامام علي(عليه السلام) في نهج البلاغة الكلمة 237.

3. الآية (265 من سورة البقرة) شاهد اخر على ما ذهبنا إليه في المثل السادس من أنَّ المشبّه ليس المال المنفق بل نفس الشخص المنفق، فإنَّ الآية هنا تصرح في تشبيه شخصية المنفِق بالجنة (البستان).

4. الجنة من مادة (جن) وتعني التستر، وقد استخدمت في البستان باعتبار أنَّ اشجاره تستر الأرض وتغطيها. وعلى هذا، فليس كل بستان جنة. واطلاق مفردة (الجن) على الموجود المعروف باعتبار أنه غير مرئي بل مستتر ومختفي . واطلاق المجنون على من سلب عقله باعتبار ان عقله يتحجم ويتعطل ويتستر.

[ 97 ]

باء - جو المناطق المرتفعة كثيراً ما يكون نقياً وذلك يعد من عوامل نمو الاشجار وإثمارها.

جيم - الأراضي المرتفعة محفوظة من السيول والفيضانات، بينما البساتين التي تقع في السهول والوديان والشواطئ كثيراً ما تكون عرضة للفيضانات.

دال - أنَّ جمال وعظمة بستان يقع في مرتفع اكثر بكثير من جمال وعظمة بستان في سهل.

وعلى هذا، فإنَّ منفقين كهؤلاء يتلقون انوار الهداية اكثر من غيرهم هذا أولا.

وثانياً: ينالون من نسيم بذل الله وعطاءه النقي بشكل افضل.

وثالثاً: قلما يكونون عرضة للبلايا وميتة السوء.

ورابعاً: يبدون محبوبين عند الاخرين اكثر; لما يحضون به من معنويات عالية.

المشكلة الوحيدة لهكذا بساتين هي أنًَّها محرومة من امكانية جريان قنوات وسواقي فيها، ولاجل ذلك ينزل الله وابلا من المطر كثرته تروي تربة البستان بالمقدار الكافي.

2 - أشارت الآية الشريفة إلى نوعية المطر (وابل) وهي قد تكون ناظرة بذلك إلى درجات الانفاق; باعتبار أنَّ الوابل أو المطر الكثير يروي البستان بالكامل ونتيجة ذلك هو الثمار والفواكه الكثيرة أمّا المطر القليل فلا يروي الاشجار ولا ينضج الثمار جيداً.

هناك فرق في الانفاق في سبيل الله بين أن يكون المنفق بحاجة إلى المال المنفَق وبين أنْ لا يكون هناك حاجة له. رغم أنَّ الإنفاق في كلا الحالتين رضاء لوجه الله.

كما أنَّ هناك فرقاً بين أنْ يصل المال المنفق إلى من يحتاجه حقاً وبين أنْ يصل بيد من لا يحتاجه حقاً.

ذيل الآية القائل: ( واللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيْرٌ ) شاهد قيِّم على ما قلناه في المقطع السابق حيث إنَّ مضمون هذا الذيل هو أنَّ الله بصير وعليم بكون هذا المنفِق انفق رغم حاجته للمال أو لا أو أنَّه انفقه للمستحق أم لا.

3 - موضوع الانفاق في الايات الشريفة 262 و 263 و265 من سورة البقرة هو انفاق المال والثروة، فالايات تحدثت عن الانفاق في الثروات من المال والثياب والمأكولات والادوية والكتب والقرطاسية ووسائل العمل وما شابه ذلك، إلاّ أنَّ الآية الثالثة من سورة البقرة وسّعت نطاق الانفاق ليشمل كل ما انعم من نعم. وقد عدت الآية الانفاق من صفات

[ 98 ]

المؤمنين ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) . (1)

وحسب هذه الآية فإنَّ موضوع الإنفاق عام ويشمل جميع نعم الله وارزاقه، مثل الموارد التالية:

ألف - العلم، على العلماء أن يبذلوا من علمهم، وذلك من خلال تعليم الآخرين، وإلاّ حُكوموا كالمحتكرين في محكمة العدل الإلهي.

وقد جاء في رواية للامام الصادق(عليه السلام) «زَكَاةُ العِلْمِ نَشْرُهُ».(2)

باء - نفوذ الكلام وهو من ارزاق الله، ومن المستحسن أنْ ينفق منه. فاذا شاهدت اختلافاً بين زوج وزوجته أو بين الجيران أو بين شريكين أو بين الاخوة والاخوات أو بين اهالي قرية و.. فمن المستحسن استخدام النفوذ للمصالحة.

جيم - الاعتبار والجاه في المجتمع، وهذه نعمة الهية أخرى ينبغي أنْ ينفق منها، فاذا ما كان مظلوم متورطاً في مخالب ظالم وكان بالامكان الشفاعة لهذا المظلوم باستخدام الوجاهة والإعتبار الاجتماعي وانقاذه من مخالب الظالم فلا ينبغي التكاسل، بل ينبغي العمل باشتياق.

د - الاولاد، وهي من اكبر نعم الله وينبغي انفاقها في سبيل الله متى ما اقتضت الحاجة، كما حصل ذلك للشعب الايراني اثناء الثورة الاسلامية والحرب المفروضة فقد ضحّوا باولادهم دون أنْ يبخلوا بشيء من ذلك.

ه- الفكر، وهو من أثمن نعم الله على الانسانية وينبغي انفاقه وبذله عند المشورة لاعانة الاخرين إلى مستوى يعد الإنسان خلاله مستشاراً صالحاً وناصحاً.

 


1. وقد جاء مثل هذا التعبير في سورة الرعد الآية 22، وسورة النساء الآية 39 وسورة فاطر الآية 29 وآيات متعددة أخرى .

2. ميزان الحكمة، الباب 1587 الحديث 7603. وفي الباب روايات أخرى عينت زكاة خاصة لكل شيء وقد جاء في رواية: (على كل جزء من اجزائك زكاة واجبة لله عزوجل بل على كل شعرة بل على كل لحظة) وقد عدت بعض الروايات مانع الزكاة كافراً أو سارقاً وفي روايات أخرى اردفت أنواعاً موحشة من العذاب لمانع الزكاة، للمزيد راجع ميزان الحكمة، الباب 1580 - 1582.

[ 99 ]

طرق الانفاق وإعانة الاخرين

للاعانة والانفاق طرق مختلفة، والطريق المتعارف عند الناس هو الانفاق المالي النقدي وغير النقدي للمحتاجين، وهو أمر مستحسن إلاّ أنَّ هناك طرقاً افضل واكثر تأثيراً تفي بهذا العمل الخير، وهو تشكيل منظمات ومؤسسات خاصة للاعانة والانفاق المنظم.

لقد تشكلت هكذا مؤسسات على مستوى واسع في بعض المحافظات الايرانية وهي تسعى لجمع التبرعات من جهة، ومن جهة أخرى تستقصي المحتاجين لاعانتهم بمختلف الطرق، مثل إعداد وسائل البيت الرخيصة من بعض المؤسسات والشركات والدوائر.

وقد تكفلت بعض هذه المؤسسات قضية دراسة الاطفال وتحمل نفقاتهم والاشراف عليهم من هذا الجانب، وارتقى بعض من هؤلاء الاطفال الدرجات العليا ودخلوا الجامعات وتخرجوا منها.

وتقوم بعض منها بنشاطات ثقافية اضافة إلى الاعانات المالية، وذلك من قبيل تشكيل دورات تعليمية تثقيفية لمختلف الاعمار.

على المسلمين في العصر الراهن أنْ يلتفتوا إلى هذا النوع من الانفاق المنظم اكثر. ورغم أنَّ بعض الدوائر الحكومية تكفلت بهذه القضية إلاّ أنّ كثرة المحتاجين والفقراء في عصرنا هذا يستدعي وجود مؤسسات خيرية منسجمة على نطاق واسع.

جمعيات اعانة السجناء والمرضى من ضمن الطرق الاخرى المنسجمة والجيدة التي اشرنا اليها في السطور السابقة.

إنَّ الالتفات إلى الابتكار والابداع(1) في مجال الاعانات لهذه المؤسسات والجمعيات يؤدي إلى انتاجية اكثر، بحيث تتم الاعانات والمساعدات بالافادة من اقل مقدار ممكن من الامكانيات.

لقد قلنا سابقاً: إنَّ الصدقة كما قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) تمنع من ميتة السوء، وهنا حديث اخر للرسول(صلى الله عليه وآله) يقول فيه : «إنَّ الله لا اله إلاَّ هو ليدفع بالصدقة الداء والدبيلة والحرق والغرق


1. ومن هذه الابداعات هو تنظيم جماعات لارسالهم إلى المناطق المحرومة وبخاصة المناطق الحدودية للبت في النشاطات الثقافية، مثل بناء المدارس والمساجد والمستوصفات وغير ذلك، وهذه المجاميع يمكنها ان تصد أو تحد من الهجمات الثقافية لاعداء الإسلام من امثال (الوهابية).

[ 100 ]

والهدم والجنون، وعد سبعين باباً من السوء».(1)

بالطبع، كلام الرسول(صلى الله عليه وآله) ليس هراء بل يحكي عن الواقع . وهذه آثار حقيقية للصدقة فاذا اُحيت هذه السنة الحسنة لزالت الكثير من مشاكلنا الاجتماعية والشخصية كذلك.

4- في آية المثل السابع يُلاحظ أربع خصائص:

الاولى : الأرض المرتفعة. الثانية: اشجار البستان . الثالثة: الوابل أو المطر الشديد. والرابعة: الثمار والفواكه الكثيرة . وكلٌّ من هذه تشبيهات من ناحية، ومن ناحية أخرى تعبّر عن اعضاء الإنسان وصفاته أو النعم الالهية التي يتمتع بها هذا الموجود.

التعابير التالية عن التشابيه الأربعة الماضية جاءت في أحد التفاسير:

لقد شبه روح الإنسان وقلبه بالارض المرتفعة التي يقع فيها البستان، أمّا اعمال الإنسان الصالحة واللائقة فقد شبهت بالانفاق والبذل في سبيل الله، وقد شبهت رحمة الله ونعمه وهدايته التكوينية والتشريعية(2) بالمطر الكثير (الوابل) الذي يروي الاشجار والاعمال الصالحة والملكات الفاضلة لتنمو. واما الفضائل النفسية والصفات الروحية والاخلاقية البارزة من قبيل الايثار والجود والسخاء والبذل والتواضع والخضوع وحب الغير فقد شبهت بثمار البستان وفواكهه المباركة.

الهدف من هذه التشابيه وهذا المثل - كغيره من الامثال - هو التكامل الوجودي للانسان وبلوغ درجة القرب إلى الله، وبتعبير آخر: صيرورة الإنسان عبداً خالصاً لله، وذلك هو الهدف من خلق الإنسان وجميع الموجودات ذات الشعور والاحاسيس،(3) وذلك عبارة أخرى عن ايصال الإنسان إلى مقام يؤهله للدخول في خطاب الآية اللطيفة والمهدئة: ( يا أيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فادخُلِي فِي عِبَادِي وادْخُلي جَنَّتِي ).(4)

 


1. وسائل الشيعة ج 6، ابواب الصدقة، الباب 9، الحديث 1.

2. المراد من الهداية التشريعية هو آيات القرآن المجيد والوحي واقوال وسيرة الرسول(صلى الله عليه وآله). والمراد من الهداية التكوينية هو الاعدادات والإمدادات الغيبية التي تطرأ على قلب الإنسان المؤمن وروحه لتهديه إلى الصواب.

3. يقول الله في الآية 56 من سورة الذاريات: (وَمَا خَلَقْتُ الإنسَ والجِنَّ إلاّ لَيَعْبُدُون).

4. الفجر الآيات 27 - 30.

[ 101 ]

ما أحسن السعادة التي ينالها الإنسان

من النتائج المستوحاة من هذا المثل هي أن هناك جنة (علاوة على الجنة الموعودة في الاخرة) في الدنيا، وهي جنة قلب الإنسان المؤمن المملوءة بالأشجار والثمار، أي الصفات والفضائل الاخلاقية لروح الإنسان وصفائها من التلوث، والإنسان لا يمكنه ادراك هذه الجنة ولا يمكنه الشعور بها إلاَّ أنْ تكون أعماله جميعها خالصة لوجه الله وابتغاءً لمرضاته، ولا يكون فيها ذرة من الرياء . والجملة الاخيرة للاية تشير إلى هذا الموضوع : ( واللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيْرٌ ) فإنَّ الله يرى الاعمال ويرى نواياها ويرى كل ما يطرأ على النوايا من اغراض غير إلهية.

موضوع الشرك في العمل الذي يصطلح عليه (الرياء) تعرضت له الايات والروايات على مستوى واسع.

يقول رسول الله(صلى الله عليه وآله) في حديث نقل عنه: «إنَّ الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ليلة ظلماء».(1)

وحسب هذه الرواية; فإنَّ الشرك اخفى من حركة نملة سوداء على صخرة سوداء في ليلة ظلماء.

الإنسان بعد سنوات من العبادة قد يدرك عدم خلوصه في كثير من العبادات، إنَّ هكذا انسان سيكون سعيداً إذا ما تاب وبت في الجبران.

وتباً للإنسان الذي يدرك عدم خلوصه لكن ادراكه يكون متأخراً، يقول الله تعالى ( ...كَلاَّ اِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا... ).(2)

ننهي بحثنا عن الشرك بذكرى عن مرجع عالم الإسلام آية الله العظمى السيد البروجردي رضوان الله تعالى عليه.

كان السيد قد ذهب لقرية بشنوة (في ضواحي مدينة قم) لاجل الاستراحة، وفي احد


1. ميزان الحكمة، الباب 1994، الحديث 9316.

2. المؤمنون الآية 100.

[ 102 ]

الايام هناك كان قد فرش سجادة قرب قنال هو مع مرافقيه، وقد شاهد المرافقون انذاك أنَّ السيد قد غاص في التفكير كثيراً فسألوه عن علة ذلك فأجاب: (كنت اُفكر في أنَّه هل كان لي عمل خالص لوجه الله وابتغاء مرضاته من دون أنْ يشوبه شائبة ام لم يكن؟).

فقالوا له : مولانا ! الحمد لله، إنّ لك خدمات كثيرة قدمتها للحوزة العلمية والمسلمين،(1)فلا مجال للقلق . فهز السيد رأسه وقرأ الحديث «إخلص العمل فإنَّ الناقد بصير».(2)

الناقد هو الذي يميز السكك الخالصة عن المزورة، إنَّ نسبة التزوير إذا كانت كبيرة فقد يستطيع الناس عموماً تشخيصها أمّا إذا كانت نسبة الغش والتزوير قليلة جداً فذلك أمر لا يشخصه الا الناقد. وحسب هذه الرواية، فإنَّ الله هو الناقد لنوايا الإنسان ويمكنه تشخيص الخالص عن غيره، فهو بصير وعليم ويشخص حتى اقل مقدار من الغش وعدم الخلوص.

وعلى هذا، ما علينا إلاَّ أنْ نسعى بأنْ لا يكون أي جزء ولو بسيط من عدم الخلوص في اعمالنا واقوالنا وافكارنا، وذلك لاجل التقرب إلى الله تعالى.

 

آداب الانفاق

ندرس هنا بعض آداب الانفاق واصوله:

 

1- الإنفاق ممَّا تحبون

إذا انفق شخص ما كان لديه من اغذية زائدة وألبسة رثة فلا اشكال في ذلك وهذا اقل مرتبة للانفاق وادنى حد له، إلاَّ أنَّ على الإنسان أن ينفق ما يحب لاجل بلوغ اعلى مراتب


1. حقاً ان خدمات السيد جبارة، وهي من قبيل: احياء الحوزة العلمية الشيعية وبناء ما يقرب من الف مسجد وترميم ابنية دينية واعادة طبع كتب قديمة قيمة كانت قد نسيت ومبادرته الذكية في ارسال مبعوث عنه إلى جامعة الازهر في مصر واعلام هذا المركز اثر ذلك عن أنَّ التشيع مذهب كبقية المذاهب الاسلامية وأنَّ المسلمين يمكنهم التمسك به والعمل حسب تعاليمه وخدمات مهمة وكثيرة أخرى.

2. بحار الانوار 13: 432.

[ 103 ]

الإنفاق : ( لَنْ تَنَالُوا البرَّ حَتى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ).(1)

وقد قيل في الزهراء (عليها السلام): انها عندما ذهبت إلى بيت زوجها للعرس صادفت في الطريق محتاجاً سألها الاعانة، فبذلت له ثوب عرسها رغم انها كانت تحمل ملابس رثة وزائدة.(2) لا يمكن العثور في كل التاريخ على انفاق خالص مثل ما صدر من الزهراء (عليها السلام)فهي شابة في مقتبل العمر تنفق ملابس عرسها رغم ان بامكانها انفاق ما كان عندها من ملابس زائدة أخرى. وذلك مصداق حقاً للاية الشريفة السابقة.

يمكننا العثور على انفاق من هذا القبيل صدر من المعصومين(عليهم السلام)، فإنَّ الإمام علي(عليه السلام)انفق خاتمه لفقير وهو راكع في صلاته، وقد نزلت في هذا الشأن الآية 55 من سورة المائدة.(3)

وفي حال الامام علي(عليه السلام) ينقل انه كان يشتري قميصين، ويخير قنبر غلامه في انتخاب احدهما ويترك الاخر له.(4)

وقد قال الامام الصادق(عليه السلام) في رواية له: «ما من شيء إلاّ وكِّل به ملك إلاَّ الصدقة فانها تقع في يد الله تعالى».(5)

وهل من المناسب واللائق للانسان ان يبذل اموالا لا يحبها تصل مباشرة بيد الله؟!

 

2 - الانفاق في غاية الادب

إنَّ الأدب ضروري عند البذل والانفاق، وينبغي السعي آنذاك لاجل حفظ ماء وجه وشخصية المحتاج، يقول القرآن المجيد: ( قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَة يَتْبَعُهَا أذَىً... ).(6)


1. آل عمران: 92.

2. النقل بالمضمون وليس بالنص وهو عن احقاق الحق 10: 401، نقلا عن كتاب (مظهر ولايت) ص 269.

3. تفصيل القصة في ذيل الآية في المجلد الرابع من الأمثل الصحفة 45 - 46 .

4. بحار الانوار 4: 324 طبع بيروت.

5. وسائل الشيعة 6: 303.

6. البقرة: 263.

[ 104 ]

إذا راجعك محتاج وسألك شيئاً واجبته بهذا: (أعتذر، لا يمكنني اعانتك) أي ترده باحترام فذلك افضل من أن تنفق له مع أذية ومنة بأن تقول له: (لا اراك بعد هذا) أو (خذ هذا لتريحني من شرك).

إنَّ هذه الأخلاقية الرفيعة في الإنفاق تلاحظ عند المعصومين بشكل واضح، فقد قيل في الإمام السجاد(عليه السلام): إذا اعطى السائل قبَّل يده، فقيل له لِمَ تفعل ذلك؟ قال: «لانها تقع في يد الله قبل يد العبد».(1)

كم هو الفرق بين الانفاق المخلص والمتزامن مع الأدب والاحترام الوافر، والانفاق الذي يتم عن رياء وتحقير.

 

3 - التعجيل في دفع الصدقة

لا ينبغي التأني والتواني الوافر والوسوسة عند دفع الصدقة تقرباً لله تعالى; لأنّ الشيطان في ذلك الزمن يسعى كثيراً لمنع الإنسان من دفع الصدقة، يقول الله تعالى في الآية 268 من سورة البقرة: ( الشَيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ ويَأمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ واللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيْمٌ ) .

إنَّ الشيطان يوسوس للانسان بشتى الطرق، فهو يقول مثلا: (فكِّر بمستقبل أطفالك، وبأيام شيبك وحافظ على أموالك لذلك الحين). هذا لأجل صرف الإنسان عن الانفاق، بينما الله يعد بالمغفرة وبارجاع المال المنفق.

وقد تعارف بين الناس أنَّ الشيطان يتعلق بيد الإنسان عندما يريد الاخير بذل المال; وذلك لمنعه عن البذل. وهذا اشارة أخرى إلى الآية الشريفة .

ومن المثير أنَّ القرآن لم يستخدم كلمة (الفقر)(2) الا في هذه الآية، وقد نسبه إلى الشيطان.

مَن كان يرزقك عندما كنت جنيناً في ظلمات ثلاث ؟ الله هو الرازق، وهو بنفسه سيكون


1. وسائل الشيعة 6: 303.

2. أمّا مشتقات هذه الكلمة فقد استخدمت اربعة عشر مرة في القرآن.

[ 105 ]

رازقاً لك ولأولادك عند الشيخوخة والعجز.

هناك قول جميل لأحد العظماء يقول فيه: (لا أعمل شيئاً لمستقبل أولادي; لأنهم إنْ كَانُوا من أولياء الله فالله لا يكلّ وليه لنفسه، وإنْ كَانوا أعداء لله، فمالي أعينهم؟!).

 

4 - صدقات السر والعلانية

المستفاد من الروايات هو أنَّ الصدقة عملٌ الأفضل إتيانه سراً، إلاَّ أنَّه في بعض الأحيان يستدعي الأمر العلانية في التصدق، وذلك لعنوان ثانوي طارئ.(1)

إنَّ هذا الأمر قد بُيّن بوضوح في الآية الشريفة 271 من سورة البقرة: ( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاِت فَنِعِمَّا هِي وإنْ تُخْفُوهَا وَتُؤتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُو خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبَيْرٌ ) .

5 - الأولوية للمساكين المتسترين

القرآن المجيد يعتبر المساكين والمتسترين على فقرهم هم المحتاجون الحقيقيون كما هم أولى باستلام هذه الاعانات والصدقات، الآية 273 من سورة البقرة تحكي هذا المضمون: ( لِلفُقَرَاءِ الَّذينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيْلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبَاً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيْمَاهُم لاَ يَسْئَلُونَ النَّاسَ إلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْر فَإنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ ) .

من الفقراء ذو عزة نفس عالية ومثل هؤلاء هم اهل لهذه الصدقات وأولى بها، وبخاصة أنَّ هذا الشهر شهر مبارك والأعمال العادية فيه تعدّ عبادة، فكيف بطاعة ذات قيمة عالية مثل التصدق؟ كما أنَّ من فلسفة الصيام هو الاحساس بالآم المحتاجين للبتّ في رفع احتياجاتهم.(2)


1. من المفضل في الموارد التالي ذكرها ان يكون التصدق علانية: لتشجيع الاخرين على التصدق، لاحياء سنة التصدق الاسلامية، هذا إذا ما كان كل المسلمين يتصدقون سراً، فان التصدق سراً هنا قد يؤدي إلى تهمة ترك الانفاق، وكذا التصدق لتعظيم الشعائر الدينية.

2. وسائل الشيعة ج 6، ابواب الصوم، الباب 1، الحديث 1و3و4و5.

[ 106 ]

[ 107 ]

 

 

 

 

المثل الثامن: عاقبة الاُمور

 

يقول الله تعالى في ثامن مثل من أمثال القرآن في الآية 266 من سورة البقرة:

( أيَوَدُّ أحَدَكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَخِيْل وَأعْنَاب تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيْهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وأصَابَهُ الكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَةٌ ضُعَفَاءُ فأصَابَهَا إعْصَارٌ فِيْهِ نَارٌ فاحْتَرَقَت كَذلك يُبَيِّن اللهُ لَكُمُ الآياَتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) .

 

تصوير البحث

كيف يكون أحدكم راغباً في ان يبتلى بمصير الشخص الذي له بستان فيه نخيل وأشجار مثمرة وفيه أنهار بعد ما بلغ هذا الشخص سن الكبر، وكان قد جمع حوله ذرية واطفالا ضعفاء، حينئذ يواجه البستان إعصاراً متزامناً مع نار ملتهبة تلتهم بستانه وما فيه ليصبح ذليلا بعد عمر من العز.

 

الشرح والتفسير

للمفسرين أقوال في هذه الآية:

يعتقد بعض المفسرين أنَّ هذا المثل يحكي عاقبة الإنسان الذي يحرق محاصيل انفاقه وبذله بنار الرياء، لتذهب بذلك أعماله الصالحة وعباداته سُدى.

قد يقوم البعض باعمال كثيرة من قبيل الحج والصلاة والصيام والجهاد واعانة المساجد

[ 108 ]

وبناء المستشفيات واعانة الايتام، وقد يقضي عمراً طويلا في هذه الأعمال إلاَّ أنه قد يحرقها ويُذهب بها مع الريح ليمحو آثارها وذلك بأن يتراءى بها.(1)

ويرى البعض أنَّ آية المثل لا تختص بالرياء، بل تشمل جميع الذنوب، فإنَّ الآية تحذّر المسلمين ليراقبوا أعمالهم وعباداتهم، ويحفظوها مما قد يدمرها ويحرقها من الذنوب.

وحسب هذه الاية، فانّ الإنسان إذا لم يراقب أعماله قد يبتلي بمصير هذا الشيخ الذي تضرر هو مع عياله وأولاده وأوقع مستقبل اطفاله بخطر.(2)

وبعبارة أخرى: يا إنسان! حافظ على أعمالك وعباداتك دائماً وبشكل مناسب وفكر بعاقبة امرك; وأنَّ حفظ العمل اصعب من اداء نفس العمل.

قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «من قال لا إله الا الله، غرس الله بها شجرة في الجنة»، والحديث يعني أنَّ الإنسان كلما نطق بهذه الكلمة غرست له شجرة في الجنة.

والمستفاد من هذه الرواية هو أنَّ الجنة وكذا جهنم تبنى بواسطة أعمالنا، فهي ليست مبنية من ذي قبل.

قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «من قال: سبحان الله غرس الله بها شجرة في الجنة. ومن قال: الحمد لله غرس الله له بها شجرة في الجنة. ومن قال: لا اله الا الله غرس الله له بها شجرة في الجنة. ومن قال: الله اكبر غرس الله له بها شجرة في الجنة».

فقال رجل من قريش: يا رسول الله إنّ شجرنا في الجنة لكثير، قال: «نعم، ولكن إيَّاكم أنْ ترسلوا عليها نيراناً فتحرقوها وذلك أنَّ الله عزوجل يقول: ( يَا أيُّهَا الّذِيْنَ آمَنُوا أطِيْعُوا اللهَ وأطِيْعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أعْمَالَكُم ) . (3)

ويقول الرسول(صلى الله عليه وآله) في حديث آخر: «العلماء كلهم هلكى إلاَّ العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلاَّ المخلصون، والمخلصون على خطر».(4)


1. انظر الأمثل 2: 216 - 217.

2. انظر مجمع البيان 2: 379.

3. بحار الأنوار 90: 168.

4. ميزان الحكمة، الباب 1032، الحديث 4768.

[ 109 ]

وفي هذا الحديث تحذير آخر للانسان بان لا يذهب باعماله الخالصة الماضية بذنوبه المقبلة.

( أيَوَدُّ أحَدَكُم أنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيْل وَأعْنَاب ) إنَّ الإشارة إلى فاكهة العنب والتمر دون غيرهما يفيد أنهما أهم أغذية للبشر، أما الأهم منها فمعدم أو قليل.

( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ فِيْهَا مِنْ كُلِّ الثَمَرَاتِ ) البستان قد يحتوي على بركة أو قنال يسقى منها، والأخير قد يستدعي بذل المال مقابل الماء. وفي كلا الحالتين، إنَّ السقي بهما يستلزم متاعب وزحمات جمة. إلاَّ أنَّ البستان الذي تحدثت عنه الآية يقع في مسير نهر، وهذا يعني أنَّ السقي لهذا البستان مريح جداً ولا يستدعي تحمل زحمات وافرة. اضافة إلى هذا; فإنَّ في هذا البستان فواكه من قبيل التمر والعنب.

( وأصَابَهُ الكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءٌ ) أي أنَّ صاحب هذا البستان أصبح شيخاً كبيراً. وضعف الذرية اشارة إلى عدم امكانهم اعانته على شؤون البستان، بل انَّ عبء هؤلاء الأطفال واقع جميعاً على عاتق هذا الشيخ، وهذا البستان لا يحتاج إلى عناية كبيرة ومستمرة فيمكنهم التمتع بمحاصيله وثماره.

( فَأصَابَهَا إعْصَارٌ فِيْهِ نَارٌ فاحْتَرَقَتْ ) أي في الوقت الذي يكون فيه الشيخ بأمسِّ الحاجة إلى هذا البستان يأتي إعصار من نار يحرق هذا البستان ويبدله إلى تل من الرماد ثم يذهب هذا الرماد مع الريح متناثراً بحيث لا يبقى أي اثر منه.

الإعصار يحصل اثر اصطدام ريحين قادمين من اتجاهين مختلفين، وهو يحضى بقدرة عجيبة إذا حصل في مكان فانه يذهب معه كل ما يكون هناك من اشياء، فقد يذهب بماء حوض مع اسماكه ويسقطها في مكان اخر بحيث يتصور البعض انّ الاسماك جاءت من السماء، وقد يرفع انساناً من مكانه ويلقيه في مكان آخر.

سؤال: كيف يحصل النار ويتزامن مع هذا الاعصار؟

هناك إجابات عديدة لهذا السؤال:

الف - يعتقد البعض أنَّ الاعصار خال من النار، والنار تقدم من الصواعق فالصاعقة تحرق البستان ثم يأتي الاعصار ليذهب برماد البستان وينقله إلى مكان آخر.

[ 110 ]

باء - إنَّ الاعصار قد يتلاقى مع نار مستعرة فياخذ منها ويلقيه على البستان فيحترق البستان ويتبدل رماداً.

جيم - هذه الأعصار ليست اعصاراً متعارفة، بل هي اعصار يطلق عليها (سموم) تهب غالباً في السعودية والذين يقعون في طريقها يتقنعون وينبطحون إلى أنْ تَتجاوزهم، وهذه الأعصار عندما تلاقي البستان تحرقه وتدمره.

( كَذَلك يُبَيِّن اللهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُم تَتَفَكَّرُونَ ) يعتبر الله الهدف من هذا المثل هو التفكّر والتعقل. ووفقاً لهذه الآية الشريفة، فإنَّ على الإنسان أن يودع نفسه بيد الله ويعتقد أنَّ كل ما يقوم به من أعمال وطاعات وعبادات هي قليلة في حق الله وأنَّ ما يصله من الله تعالى من نعيم هو بلطفه وإحسانه لا لعمل وعبادة استحق بهما الإنسان تلك النعم.

من المؤسف أنَّ هذا الإنسان الضعيف قد لا يفكر جيداً ويغتر بما جاء به من ركعات صلاة وأيام من الصوم فيعد نفسه - لأجل ذلك - من أصحاب الجنة. بل يعد الجنة، واجبة له، ونفس هذا الإنسان قد يرى نفسه ميتاً خلو الإيمان.

اللهم اجعلنا من المرحومين ولا تجعلنا من المحرومين.

 

إنّ السوء كان عاقبة هذا الشخص

في زمن الطاغوت البهلوي كان طالب حوزة متدينٌ جداً ومتق، وكان يواضب على اعماله كثيراً، وقد كان متذمراً من اخيه ولا يعاشره لاجل انه كان لا يدفع الخمس والزكاة. في يوم من الأيام مرض هذا الطالب مرضاً شديداً فاخذه اخوه إلى بيته ليعتني به وأثناء تواجده عند أخيه ذهب احد الاساتذة لعيادته وعند الدخول قال للاستاذ: لا تجلس على السجادة لانها مغصوبة.. لكن الزمان غيّر هذا الطالب ولم يبقه على ما كان، بل حوّله إلى درجة أنّه ما كان يجلس على مأدبة طعام خالية من المسكر.

يقول الإمام علي(عليه السلام) في الخطبة القاصعة(1) التي تعرض في جزء منها إلى آثار التكبر


1. نهج البلاغة، الخطبة 192.

[ 111 ]

والعجب: «فاعتبروا بما كان من فعل الله بابليس إذ احبط عمله الطويل وجهده الجهيد وكان قد عبد الله ستة الاف سنة، لا يدري أمن سني الدنيا ام من سني الاخرة عن كبر ساعة واحدة»، فإنَّ ساعة من العناد والتكبر احبطت اعماله وورطته بمصير لا يحمد.

وعلى هذا، فلا ينبغي ان يغتر الإنسان ابداً بطاعاته واعماله، بل عليه ان يتطلع دائماً إلى عفو الله ورحمته.

اللهم اجعل عاقبة أمرنا خيراً.

 

خطابات آية المثل هي الاحباط والتكفير

من البحوث المطروحة في علم الكلام هي مسألة الاحباط والتكفير وقد أشارت اليهما الآية.

إنَّ الاحباط عبارة عن أعمال وذنوب، الاتيان بها يؤدي إلى ذهاب حسنات الإنسان وعباداته. أمّا التكفير فهو عبارة عن اعمال، اداؤها يؤول إلى ذهاب الذنوب ومحوها. وعلى سبيل المثال، فإنَّ تكبر الشيطان وحسده ولجه سبب في احباط اعماله التي أدَّاها خلال ست الاف سنة، أمّا توبة الحر بن يزيد الرياحي عند الامام الحسين(عليه السلام)فقد كانت تكفيراً لذنوبه التي ارتكبها.

ان التوبة تطفي نار الذنوب، وعلى المسلمين ان يتوبوا وينيبوا إلى الله دائماً بالدعاء والمناجاة والتوسل بالأئمة المعصومين (عليهم السلام).

اضافة إلى الايات، فإن ادعية العشرة الثالثة من شهر رمضان أشارت إلى مسألة الاحباط والتكفير، فنقرأ في دعاء ليلة القدر مثلا: «وان كنت من الاشقياء فامحني من الاشقياء واكتبني من السعداء»(1) فان القسم الاول من الدعاء يشير إلى مسألة الاحباط والقسم الثاني إلى مسألة التكفير.


1. مصباح الكفعمي، أعمال ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان المبارك اضافة الى هذا فان جملة (ان تجعل اسمي في هذه الليلة في السعداء) نجدها في جميع ادعية الليالي العشر الاخيرة من شهر رمضان.

[ 112 ]

الاستدلال على وجود الاحباط والتكفير

رغم أنَّ بعض العلماء المسلمين لا يعتقد بالاحباط والتكفير ولا يرى تأثيراً لاحدهما على الاخر أي أنَّ الأعمال الحسنة لا تؤثر على السيئة والسيئة لا تؤثر على الحسنة، لكن القرآن يصرح في بعض الآيات بالاحباط والتكفير.

ونختار من ذلك بعض النماذج:

الف - يقول الله في الآية 114 من سورة هود: ( وَأَقِمِ الصَّلوةَ طَرَفَي النَّهَارِ وَزُلْفاً مِنَ اللَّيْلِ إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلك ذِكْرَى للذّاكِرِينَ ) .

باء - يتحدث القرآن المجيد عن الاحباط في الآية 5 من سورة المائدة: ( وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَة مِنَ الْخَاسِرِينَ ) . (1)

وعلى هذا، فأصل الإحباط والتكفير قد بُيِّنَ في الآيات، إلاّ أنها لم توضح أي نوع من الذنوب توجب الاحباط وأي نوع من الاعمال توجب التكفير، وعلينا استفادة ذلك من الروايات.

ما ينبغي علينا إلاّ مُراقبة أعمالنا خوف أنْ يصدر منّا عمل يحبط اعمالا قيّمة كثيرة. وإذا ما اذنبنا فعلينا طلب الاعانة من الله بالبكاء والنواح لكي يتوافر بذلك بحر من الماء يطفئ نار الذنوب. وإذا كانت شخصية مثل الإمام علي ((عليه السلام)) يسجد ويقول خضوعاً: «آه من قلّة الزاد وطول الطريق وبعد السفر...»(2) فكيف بنا نحن انا وأنت؟!


1. وهناك آيات أخرى من القرآن الكريم دلت على الاحباط والتكفير، للمزيد راجع تفسير الأمثل 2:67 - 96، ومحال أُخرى من الكتاب نفسه متناثرة في باقي مجلداته، منها في سورة هود ومنها في سورة الحجرات وغيرهما من السور.

2. نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 77.

[ 113 ]

 

 

 

 

المثل التاسع: أكل الربا

 

يقول الله تعالى في الآية 275 من سورة البقرة:

( الّذِيْنَ يَأكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبَطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذلك بِأنَّهُم قَالُوا إنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأمْرُهُ إلى اللهِ وَمَنْ عَادَ فأُولئِكَ أصْحَابُ النِّارِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُونَ ) .

 

تصوير البحث

إنّ آكلي الربا على أساس هذه الآية عندما يدخلون المحشر يوم القيامة يدخلون كالسكارى أو المجانين أو المصروعين، لا يتمالكون على انفسهم ولا يستطيعون حفظ تعادلهم فيقعون ويقومون بين الحين والاخر. وهذا المنظر المرعب يلفت انظار اهل المحشر ويجعلهم يدركون أنَّ هؤلاء هم آكلو الربا.

 

علاقة الآية بما قبلها

الايات السابقة تحدثت عن الصدقة والانفاق في سبيل الله، وهذه الآية ترتبط بشكل وآخر بالصدقة; وذلك لأن الصدقة على قسمين:

1- الصدقة دون عوض وهو الانفاق والبذل للمحتاجين.

2- الصدقة مع العوض وهو الدين أو القرض الحسن.

[ 114 ]

إنّ الدين إذا لم يكن مع عوض وربح كان قرضاً حسناً والا عُدَّ رباً وحراماً. وقد جاء في الروايات أنَّ الصدقة والبذل من دون عوض اجرها عشرة اضعاف، أمّا إلاقراض أو الصدقة مع العوض فاجره ثمانية عشر ضعف،(1) وسبب ذلك واضح من حيث أنَّ المقترضين محتاجون حقاً، وهم ذوى اعتبار وماء وجه.

وعلى هذا، فإنَّ شيئين يتوخى من القرض هما: أولا - رفع حاجة المحتاجين. ثانياً - الحفاظ على حيثية واعتبار المحتاج.

وعلى أساس الآية الشريفة: ( مَنْ جَاءَ بالحَسَنةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثَالِهَا )(2) فإنّ كلا منها له عشر حسنات والمجموع هو عشرون، ولكن باعتبار انّ القرض يسترجع بعد فترة من الزمن فتنقص منه حسنتان ليكون المجموع ثمانية عشر.

 

الشرح والتفسير

( الّذينَ يأكُلُونَ الرِّبَا... ) أي أنَّ آكلي الربا سيبتلون يوم المحشر بعدم التعادل والتوازن في المشي ويبدون كأنهم مصروعون أو مجانين.

( ذَلك بِأنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) إنّ سبب ابتلاء هؤلاء بهذا المصير هو أنَّهم إضافة إلى اكلهم الربا كانوا يسعون في تبرير عملهم بالقول: إنَّ البيع مثل الربا، كما الاول حلال كذلك الثاني.

( أحَلَّ اللهُ البيعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) حلية البيع والمعاملة لأجل وجود مصلحة في ذلك عكس الربا، ففيه مفسدة اضافة إلى أنه يفقد المصلحة. ففي المعاملة تارة يكون ربح واخرى يكون


1. عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) انه قال: ((رأيت مكتوباً على باب الجنة (الصدقة بعشرة والقرض بثمانية عشر) فقلت: يا جبرئيل وَلِمَ ذلك والذي يتصدق لا يريد الرجوع والذي يقرض يعطي لان يرجعه ؟ فقال: نعم، هو كذلك ولكن ما كل ما يأخذ الصدقة له بها حاجة والذي يستقرض لا يكون الا عن حاجة فالصدقة قد تصل إلى غير المستحق والقرض لا يصل إلاّ إلى المستحق، ولذا صار القرض افضل من الصدقة)).

مستدرك الوسائل 13: 395، ابواب الدين والقرض الباب 6 الحديث 3.

2. الأنعام الآية 160.

[ 115 ]

خسارة إلاّ أنَّ الأمر في الربا يختلف، فآكل الربا يحصل على الربح دائماً ولا يتضرر ابداً والخسارة يتحملها المقترض فقط، ولذلك عدت امواله حاصلة بلا تعب.

اضافة إلى هذا، فإنَّ أكل الربا سبب في ايجاد الفجوة بين طبقات المجتمع، وذلك لأنَّ ظاهرة الربا إذا تفشت في المجتمع اجتمعت ثروات الناس وأموالهم عند آكلي الربا بعد فترة وجيزة من الزمن، أمّا الاخرون فتتردى اوضاعهم إلى أسوأ ما يمكن.

( فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأمْرُهُ إلى اللهِ ) في بداية الاعلان عن هذا الحكم يصرح الله بشمول العفو والمغفرة لاولئك الذين كانوا يمارسون الربا قبل هذه الآية فلا خوف عليهم.

وعليه، فالذين كانت لهم اموال عند الناس وتعاقدوا معهم على ان يكون لهم فيها ربا، فإنَّ هذه المعاملة تبطل واصحاب الاموال من الان فما بعد باتوا لا يملكون الا رؤوس اموالهم فحسب ولاحق لهم في استلام اكثر من ذلك.

( وَمَنْ عَادَ فأُولئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُونَ ) يهدد الله في هذه الآية اولئك الذين يعاودوا ممارسة هذا العمل بعد هذه الآية ويقول بأنَّهم إذا فعلوا هذا مرة أخرى - وهو عمل عد في بعض الروايات كممارسة الفاحشة مع المحارم(1) - فإنَّ جهنم تنتظرهم وسيكونون مخلدين فيها.

سؤال: إنّ الخلود في جهنم خاص بالكفار فما يعني الخلود بالنسبة لآكلي الربا من المسلمين؟

الجواب: من التفاسير التي ذكرت في هذا المجال هو أنَّ آكلي الربا يموتون غير مؤمنين بسبب عملهم القبيح هذا، ومن الواضح أنَّ غير المؤمنين يخلدون في جهنم.(2)


1. شبه الربا بالزنا في كثير من الروايات، وللمزيد يمكنك مراجعة وسائل الشيعة ج 12 أبواب الربا، الباب الاول، الروايات 1 و5 و6 و18 و19 و21 و22.

2. والاحتمال الاخر هو أنه يراد من الخلود هنا الزمن الطويل لا معناه المتعارف.

[ 116 ]

خطابات الآية

عقاب آكلي الربا في الدنيا والآخرة

هناك بحث بين المفسرين في هل أنَّ التَشبيه لآكلي الربا في الآية تشبيه لمصيرهم في الدنيا؟ ام أنّ ذلك نوع من العقاب والعذاب الأُخروي؟

يستفاد من الروايات أنّ هذا النوع من المصير يتعلق بكلا العالمين. وقد نقلت رواية في تفسير (نور الثقلين) عن الامام الصادق(عليه السلام) يقول فيها: «آكل الربا لا يخرج من الدنيا حتى يتخبطه الشيطان»،(1) والعبارة الأخيرة تعني الجنون.

وفي رواية أخرى حكت موضوع المعراج(2) أنَّ الرسول(صلى الله عليه وآله) قال:

«لما أُسري بي إلى السماء رأيت قوماً يريد أحدهم أنْ يقوم ولا يقدر عليه من عظم بطنه، قال: قلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا».(3)

 

نسبة الجنون إلى الشيطان

لماذا نسب الجنون إلى الشيطان في آية المثل؟

المستفاد من ظاهر الآية هو أنَّ الشيطان سبب الجنون عند الإنسان.

لكن الأبحاث العلمية أثبتت وجود أسباب أخرى للجنون لا علاقة لها بالشيطان، ومن هنا كانت للمفسرين آراء مختلفة في تفسير الآية، نشير إلى بعضها هنا.

الف - القرآن يخاطب الناس بما يتماشى مع عقائدهم; فإنّ الناس عصر النزول (العرب آنذاك) كانوا يعتقدون أنَّ الجنون من الشيطان، أو أنَّ الشيطان ينفذ في جسم الإنسان فيجن، ولهذا كان هذا التعبير القرآني كناية عن الجنون.

باء - المعنى الحقيقي للجملة هو المراد لا المعنى الكنائي، ونسبة الجنون للشيطان من حيث


1. نور الثقلين 1: 291.

2. إنَّ مسألة المعراج تعد من عقائد المسلمين، وقد عرج الرسول(صلى الله عليه وآله) إلى السماء عدة مرات، وللمزيد راجع تفسير الامثل 8: 343 - 354، ومما يذكر هنا أنَّ جهنم والجنة التي شاهدهما الرسول كانتا برزخيتين.

3. وسائل الشيعة ج 12، ابواب الربا، الباب الاول، الحديث 16.

[ 117 ]

إنَّ الله جعل عقاب هؤلاء المذنبين تسلط الشيطان عليهم وهذا التسلط هو الذي يسبب القلق والجنون.

 

التناسب بين الجناية والعقاب

يعتقد بعض المفسرين أنَّ العقاب الذي يعينه القرآن لذنب ما يتناسب مع ذلك الذنب، فبين العقاب الذي عُيِّن لآكلي الربا وبين الجنون تناسب، وبين هذا الذنب وذلك العقاب علاقة وارتباط، فبما أنّ آكل الربا يقوم من خلال عمله القبيح بتدمير اقتصاد المجتمع ويخرجه عن حالة التعادل ويحول دون حركة العجلة الاقتصادية كذلك هو ذاته فإنَّه سيبتلي بمصير من هذا القبيل في الاخرة.

في رواية للامام الباقر(عليه السلام) يقول فيها: «الظلم في الدنيا هو الظلمات في الاخرة».(1)

فإنّ العقاب في هذه الرواية يتناسب مع الذنب، ذلك أنَّ الظالم يُظلم الدنيا والعالم في عينيي المظلوم وعلى هذا الاساس تظلم الاخرة في عينيي هذا الظالم.

 

فلسفة تحريم الربا

كما أنَّ الربا وآكله يُوجب مفاسد عديدة فإنَّ تحريمه ينمّ عن فلسفات مختلفة نشير إلى بعضها هنا:

الف - إنَّ الظلم المشار اليه في الآية 279 من سورة البقرة هو فلسفة تحريم الربا.

باء - الفلسفة الاخرى للتحريم هي تثبيت سنة (القرض) في المجتمع، وقد جاء هذا المطلب في روايات عديدة، منها رواية سماعة عن الامام الصادق(عليه السلام) حيث يسأل فيها: إني رأيت الله تعالى قد ذكر الربا في غير آية وكرره؟ قال(عليه السلام): «أوتدري لم ذلك؟» قلت: لا. قال(عليه السلام): «لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف».(2)


1. ميزان الحكمة، الباب 2448، الحديث 11108، وهناك روايات أخرى في نفس الباب تدل على المضمون ذاته.

2. وسائل الشيعة ج 12، ابواب الربا الباب 1، الحديث 3 والروايات 4و9و01و11 كلها تدل على نفس المضمون، كما أنه قد فسر صنائع المعروف في الحديث (11) من نفس المصدر بالقرض.

[ 118 ]

أي أنّ الربا إذا تفشى فسيترك الناس سنة القرض وتموت من جراء ذلك العواطف الانسانية ليحل محلها الانتهاز والربح. ولهذا كان الربا محرما في الشريعة الاسلامية المقدسة.(1)

 

الإرتباط بين الإخلاق والاقتصاد في الإسلام

بين الاقتصاد الاسلامي والاقتصاد المادي بون شاسع، واهم مفارقة بينهما هو أنّ الاقتصاد الاسلامي يعد مزيجاً من الاخلاق والاصول والمبادئ الانسانية، بينما الاقتصاد المادي لا أنه خال من الأخلاق والعاطفة فحسب، بل إنَّ المصلحة المادية تعدّ المبدأ الحاكم على هذا الاقتصاد. وعلى هذا، فكل شيء يتعارض ويتضاد مع ذلك يُضحّى به لأجل المصالح المادية. إنَّ إنتاج المخدرات وعوائدها - الذي يعد امراً يتمانع مع المبادئ الإنسانية - يعد امراً ليس مهماً عند كثير من الدول وحتى تلك الدول التي تدعي مكافحتها لهذه الظاهرة وتعقد بين الحين والاخر مؤتمرات في هذا المجال، لها نصيب ليس قليلا في تجارة هذه المواد.

إنَّ مؤيدي ودعاة الاقتصاد المادي لا يكترثون من فساد جيل الشباب وتزلزل المبادئ الاخلاقية وتفكك العوائل وما يهمهم هو مصالحهم الذاتية.

إنَّ المتاجرة بالانسان وبيع الاطفال رغم تمانعه مع جميع المبادئ الانسانية يعد جائزاً عند دعاة حقوق البشر المزيفين ويعترفون بذلك بشكل غير علني.

مَن الذي وفَّر للعراق أسلحة الدمار الشامل والقنابل الكيمياوية والميكروبية والصواريخ بعيدة المدى والقنابل العنقودية وامثالها، وذلك ليرتكب بواسطتها ابشع الجرائم في ايران الاسلامية؟ لماذا سكت دعاة حقوق البشر ولم يعترضوا على ذلك؟ لكنّهم رفعوا هتافات الإعتراض بمجرد أنْ هجم العراق على الكويت وحكموا عليه بضرورة نزع السلاح.

إنَّ سرّ هذه الإزدواجية واضح; فإنَّ مصالح الدول الاستكبارية قد اقتضت يوماً أنْ


1. للمزيد راجع (ربا وبانكداري اسلامي) من سلسلة دروس سماحة اية الله مكارم الشيرازي في مجال البنك الإسلامي (بالفارسية).

[ 119 ]

يتسلح العراق باحدث الاسلحة واشدها فتكاً، وهذه المصالح ذاتها اقتضت يوماً أنْ يُنزع العراق أسلحته ليضمنوا بذلك مصالحهم. والملاك في كل ذلك هو مصالحهم المادية، أمّا المبادئ الإنسانية فمغلوب على أمرها.

المبدأ الحاكم على الاقتصاد الاسلامي هو الأخلاق، وينبغي أنْ تتم عملية كسب المصالح المادية تحت ضلّ حفظ القيم الاخلاقية، وعلى هذا الاساس حرّم الإسلام المعاملة التي تعد منشأً للفساد. وعلى سبيل المثال أنّ الإسلام إذا منع تأسيس مراكز للفحشاء أو حرّم بيع الشراب ولعب القمار أو تأسيس مصرف ربوي وغيرها فذلك لأجل أنَّ أموراً من هذا القبيل تعدّ منشأ للفساد الكثير، الامر الذي لا يتناسب مع الأخلاق الإسلامية.

إنَّ القِيَم الأخلاقية التي تحكم الاقتصاد الاسلامي لها مبادئ عديدة نشير إلى بعض منها هنا:

الف - من المبادئ التي تحكم الاقتصاد الاسلامي هي خطاب الآية الشريفة: ( لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ) أي أنَّ المُعَامَلاتِ الاقتصادية ينبغي أنْ تنظم بشكل يخلو من الظلم لكلا الجانبين البائع والمشتري.

باء - كسب النفع ودفع الضرر العام; وعلى أساس هذا المبدأ، فإنَّ المصلحة الشخصية تكون ضحية المصلحة العامة. والبتّ بالأعمال التي يحتاجها المجتمع يعد واجباً، فاذا كان المجتمع بحاجة إلى معلمين، فعلى كل من يستطيع أن يبادر بهذا العمل.

ومن جانب آخر، أنّ الأعمال التي تضر المجتمع تعد محرمة في الإسلام رغم ما قد يكون فيها من مصلحة ومنافع شخصية، فبيع المسكر مثلا، وكذا النشاطات المتعلقة بهذا النشاط، محرم وممنوع ولهذا جاء في الروايات أنَّ غرس شجرة العنب لاجل صنع المسكر من ثمارها، وكذا سقيها وقطف ثمارها وحمله و.. هذا كله حرام.(1)

ويذكر هنا أنَّ المبادئ الاخلاقية لا تنحصر في الواجبات والمحرمات، بل تشمل حتى المستحبات والمكروهات. ومن هنا كان (تلقي الركبان) مكروها في الفقه الإسلامي. والمراد من


1. وسائل الشيعة ج 21، أبواب ما يكتسب به، الباب 55، الحديث 3و4و5.

[ 120 ]

تلقي الركبان هو انتظار القوافل خارج المدينة أو القرية والمباشرة بشراء بضاعة القوافل قبل معرفة أصحابها بقيمها في اسواق القرية أو المدينة.

وقد اعتبر بعض الفقهاء هذا العمل حراماً، إلاَّ أنَّ بعضهم الاخر اعتبره مكروها،(1) كما أنَّ اعمالا مثل بيع الكفن مكروهة، وذلك لأنَّ القائم بها يتطلع إلى موت الاخرين دائماً، وهذا أمر يسبب قسوة في القلب.

جيم - توجيه الرأسمال نحو الآخرة، و هذا المبدأ يستفاد من الآية 77 من سورة القصص، حيث قال الله تعالى: ( وابْتَغِ فِيْمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيْبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأحْسِنْ كَمَا أحْسَنَ اللهُ إليْكَ وَلاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأرْضِ إنّ اللهَ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ ) .

وفقاً لهذه الآية، فإنَّ رأس المال يكون قيماً إذا ما صبّ في طريق الاخرة، وبتعبير آخر: المال الذي يسد الحاجة الدنيوية والحاجة الاُخروية. وفي النهاية: أنَّ القِيَم الأخلاقية هي الحاكمة على الاقتصاد الاسلامي، بينما يفقد الاقتصاد المادي هذه القيم ويضحِّي أتْبَاع هذا المذهب كلَّ شيء لاجل المصالح الذاتية.

 

الاُسوة في القيم الاخلاقية

يُوصِي الإمام علي(عليه السلام) في عهده لمالك الاشتر(2) بطبقات المجتمع من العسكريين والقضاة والعلماء والتجار والمزارعين والوزراء والمسؤولين الحكوميين وغيرهم إلاّ أنَّه عندما يصل إلى الطبقة المحرومة يستخدم في حقهم تعابير لم يستخدمها في حق غيرهم، حيث يقول: «ثمّ الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى(3)


1. شرح اللمعة 1: 331.

2. الرسالة 53 من نهج البلاغة شرح صبحي الصالح; ويذكر أنَّ هذه الرسالة من اطول العهود، وتعد اوامر جامعة صدرت من الامام علي(عليه السلام)خطاباً لا لمالك فحسب بل لجميع الرؤساء في الحكومات بلا قيد الزمان والمكان، وذلك لما تحضى به من حكمة وطراوة دائمة.

3. شدة الفقر.

[ 121 ]

والزّمنى(1) فإنّ في هذه الطبقة قانعاً(2) ومعتراً(3) واحفظ لله ما استحفظك(4) من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك وقسماً من غلاّت(5) صوافي(6) الإسلام في كل بلد، فان للاقصى منهم مثل الذي للادنى وكل قد استرعيت حقه، فلا يشغلنك عنهم بطر(7) فانك لا تعذر بتضييعك التافه(8) لاحكامك الكثير المهم. فلا تشخص همك(9) عنهم ولا تصعر خدك لهم(10) وتفقد امور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال ففرغ لاولئك ثقتك».(11)

ما أحسن هذا. إنَّه حديث جميل حقاً ! فهو كالشمس التي لا زالت تضيء رغم مضي أكثر من ألف سنة على عمره وكل يوم يزداد ضياؤه. أحسن قائل هذا الحديث أحسن وأحسن ألف مرة. إنه حديث أهل لأن يكتبه الحكام بماء الذهب ليجعلونه على رأس قائمة اعمالهم.

المدهش هو أنّ اُسوة الأخلاق هذه، شخصية كانت حاكمة، ورغم ذلك توصي بالناس وبخاصة المستضعفين والمحرومين منهم خيراً. إنَّ رِجَال الدول الغربية حالياً يمثلون قدوة أخرى ونوع آخر من الحكام حيث يرتضون مقتل الالاف من المحرومين لاجل مصالحهم المادية. انظر للمفارقات!

سؤال: قد يتمانع الحفاظ على القيم الأخلاقية مع التنمية الاقتصادية، فكيف يمكن الجمع بين هذه القيم والتنمية المطلوبة؟


1. جمع زمين وهو المصاب بالزمانة، أي العاهة، يريد ارباب العاهات المانعة لهم عن الاكتساب.

2. السائل.

3. المتعرض للعطاء بلا سؤال.

4. طلب منك حفظه.

5. ثمرات

6. أرض الغنيمة.

7. طغيان بالنعمة.

8. الحقير.

9. أي لا تصرف اهتمامك عن ملاحظة شؤونهم.

10. الامالة اعجاباً وكبراً.

11. تفريغ الثقة يعني جعل اشخاص يتفرغون للبحث عنهم لمعرفة احوالهم يكونون ممن تثق بهم.

[ 122 ]

الجواب: إنَّ نظامنا نظام قيمي، والمهم عندنا هو حفظ هذه القيم الاخلاقية، ونرى أنَّ الحفاظ على القيم لا يتمانع مع التنمية الاقتصادية، ومزجهما مع بعض سوف لا يؤدي إلى التخلف، بل انَّ الإقتصاد الذي لم يعتمد القيم الاخلاقية والذي ساد العالم أدّى إلى أضرار لا يمكن جبرانها.

ألم يكن هذا الاقتصاد غير القيمي هو السبب الاساس في نشوب الحرب العالمية الثانية؟ الحرب التي دمرت بعض الدول بالكامل وأنزلت ببعض اخر اضراراً جسيمة وأودت بحياة 30 مليون شخصاً و30 مليون معلولا، هذا بعض ما خلفته هذه الحرب واودعته في ذاكرتنا. فهل الاقتصاد المتخلف - حسب تعبير اتباع المذهب المادي - أفضل أم الاقتصاد المتطّور؟!

ينبغي العلم أنَّ العالم لا يعمَّر ولا ينمو الا تحت ظل إقتصاد قيمي.

 

علي(عليه السلام) والهدية الليلية

بعد ما يذكر الامام علي(عليه السلام) قصة اخيه عقيل عندما طلب منه شيئاً من بيت المال يقول في الذي أراد إرشائه لاجل قضية حقوقية ما يلي:

«.. وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة(1) في وعائها ومعجونة شنئتها(2) كأنما عجنت بريق حية أو قيئها، فقلت: أصلة أم زكاة، أم صدقة؟ فذلك محرم علينا أهل البيت. فقال: لا ذا ولا ذاك ولكنها هدية، فقلت: هبلتك الهبول!(3) أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟ أمختبط(4)أنت ام ذو جنة(5) ام تهجر،(6) والله لو اعطيت الاقاليم السبعة بما تحت افلاكها على أنْ اعصي الله في نملة أسلبها جلب(7) شعيرة ما فعلته وأنَّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة


1. نوع من الحلواء اهداها الاشعث بن قيس إلى علي.

2. أي كرهتها.

3. هبلتك: أي ثكلتك، والهبول المرأة لا يعيش لها ولد.

4. أمختل نظام ادراكك؟

5. من اصابه مس من الشيطان.

6. أي تهذي بما لا معنى له في مرض ليس بصرع.

7. قشرة الشعيرة.

[ 123 ]

تقضمها.(1) ما لعلي ولنعيم يفنى، ولذة لا تبقى، نعوذ بالله من سبات(2) العقل وقبح الزلل.(3)

هل يُؤمن حالياً على العالم مع وجود زعماء يضحون بكرامة واعتبار بلدهم مقابل امرأة ملوثة !! يا لها من مفارقات ؟ على كل مسلم أنْ يتعلم القيم ويدركها ويدير عنجلات الاقتصاد مع حفظه على تلك القيم في ذات الوقت.

 

البحوث التكميلية للآية

1- أكل الربا في عصرنا

كان أكل الربا في العصور الماضية محدوداً باشخاص كانوا يسلفون الناس ويرجعون اموالهم بعد فترة من الزمن مع مقدار من الربح، إلاَّ أنَّ الأمر اختلف في عصرنا، فقد ازداد اكلة الربا، كما أنَّ رقعته اتسعت لتشمل الدول والشعوب ككل، فإنَّ الكثير اصبح يمارس هذا العمل القبيح حالياً.

بعض الدول التي تجيز لنفسها اكل الربا اوقعت بعض الدول الفقيرة في مخالبها باعطائها بعض الديون، وقد باتت هذه الدول تصرف كل ما تجني من أرباح وعوائد وطنية لعلاج هذا المرض المتفاقم. ولأجل ذلك نرى أنَّ الفجوة بين الدول الفقير والغنية تزداد كل يوم، واذا ما استمر الوضع هكذا فلا يبعد أنْ تعلن هذه الدول عن افلاسها. وكمثال على ما نقول في مجال الربا هو الوضع المرتبك لاقتصاد دول جنوب شرق آسيا(4) فهو بسبب قضية اكل الربا.

ان اكلة الربا العالميين بسطوا لنا فخاً بعد الحرب المفروضة على ايران - التي خرج من امتحانها الشعب الايراني الشجاع مرفوع الرأس - وذلك ببذلهم السخي للاموال والديون. ورغم أنَّهم لوثونا بعض الشيء بهذه الديون إلاَّ أنَّ المسؤولين بحمد الله سرعان ما التفتوا إلى خطورة هذا السم الفتاك، وأوقفوا عملية اخذ الديون ودفعوا تدريجياً اقساط الديون لينقذوا


1. أي كسرته باطراف أسنانها.

2. نوم العقل.

3. الزلل هو السقوط في الخطأ.

4. حيث حصلت أزمة شديدة في تلك الدول شلت اقتصادها عام 1418.

[ 124 ]

بذلك بلدنا من هذا الفخ.

اضافة إلى النوع المذكور من الربا هناك نوع اخر من الربا هو اقبح وأسوأ حالا من سابقه، وهو الذي يعتمد رأس مال الناس، فإنَّ البعض إذا كانوا يبتّون بهذا العمل سابقاً وبأموالهم الشخصية تقوم حالياً البنوك (التي أموالها من الناس) بهذا العمل القبيح وهذا - قطعاً - يستتبع عذاباً اشد وأقسى من سابقه.

 

2- النشاط المصرفي اللاربوي هل هو ممكن؟

يعتقد البعض أنَّ عصرنا يستدعي اقتصاداً ربوياً ولا يمكن فيه أي نشاط من دون ربا، وحذف الربا عن النشاطات المصرفية يؤدي إلى ركود في العمليات المصرفية وركود في الاقتصاد في النهاية، وبعبارة أخرى: أنَّ الربا امتزج بالاقتصاد بشكل لا يمكن تفكيكهما.

هذا النوع من التفكير يطرح من قبل المفكرين المغتربين، باعتبار حاجة الدول الثرية إلى مبلغين لها في الدول الفقيرة; وذلك لأنَّ تفكيراً من هذا النوع يتطابق مع مصالحهم، رغم سقمه.

إنَّ البنوك الاسلامية لو عملت بالقرارات المصوبة في بلدنا ولو اطلعت الناس على محتويات هذه القرارات وكانوا اوفياء تجاهها فسوف تحل قضية الربا وسوف يفيد أصحاب روؤس الأموال من اموالهم، كما أنَّ البنوك نفسها ستستفيد وعجلة الإقتصاد ستتحرك.

من العقود الاسلامية - التي جاءت في قرارت البنوك - هو عقد (المضاربة)، وهو لا يختص بالتجارة(1) بل يشمل الاستثمارات في قطاع الصناعة والبيطرة والزراعة والخدمات وغير ذلك.

على اساس عقد المضاربة يودع الشخص رأس ماله عند البنك، والبنك يعين مستوى الربح على اساس العقد، بالطبع ينبغي ان يكون الربح نسبة من المنفعة لا من رأس المال. والمشتري يمكنه ان يوكل البنك في ان يتصالح على سهمه بنسبة معينة ليقبضه كل شهر. لكن


1. يختلف العلماء في هذا المجال، فبعض يرى اختصاص هذا العقد بالتجارة والاخر يراه شاملا لجميع القطاعات الاقتصادية.

[ 125 ]

يحسب مجمل الربح بعد انتهاء العقد، ثم يوكل البنك وكالة مطلقة لأنْ يستثمر الاموال في أي مجال أراد، وعلى البنك أنْ يعمل طبقاً للعقد.

وفي هذه الحالة فإنَّ مشكلة الربا منتفية رغم انتفاع صاحب رأس المال وانتفاع البنك اضافة إلى أنَّ عتلة الاقتصاد سوف لا تبقى ساكنة بل تعتمد تجارة سليمة وصحيحة.

ينبغي الالتفات إلى أنّه ينبغي تنفيذ العقود الشرعية. وانزالها على الورق دون العمل بها لا يغير شيئاً من الواقع وتبقى مشكلة الربا معضلة بلا حل.

حذف الربا من المصارف أمر ممكن بدليل أنَّ الربا كان رائجاً في صدر الإسلام وحرم بعد ظهوره رغم ذلك لم يحصل ركود اقتصادي واشكالات من هذا القبيل.

 

3 - حكم الايداعات والسلف

هل يحل للناس ايداع أموالهم في البنوك وأخذ الأرباح التي تترتب عليها؟ وما حكم السلف التي يمنحها البنوك لزبائنه ويأخذ عليها ارباحاً نسبية؟

من المناسب قبل الاجابة على السؤالين ان نقدم مقدمة نطرح فيها فلسفة هذا النوع من الايداع والسلف.

كثير من الناس يملك رأس مال وصله عن طريق الارث أو العمل أو شيء من هذا القبيل، لكن لا يستطيع توظيف رأس المال هذا في المجال الاقتصادي، من جانب آخر هناك الكثير ممن له طاقة على توظيف الاموال ويحضى بقدرة ادارية جيدة مثل خريجي الجامعات من الشباب ذوي الطاقة والحوافز الجيدة.

يأتي هنا دور البنوك حيث يمكنها أنْ تلعب دوراً فاعلا، بأنْ تجمع بين رأس المال والطاقات والكوادر، فتأخذ الاموال من اصحابها وتسلفها للكوادر لتوظيفها في سبيل دفع عجلة الاقتصاد وتطلب من الاخيرين ارجاع الاموال من خلال اقساط. وفي هذا المجال تنال البنوك جزءاً من العوائد والارباح.

من جانب آخر تتمكن البنوك أخذ رؤوس اموال فاقدي القدرة على توظيفها، لتشترك في توظيفها واستثمارها، وترجع مقداراً من ارباحها إلى اصحاب روؤس الأموال.

[ 126 ]

وعليه، إذا تمت هذه المشاركة على أساس عقود شرعية فلا اشكال في شرعيتها.

ولأجل التحقق من هذا الأمر نوصي بالامور التالية:

1- تعليم موظفي البنوك الاحكام والعقود الشرعية المتعلقة بالبنوك والزامهم بتنفيذ القوانين الخاصة في هذا المجال.

2- أن يقوم العلماء ومن له باع في الاحكام الشرعية الخاصة بالبنوك بتبيين المسائل الشرعية الخاصة بالبنوك وايضاحها إلى الناس بلغة بسيطة ويذكروا اخطار الربا ومواقف الإسلام الشديدة تجاهه.

3 - من المناسب أنْ توازن البنوك بين ارباح الإيداعات والسلف، ولا ينبغي أن تكون ارباح السلف اكثر من ارباح الايداعات. كما أنّ عليها أن تحيي السنة الحسنة للاقراض وان تخطو في هذا المجال خطوات مؤثرة.

 

4 - آيات أخرى عن الربا

لأجل تكميل البحث نشير هنا إلى ثلاث آيات تعرضت لجزئيات الربا واحكامه:

الف - يقول الله في الآية 278 من سورة البقرة:

( يَا أيُّها الَّذينَ آمنُوا اتَّقُوا اللهَ وذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إنْ كُنْتُم مُؤْمِنِينَ ) .

إنّ بداية الآية خطاب للمؤمنين ونهايتها مشروط بالايمان، ومعنى حسن المطلع وحسن الختام في الآية هو أنّ أكل الربا لا يتفق وروح الايمان وأنَّ آكل الربا ليس مؤمناً.

 

شأن نزول الآية

بعض الاغنياء من المسلمين كانت لهم مطالبات ربوية ممن كانوا قد استلفوا منهم، ومن اولئك كان العباس بن عبد المطلب وخالد بن الوليد. وعندما نزلت آية تحريم الربا تساءل هؤلاء البعض عن مصير اموالهم وأرباحها، فنزلت الآية محددة الحكم هنا في أنَّ لهم الحق في إرجاع أصل رأس المال دون ربحه ورباه. وقد قال الرسول(صلى الله عليه وآله) عندما نزلت آية تحريم الربا:

[ 127 ]

«ألا أنَّ كل ربا من ربا الجاهلية موضوع وأوّل ربا اضعه ربا العباس بن عبد المطلب»،(1) وهذا يكشف عن أنَّ الإسلام لا يرى قيمة للعلاقة السببية والنسبية مقابل القوانين والضوابط.

باء - يقول الله في الآية الاخرى من نفس السورة البقرة (279): ( فإنْ لَمْ تَفْعَلُوا فاذَنُوا بِحَرْب مِنَ اللهِ وَرَسُولِه وإنْ تُبْتُم فَلَكُم رُؤُوسُ أمْوَالِكُم لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظلَمُونَ ) . (2)

ينبغي الالتفات هنا إلى أنَّ صدر الآية يشير إلى اعلان الحرب من قبل الله ورسوله لا من قبل آكلي الربا; وذلك لأنَّ (فأذنوا) تعني فاعلموا أو فأيقنوا، إلاَّ أنَّ الكلمة إذا قرئت (فآذنوا) - كما قرأها البعض، وهي قراءة غير معروفة - فانّ اعلان الحرب سيكون من قبل آكلي الربا.

جيم - الآية 280 من سورة البقرة: ( وَإنْ كَانَ ذُو عُسْرَة فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٌ وأنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُم إنْ كُنْتُم تَعْلَمُونَ ) .

أي على اصحاب رؤوس الاموال ان يمهلوا المعسرين والمحتاجين ولا يطالبوا بأموالهم..وإن كان حالهم متأزم فالأفضل أن يعتبروا اموالهم صدقة بذلوها لمستحقها.

من مجموع الآيات المذكورة يستشف أنَّ الربا عند الله اثم عظيم وخطر، وقد استخدم له القرآن تعابير لم يستخدمها في أيٍّ من الذنوب.


1. مجمع البيان 2: 392.

2. يبدو من الآية ان آكلي الربا لا يجتنبون عن هذه الممارسة بالارشاد والتبليغ لذلك كان على الحكومة الإسلامية ان تجبرهم على الامتناع عنها.

[ 128 ]

[ 129 ]

 

 

 

 

المثل العاشر: الخَلْق المدهش لعيسى بن مريم(عليه السلام)

 

يقول الله تعالى في الآية 59 من سورة آل عمران:

( إنَّ مَثَلَ عِيْسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) .

على هذه الآية، فإنَّ ولادة عيسى دون أب لا يدل على الوهيته.

 

الشرح والتفسير

يقول الله في هذه الآية: إنَّ خَلْق عيسى(عليه السلام) يشبه خَلْقْ آدم(عليه السلام) في أنَّه خلق من تراب دون دخالة أب وأم في ذلك، بل وجد بمجرد ان قال له الله: كُن.

تحدث القرآن المجيد في الايات 45 إلى 59 من سورة آل عمران عن عيسى بن مريم(عليه السلام)وحكى مراحل حياته المختلفة من قبيل كيفية الولادة والتربية ونموه وبعثته ورسالته وكراماته ومعاجزه وعروجه إلى السماء، وقد سعى القرآن خلال هذه الآيات أنْ يرفع الشبهة المثارة حوله.

سؤال: كيف يمكن أنْ يولد انسان من أم فقط دون أب ؟ أو كيف يمكن أو يولد إنسان من دون تركيب بين الأسبرم والبويضة؟

هل الآية في صدد الاجابة على هذه الشبهة، بحيث تقول: ألم نخلق آدم دون دخالة أب؟ أي كأنها تريد القول بأنَّ خلق آدم اصعب من خلق عيسى; لأنَّ في خلق عيسى توسطت الام، أمّا في خلق آدم فلا واسطة، من قبيل أُم أو أب، فكان أصعب خلقاً من عيسى(عليه السلام).

[ 130 ]

إنَّ أفعالا من هذا القبيل ليست صعبة بالنسبة لله; فإنَّ الله ما إن قال لشيء ( كُنْ فَيَكُونُ )(1) إنَّ الخلق عند الله لا يفرق فيه بين الصغير والكبير والصعب والسهل.

إنَّ الله إذا اراد أنْ يَخلق عالماً كعالمنا الحالي بمجراته ونجومه - الذي كشفت الاحصائيات والاكتشافات العلمية عن سعته وعظمته - فإنَّه سينخلق بمجرد أنْ يأمر.

إنّ الإنسان عند الصلاة إذا تصور امامه خالقاً بهذه القدرة والعظمة وشعر بأنَّه (لا شيء) يتحدث مع (كل شيء) لكانت صلاته وحالاته فيها تختلف بالكامل.

 

قدرة الله في كلام أمير المؤمنين(عليه السلام)

تحدث الامام علي(عليه السلام) في الخطبة 185 من نهج البلاغة عن قدرة الله وأشار اليها بجمل جميلة كما نرى هنا: «لو فكروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق وخافوا عذاب الحريق ولكن القلوب عليلة والبصائر مدخولة ألا ينظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقه واتقن تركيبه، وفلق له السمع والبصر..»، ثم يتعرض إلى خلق النملة وظرافة ما تحتويه هذه الخلقة.

من الحجب التي تحول دون التفات الإنسان إلى عجيب الخلقة، هو حجاب العادة، وذلك لأنَّ العادة تنسي الإنسان عظمة الشيء. فالنملة، مثلا، اصبحت عادية باعتبار كثرتها وتعوّدنا على رؤيتها، الأمر الذي يجعل الإنسان غافلا عن عظمة خلقها، وهي إذا قيست مع أهم صناعات الإنسان لاتضحت عظمتها.

إنَّ صناعة الطائرة صناعة تعتمد تقنية متقدمة جداً، فهي تحمل في الفضاء أناساً وسلعاً، ولها اجزاء مختلفة تشبه المدينة الصغيرة.

وهذه الطائرة - التي تكشف عن ذورة التقنية والصناعة البشرية - إذا قيست بالنملة - التي هي من اصغر صناعات قدرة الله اللامتناهية - لكانت النملة اكثر عظمة من الطائرة; وذلك لأنَّ النملة تضم كل شيء رغم جثتها الصغيرة والنحيفة، ففيها أجهزة من قبيل: الباصرة


1. تكرر مضمون هذه الآية في ثمان آيات من القرآن.

[ 131 ]

والسامعة والرجل واليد وجهاز الهضم والدفع والتناسل وتعلم بهندسة بناء البيت وتهيئة الاغذية وخزنها بشكل يحول دون فسادها و.. ويا ترى كيف يمكن لموجود صغير أن يضم هذه الاجهزة جميعها؟!

أمّا الطائرة فاضافة إلى أنَّها تفقد الكثير من هذه الاجهزة مثل جهاز التناسل وغيره، فهي بنفسها غير قادرة على تحريك نفسها، وتستعين لأجل الحركة بطاقم من التقنيين والمهندسين.

نعم، إن الإنسان سيهتدي ولا يتعجب من خلق إنسان بلا أب إذا فكر في خلق الله وتدبّر فيه. ينبغي السجود لربّ قادر مثل هذا، كما ينبغي الصلاة والسلام على الإنسان الكامل (الإمام علي(عليه السلام)) حيث استطاع توصيف هذه القدرة اللامتناهية وبشكل بديع ورائع.

 

قصة خلق الإنسان

هناك نظريتان رئيسيتان في خلق الإنسان:

1 - (تنوع الأنواع)، يعتقد أصحاب هذه النظرية أن الإنسان خلق مستقلا كما خلقت الحيوانات الاخرى. وقد يُسمى هذا التصور وهذه النظرية (ثبوت الانواع).

2 - (تبدّل الانواع)، وهي النظرية المشتهرة بين علماء الطبيعة والقائلة بأنَّ الخلقة بدأت بموجود أحادي الخلية كان يسبح في البحار، نمى هذا الموجود بشكل تدريجي ليتبدل إلى سمكة، تكاثرت هذه السمكة، ثم ألقت أمواج البحر ببيض من أفراد فصيلتها خارج البحر، لتتبدل تدريجياً إلى حيوانات بريّة ومنها القرد، ثم تكاملت بعض أصناف القرد لتتبدل إلى إنسان.

هل يمتلك أصحاب نظرية (تبدل الانواع) أدلة قاطعة على كلامهم؟

كلا; وذلك لأنّ كلامهم يرجع إلى ملايين من السنوات الغابرة، إلى زمن لم يكن فيه إنسان أبداً، إلى زمن لم تصلنا عنه معلومات دقيقة، وما لدينا من تلك العهود هو شواهد وقرائن أثرية جمعت من قبل منقبي الآثار.

[ 132 ]

الاختلاف بين (الفرضية) و (القانون)

إنّ مجموعة القضايا التي يسعها المختبر ويمكن أن تُحلل وتقع في طريق التجربة العلمية تتبدل إلى قانون إذا ثبتت صحتها، كالقضية القائلة بأنَّ سرعة الضوء 000/300 كيلومتر في الثانية. أما مجموعة القواعد التي لا يمكن اخضاعها للتجربة، ويُتمسك لأجل إثباتها بالعقل من خلال القرائن والشواهد الموجودة فهي فرضية.

وعلى هذا; فإنَّ (تبدّل الانواع) فرضية لا قانون. ومن خصائص الفرضية أنَّها تحتمل التبدّل والتغيير والبطلان، كالفرضية القائلة بأنَّ الإنسان قبل أربعين ألف سنة يختلف عن الإنسان الحالي، فإنَّ علماء الآثار وجدوا جماجم تتعلق بمليوني سنة قبل عصرنا هذا كشفت عن شباهة الإنسان في ذلك العصر مع الإنسان الحالي، وبهذا بطلت الفرضية السابقة.

 

رأي القرآن في خلق الإنسان

إنّ نظرية (تنوّع الانواع) هي المستفادة من القرآن المجيد، ويبدو أنَّ القرآن يؤيد هذا الرأي وهذه النظرية، أمَّا (تبدّل الانواع) فلا يمكن النظر إليها كقانون ثابت يستحيل الخدش فيه.

على أي حال، سواء كانت النظرية الأولى صحيحة أم الثانية، فإنَّ تفسير الآية لا يتغير، وحتى لو قلنا بتبدّل الأنواع فإنَّا سنقول:

إنّ الذي استطاع أن يخلق الموجود أحادي الخلية يستطيع أن يخلق عيسى(عليه السلام) دون حاجة إلى أب وأُم. هذا اضافة إلى أنَّ العلماء عثروا على موجودات يمكنها التكاثر دون حاجة إلى التلاقح، وهي حيوانات تستطيع الانثى منها التكاثر دون حاجة إلى لقاح من الذكر. وإذا كان عالم كهذا ممكناً فان ولادة عيسى(عليه السلام) لا أنّه أمر غير عجيب فحسب، بل قد حصل ما هو أعجب منه.

[ 133 ]

 

 

 

 

المثل الحادي عشر: إنفاق الكفار

 

يقول الله في الآية 117 من سورة آل عمران:

( مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنيا كَمَثلِ رِيْح فِيْهَا صِرّ أصَابَتْ حَرْث قَوْم ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ فَأهْلكَتْهُ ومَا ظَلَمَهُمُ اللهُ ولَكِنْ أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) .

 

تصوير البحث

في هذه الآية يمثّل القرآن بذل الكفار بزراعة كافر في أرض خصبة، فهو ينثر فيها البذر، إلاَّ أن مجيء ريح بارد وجاف يجفّف ما زرعه وأنبته هذا الكافر في هذه الأرض.

 

الشرح والتفسير

( مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يعتقد بعض المفسرين أنّ كلمة النية أو الدافع مقدرة هنا، وهي توضّح هذا الجزء من الآية. وبهذا التقدير يصبح معنى الآية كالتالي: أنّ نية هكذا إنفاق ودافعه كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم، فكما أنَّ هذا الريح يدمر الحرث، كذلك النية هذه فانّها تدّمر هذا الانفاق.

( كَمَثَلِ رِيْح فِيْهَا صِرٌّ أصَابَتْ حَرْثَ قَوْم ظَلَمُوا أنْفُسَهُم فأهْلَكَتْهُ ) إنَّ مفردة الصر بالعربية

[ 134 ]

تعني ريحاً شديد البرد، أو ريحاً شديد الصوت.(1)

على أي حال، المراد من هذه الكلمة هو الريح الشديد الذي يحرق حتى بعض الغابات الكبرى أحياناً.

وسبب هذا الحريق - كما نسمع من المختصين - هو الصواعق والرعد والبرق، وقد يكون هناك إعصار شديد تحتك بسببه بعض الاشجار اليابسة - التي تدّخر في نفسها طاقة - فتتولد قدحة تشعل النار، فيحصل الحريق. وعلى هذا، فإنَّ مثل انفاق الكفّار كمثل المزرعة التي تواجه ريحاً شديدة تُضرم النار فيها.

( وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ ولكِنْ أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) وذلك لأنّ ما يترتب على فعلهم لم يكن ظلماً من الله بل كان ذلك كله بسبب سوء نواياهم وعدم صدقها.

إنَّ المزارع الذي يتعمّد الزرع في أراض تقع في مسير الرياح الشديدة والباردة، إذا تلفت زراعته إثر هبوب الرياح فذلك ظلم أورده بنفسه على نفسه.

 

خطابات الآية

1 - المراد من الإنفاق في آية المثل

أي نوع من الانفاق شُبِّه بالريح الصر في الآية الشريفة؟ إنّ في ذلك احتمالات ثلاثة نشير إليها هنا.

الف - المراد منه الانفاق الذي يُصرف في غير سبيل الله، مثل الانفاق والبذل الذي كان يصدر من أبي سفيان الكافر والمنافق - فهو لم يُسلم قلبياً وضلّ كافراً إلى آخر عمره - في سبيل عظمة الأصنام ولأجل إسقاط الإسلام.

إنَّ القرآن المجيد يقول: إنّ إنفاقاً من هذا القبيل مثل الأرض التي تعدُّ للزراعة، ودوافع هؤلاء المنفقين - وهي الشرك وعبادة الأصنام - مثل الريح الصر.


1. الصر من نفس المادة وتعني الضجة، ومفردة (الصُرّة) التي من نفس المادة كذلك تعني الكيس الذي أغلقت فوهته بشدة. وعلى هذا، فإنَّ الشدة متضمنة في جميع معاني هذه المادة ومشتقاتها، الريح الشديد والصوت الشديد والكيس الذي أغلقت فوهته بشدة.

[ 135 ]

باء - المراد من ذلك هو الانفاق والبذل الذي يصدر من المسلمين المترائين لأجل بناء المساجد والحسينيات والمستشفيات والمستوصفات والجسور والطرق وما شابه ذلك، فهي إنفاقات ذات دوافع غير إلهية، وتنمُّ عن دوافع مثل المباهاة وجلب رضاء الناس لأجل الفائدة الأكبر في المستقبل. إنَّ إنفاق هؤلاء مثل الأرض الزراعية الخصبة، ونية المنفقين غير الخالصة مثل الريح الصر.

جيم - المراد منه هو الانفاق الذي يقترن مع المنِّ والإيذاء، فهو في الظاهر إنفاق وفي الواقع إذهاب لماء وجه الآخرين وسلب اعتبارهم. فالإنفاق آنذاك كالأرض الزراعية، أما المن والأذى فبمثابة الريح الصر فأنها تُبطل الانفاق، كما أن لها أضراراً دنيوية، وذلك لأنّه فقد ماله اضافة إلى انّه ارتكب ذنباً عليه عقاب.(1)

 

2 - الإنتقام من كافر النعمة

يستفاد من الآية وآيات اخرى من القرآن المجيد أن الله ينتقم في كثير من الحالات من الذين يكفرون بنعمه ويطغون، فيجعل النعم وسيلة لعذابهم ويبدّلها إلى نِقم (أي الموت في قلب الحياة) .

كمثال على ذلك، الله أباد قوم نوح بواسطة المطر والطوفان، مع أنّ المطر قطرات تمنح الحياة لمن تصله، وهو من أكبر نعم الله تعالى على هذا القوم.

إنّ الغيث إذا لم ينزل ينتهي كل شيء على وجه الأرض، فهو نعمة لكنه تبدّل إلى مصيبة على قوم نوح!

تحدّثت سورة سبأ عن قوم سبأ، والحكاية واقع وعبرة في نفس الوقت. إنّ هذا البلد يقع في مسير المياه الحاصلة من المطر، ولأجل الحدّ من أضرار الأمطار الغزيرة بنى هذا القوم سداً ترابياً لجمع المياه الزائدة والافادة منها عند الحاجة، وشقوا قنوات وسواقي من هذا السدّ إلى


1. رغم أنَّ الاحتمالات الثلاثة غير متما نعة مع مضمون الآية الشريفة، إلاّ أنّه باعتبار الآية السابقة لها فإنَّ الأول هو الأصح، وذلك لأن الآية السابقة (116 من سورة آل عمران) تصرّح بموضوعها، أي الكفّار.

[ 136 ]

أراضيهم، فأصبحت أراضيهم بذلك قطعة من الخضار لكثرة التشجير والمزارع والبساتين، وما كان الله يريد من هذا القوم إلاّ شكر الرب على نعمه الوافرة، كما يصرّح القرآن بذلك في الآية 15 من سورة سبأ: ( كُلوا مِنْ رِزْقِ ربِّكُمْ واشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طيِّبةٌ وربٌّ غَفُورٌ )لكن باعتبار أنَّ الإنسان ينسى الله عندما يغرق في نعمه، فكذا قوم سبأ كانوا قد نسوا الله وأصابهم الغرور والطغيان وكفران النعمة، وهذه من صفات الإنسان إذا كان ضيق الصدر، حيث ينسى كل شيء عندما يبلغ مستوى الرخاء.

إنّ القرآن يصف العذاب والنقمة التي أصابتهم كالتالي: ( فَأَعْرَضُوا فأرْسَلْنَا عَلَيْهِم سَيْلَ العَرِم وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَتَيْهِم جَنَّتِيْنِ ذَوَاتَي أُكُل خَمْط وَأثْل وَشَيء مِنْ سِدْر قَليل ) . (1)

نعم; إنّ كفران النعمة هو الذي بدّل نعمة السد الترابي إلى نقمة وعذاب. وقد توفرت مقدمات العذاب، بعدما أوحى الله لفئران أن تثقب السدّ، فكان الماء يخرج من الثقوب شيئاً فشيئاً إلى أن توسعت الثقوب لتصل إلى مستوى استطاعت أن تدمّر السدّ، فتدفّق الماء بشدة ودمّر قصور القوم وبساتينهم وأنعامهم، وبدّل مزارعهم إلى أراض جرداء.

وفي النتيجة تبدّل هذا السدّ - إثر إعراضهم عن الله - إلى عذاب ليكون عبرة لمن بعدهم، ولكي لا يطغى الإنسان أمام الله.

النموذج الآخر، هو عذاب الله الذي نزل على قوم شعيب من خلال الصيحة (كما يعبر عنها القرآن في الآية 94 من سورة هود) أو الصاعقة، وهي من جهتين تعتبر عذاباً، الأولى: أنَّها تحرق كل ما تصطدم به. والثانية: أنّ أمواجها الصوتية تذهب بالسمع.

ويُذكر هنا أنَّ هذه الصاعقة كانت نعمة لهم; لأنها تسبب هطول الامطار، تلك النعمة التي يدين لها جميع الأحياء على الكرة الأرضية.

وحسب ما ذكر في الآية 16 من سورة هود، أنّ الاستئصال كان نتيجة طغيانهم وكفرانهم لنعم الله، وتبدّلت بذلك الأرض التي هي مهد الإنسان ومسكنه إلى وسيلة عذاب يتعذبون بها.


1. سبأ: 16.

[ 137 ]

إنّ اهتزاز الأرض دمر جميع مدنهم، وقد أنزل الله وابلا من الأحجار عليهم بحيث لم يبق من آثارهم شيءٌ أبداً.

أشرنا سابقاً إلى أن الريح من نعم الله العظمى للمزارعين، كما أنَّه إذا لم يهب فانَّ عملية لقاح الاشجار سوف لا تتمُّ، كما أنَّ الهواء إذا لم يتغير فسوف يستهلك الاوكسجين فيه، وفي النهاية سوف لا تثمر الاشجار والنباتات من جراء ذلك.

 

3 - فلسفة الكوارث الطبيعية

منذ القدم كانت المسألة التالي ذكرها أحد مسائل بحث العدل الإلهي، وهي: إذا كان الله عادلا فما فلسفه الكوارث والحوادث المؤلمة من قبيل الأمراض والسيول والطوفانات والزلالزل والامطار الشديدة والاعصار المخيفة ؟

هل تتلاءم هذه الامور المؤلمة للإنسان أو المدمّرة له مع عدالة الله؟

لا نعرف التاريخ الدقيق لطرح هذه الشبهة، وقد يرجع تاريخها إلى ما قبل ميلاد السيد المسيح(عليه السلام). وقد دوِّنت في هذا المجال البحوث والكتب الكثيرة، وهممنا في كتاب (خمسين درساً عقائدياً) بالاجابة على هذه الشبهة.

وقد تصدَّى القرآن في بعض آياته للاجابة على هذه الشبهة، نشير إلى نماذج من تلك الآيات:

1- تعتبر بعض الآيات التنبّه واليقظة من أهداف هذه البلايا والكوارث، كما هو كذلك في الآية 41 من سورة الروم: ( ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ والبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أيدِي النَّاسِ ليُذيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلوُا لَعلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) .

على أساس هذه الآية، تعدُّ الكوارث لطفاًُ من الله للغافلين من الناس، فإنَّها قد تفيق الغافلين عن غفلتهم لعلهم يرجعون إلى الله، مثلما ابتلى الله الناس في زماننا هذا بمرض الايدز لكثرة فسادهم لعلهم بهذا الابتلاء يرجعون عن فسادهم وينتبهون إلى أنفسهم، أو مثلما يبتلي شعوب العالم حالياً بالحروب والاختلاف الطبقي الفاحش والانقلابات والسقوط وتدمّر الحضارات البشرية وذلك لتفشي أمراض مثل أكل الربا فيهم. فهذه الابتلاءات تحلُّّ بالناس

[ 138 ]

لعلّها تنبههم وترجعهم إلى الطريق الصواب وتفيقهم من غفلتهم هذه.

إذن، الابتلاءات هذه مواهب إلهية في الواقع.

ولأجل اتضاح هذه الفلسفة بشكل أفضل التفتوا إلى هذا المثال:

نشاهد في بعض الشوارع الطويلة والمستوية بعض العقبات والعكر تعَّمد إيجادها المعنيوّن. إذا ما سألنا عن سبب ذلك قالوا: إن شوراع من هذا القبيل قد تؤدي إلى غفوة السائق وغفلته الأمر الذي قد يودي، بحياته وحياة الآخرين، ولأجل الحيلولة دون غفوة السائق نتعمد إيجاد هذه العكر ليبقى السائق منتبهاً دائماً.

إنّ حياة الإنسان إذا خلت من هذه العقبات قد تؤدي إلى غفلة الإنسان وغفوته وسقوطه في الهاوية في نهاية الأمر، لكن وجود هذه العقبات تحول دون غفلته وتنجيه من السقوط رغم أنها تؤذيه ولا تريحه.

2 - الفلسفة الاخرى المستفادة من الآيات هي أنَّ بعض هذه البلاءات والحوادث نتيجة عمل الإنسان نفسه، وبتعبير آية المثل: أنَّ الإنسان يظلم نفسه وأنَّ الله لا يظلم أحداً.

على سبيل المثال، الأبوان اللذان لايكترثان بسوء أو حسن تربية الاطفال، ولا يهتمان بتعليمهم المسائل الدينية، ولا يرشدونهم إلى الاماكن الدينية مثل المساجد والحسينيات ولا يعوّدونهم على التردد على هذه الأماكن، فان النتيجة ستكون اطفالا غير مهذبين أو متعاطين للمخدرات، الأمر الذي يعود بأضراره لا على نفسيهما فحسب بل على جميع المجتمع، لكن يا ترى من كان السبّاق والناثر للبذرة الأولى لهذا الشذوذ وهذا الظلم؟ لا أحد غير الأبوين.

 

إعتبروا

قبل مدة جاء شخص محترم لمكتبنا لغرض دفع ما عليه من واجبات مالية، فقضى الموظفون حاجته وأدى ما عليه، ثم رحل.

بعد فترة من الزمن جاء نفس الشخص مع صديق له، وهو يحمل معه الكثير من الهمّ والغمّ، ورأيته يبكي، فسألته عن سبب بكائه؟ فأجابني: أنَّ إطفالي صادروا جميع ما جمعت من المال خلال السنوات الماضية من عمري، وقد طردوني من البيت، وأنا الآن أنام في كل ليلة في بيت

[ 139 ]

من بيوت المعارف. ثم أشار إلى صديقه وقال: إنّ الطريق الذي سلكه صديقي كان طريقاً صحيحاً، فهو سعى منذ البداية في تربية أولاده وتعاليمهم والاحكام الإسلامية وأرشدهم منذ الصغر إلى المساجد والحسينيات، وأولاده حالياً كالعصى بيد والديهم يحترمونهما ويؤدون واجباتهم تجاههما، إلاّ اني أخطأت منذ أن فكّرت في إرسالهم للخارج وتعليمهم العلوم من دون الاكتراث بما قد يسيء ذلك إلى تربيتهم. وحالياً عندما رجعوا إلينا وجدناهم لا يفكرون إلاّ بأنفسهم ومصالحهم المادية، فلا يهتمون بشيء غير المال ( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلكِنْ كَانُوا أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) . (1)

إنّ لطف الله ورحمته على العباد مثل الغيث الذي يهطل على الأراضي، ففي بعضها تنبت الزهور والنباتات، وفي بعضها الآخر تنبت الأدغال، والاشكال ليس في المطر بل في ذات الأرض. كما أنه لا اشكال في أنوار الهداية الإلهيّة، بل الاشكال في قلوب الناس. وعلى هذا، فإنَّ الفلسفة الاخرى لهذه الابتلاءات هي أنَّها ردود فعل لأفعالنا نحن. بالطبع هناك فلسفات اخرى لهذه الظواهر، نحن نكتفي هنا بالموردين السابقين.


1. جاءت آيات كثيرة بهذا المضمون، منها الآية 57 من سورة البقرة، والآية 117 من سورة آل عمران والآية 9 و 16 و 162 و 177 من سورة الاعراف، والآية 70 من سورة التوبة والآية 44 من سورة يونس.

[ 140 ]

[ 141 ]

 

 

 

 

المثل الثاني عشر: الكفر والإيمان

 

يشير الله تعالى إلى هذا المثل في الآية 112 من سورة الأنعام، حيث يقول:

( أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورَاً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا كَذَلك زُيِّنِ لِلْكَافِريِنَ مَا كَانُواَ يَعْمَلُونَ ) .

 

تصوير البحث

في الآية مثلان كلاهما عن الكفر والايمان . شبّه القرآن الايمان في المثل الأول بالحياة، والكفر بالموت. وفي المثل الثاني شبّه الله الايمان بالنور والكفر بالظلمات.

 

شأن نزول الآية

ذُكر شأنان لنزول الآية:

1 - نزلت الآية في حمزة العم الجليل لرسول الله(صلى الله عليه وآله) وفي أبي جهل العدوّ اللدود للرسول(صلى الله عليه وآله).

إنّ حمزة لم يؤمن في صدر الإسلام، وقد يكون ذلك تأنياً منه لدراسة الدين الجديد بشكل افضل، فهو في صدر الإسلام سلك سبيل السكوت تجاه الدعوة. أما أبو جهل فكان يؤذي الرسول دائماً بشكل وآخر وكان يضع أمام الرسول العقبات لأجل إيذائه. في يوم كان حمزة قد ذهب للصيد، وفي نفس اليوم كان أبو جهل قد آذى الرسول بشدة بحيث تأثر من جراء ذلك

[ 142 ]

حتى عبدة الأصنام، وقد وصل خبر إيذاء الرسول(صلى الله عليه وآله)لحمزة بعد أن قدم من الصيد، فذهب إلى أبي جهل وضربه على أنفه بحيث رعف أنفه دماً، ورغم ما كان لأبي جهل من قوم وأنصار، إلاّ أنه هاب حمزة، ولم يصدر منه أي ردّ فعل، وفي هذه الاثناء استسلم حمزة.

إنّ الآية نزلت هنا، وكأنها تريد القول: إنَّ حمزة حيى عندما أسلم، وبذلك تنوَّر قلبه، عكس ما كان عليه ابوجهل في تورّطه بالظلمات، وأنَّ تعصبه ولجّه حال دون الخروج منها.

الكفار يعتقدون بصحة أعمالهم ورفعة شأنها رغم أنهم يزدادون كل يوم غطساً في طين الشقاء والكفر.(1)

2 - الشأن الآخر هو أنَّها نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل. إنّ عمار من الشباب الشجعان ومن أوائل الذين أسلموا ونوروا قلوبهم بالايمان، فهو من أنصار رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأصبح نصيراً للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله)، وقد استشهد في صفين.(2)

عندما أسلم هذا الشاب ذمّه الكثير من المشركين، منهم أبو جهل، وقد تعرّض آنذاك لأنواع من العذاب. ومن هنا قيل: إنَّ الآية نزلت في إيمان عمار وكفر أبي جهل، باعتبار أنَّ عمار قبل الإسلام كان ميتاً وحيى بعد الإسلام وتنوّر قلبه به، أما أبو جهل فظل في وادي الظلمات باصراره على الكفر ولجه في ذلك، ولا أمل له في النجاح والسعادة; لأنَّه كان يعتبر أعماله القبيحة حسنة.(3)

 

ما هي الحياة؟

لأن نستوعب بعمق المثل الأوّل علينا أن نفهم معنى الحياة.

رغم أن آثار الحياة نجدها في كل مكان، ورغم أنّه يمكننا أن نميّز الحياة عن الممات، إلاَّ أنَّ تعريف الحياة وإدراك حقيقتها أمر مشكل، وقد لا يوجد شخص استطاع إبداء تعريف جامع لحقيقة الحياة.


1. انظر تفسير الأمثل 4: 401 - 403.

2. إنّ قتل عمار أوجد ضجة في معسكر معاوية، وذلك لأن الرسول(صلى الله عليه وآله) كان قد قال له: ((تقتلك الفئة الباغية)) إثر ذلك كاد ان يرتد الكثير من معسكر معاوية، إلا أنّ معاوية أنقذ نفسه بالقول بأن قاتله هو من دعاه أو جاء به للقتال.

3. انظر تفسير الأمثل 4: 401 - 403.

[ 143 ]

يعتقد العلماء أنّه لا يمكن أن يولد الحي من الميّت. ورغم ما انجزه العلماء من صناعات مدهشة كالكامبيوتر والطاقة الذرية و... إلاّ أنهم ما استطاعوا أن يخلقوا موجوداً حيّاً من موجود ميّت.

اعتبر القرآن قبل 1400 سنة الإنسان عاجزاً، حيث قال في الآية 73 من سورة الحج: ( إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يخلقُوا ذُبَابَاً ولو اجْتَمَعُوا لَهُ ). وفي هذا العصر المليء بالاختراعات، يعجز الإنسان عن إدعاء الخلق فضلا عن الخلق نفسه.

من المبادئ التجريبية المسلمة هي أنَّ الحي لا يمكن خلقه من الميّت، وظنُّ بعض العوام أن الرطوبة تخلق بعض الموجودات الحيَّة فذلك ظن باطل، كما أنَّه لا يتصور أنَّ التفاحة بنفسها توجد الدودة التي في داخلها، بل ينبغي أن يكون في داخل التفاحة بيضة الدودة لكي توجد الدودة، فلا الحيوان يوجد النبات ولا النبات يوجد الحيوان.

سؤال: في اليوم الذي انفصلت الارض عن الشمس لم يكن موجود حىٌّ على الكرة الأرضية، لكن الموجودات الحية وجدت بعد ذلك. ألم يكن ذلك بسبب أنَّ الموجودات الحية تخلق من الموجودات الجامدة؟

الجواب: نعم كانت هناك ظروف معقدة خاصة خلقت الجمادات الموجودات الحية، لكن هذه الظروف غير متوافرة بالفعل، كما لا يمكن للإنسان أن يوافر تلك الظروف.

وعلى هذا، فانَّ الحياة أعجب ظاهرة في عالم الوجود. والأعجب من ذلك هو خالق الحياة، فرغم تحقيق ودراسة الملايين من العلماء، ما أستطاع أحد منهم كشف هذا السر ومعرفة سر الخلق! ولهذا كانت قضية الحياة من أهم أدلة وبراهين معرفة الله.

 

أقسام الحياة

إن الحياة على ثلاثة أقسام:

1 - الحياة النباتية، وعلاماتها أشياء ثلاثة:

الف - النمو. باء - التغذية . جيم - التناسل.

2- الحياة الحيوانية، وهي حياة تضم علامتين، هما: الحس والحركة.

[ 144 ]

3 - الحياة الإنسانية، وهي تحضى - أضافة إلى الخصائص السابقة المذكورة في الحياة النباتية والحيوانية - بخصائص من قبيل العلم والمعرفة والايمان والأخلاق والحب والارادة. واذا فقدت الحياة الإنسانية الخصائص الثلاث الاخيرة تبدلت إلى حياة حيوانية. ولذا، اعتبر القرآن المجيد غير المسلمين موتى; لأنّه ينظر إلى حياتهم من الزاوية الدينية الإسلامية.

 

المراد من الحياة في آية المثل

لا شك في أنَّ المراد من الحياة في الآية الشريفة هو الحياة الإنسانية، أي أنَّ حمزة أو عمار أو أي شخص آخر يحيى إذا ما أسلم، فتظهر فيه علائم الحياة الإنسانية، أي العلم والمعرفة والاخلاق والايمان والحب والارادة. ومن هنا كان امثال عمار وحمزة والشهداء في سبيل الله أحياء(1) أمّا أمثال أبي جهل فأموات غير أحياء.(2)

 

لماذا عُدّ عرب الجاهلية أمواتاً؟

يبحث الإمام علي(عليه السلام) هذا الأمر في الخطبة رقم 26 من نهج البلاغة ويقول: «إنَّ الله بعث محمداً(صلى الله عليه وآله) نذيراً للعالمين، وأميناً على التنزيل...» ثم يذكر عشر خصال لعرب الجاهلية.

1 - «وأنتم معشر العرب على شرِّ دين» فإنَّ عبادة الأصنام هي أسوأ خرافة، كيف يمكن للإنسان أن ينحت صنماً ثم يسجد ويركع إليه ويناجيه ويطلب منه الطلبات؟ والأسوأ من ذلك كله هو أنّه يضحّي بولده لهذه الأصنام، وعند الجوع يأكل أصنامه التي صنعها من التمر.

2 - «وفي شر دار» فهم كانوا في دار لم يحكمها السلام أبداً، فنار الحرب كانت مستعرة دائماً، وكانوا يصرون على النزاع والمخاصمة ويورثون الأحقاد لأولادهم، وكان الموت مصير من لم يستطع الانتقام من خصمه، وكانوا يوصون أولادهم بالانتقام.

3 و 4 - «مُنيخون بين حجارة خُشن وحيَّات صُمّ» أي كانوا فقراء يعيشون بين الاحجار


1. سورة آل عمران الآية 169.

2. سورة النحل الآية 21.

[ 145 ]

الصلبة والخشنة والحيات الخطرة التي كانت صماء لا تسمع، «فكانت الأرض فراشكم والسماء غطاءكم».

5 - «تشربون الكدر» أي ما كانوا يشربون ماءً زلالا بل ماؤهم كان وسخاً دائماً.

6 - «وتأكلون الجشب» أي مأكولاتهم ما كانت لذيذة بل متواضعة ولا تلذ.

7 - «وتسفكون دماءكم» فان عدم الأمن والأمان كان هو الحاكم آنذاك.

8 - «وتقطعون الأرحام» فما كانوا يرحمون أولادهم فضلا عن غيرهم، إنّ وأد البنات كان من عاداتهم.

9 - «الأصنام فيكم منصوبة» أي أنَّها كانت منصوبة للاحترام والتبجيل والعبادة...

10 - «والآثام بكم معصوبة» أي كانوا قد غرقوا في وحل الذنوب والعصيان.

من مقال الإمام يستفاد أن الفقر كان هو السائد، سواء كان بمعناه الديني أو الثقافي أو السياسي أو الاقتصادي أو الأمني ... فبعث الله في هذا الوسط - الذي كان ميتاً بكامل معنى الكلمة - رسولا مع باقة من العلم والمعرفة .

عندها التقى عرب الجاهلية ومسلمو صدر الإسلام مع العلم والمعرفة وما مرّ زمن طويل حتى تزعموا عالم العلم، ووفّروا الأرضية للحركة العلمية في اوروبا. وخلال أربعة أو خمسة قرون استطاع المسلمون أن يرشدوا الاوربيين نحو العلم. ورغم أنَّ المسلمين تزعموا العلم وكانوا روّاد الحركة العلمية في العالم، إلاّ أنَّهم تخلفوا حالياً عن عجلة الصناعة والتقنية، وهم يمدون أيديهم الآن إلى الدول الأوروبية لارسال خبراء ومستشارين رغم ما يترك هذا الأمر من مضار أخلاقية واجتماعية ودينية.

وعلى العلماء في الوقت الحاضر أن يشدوا الشباب بماضيهم المنير وأن يعرّفوا هذا الجيل بما أقرّ به الاوربيون للمسلمين من علوم واختراعات وابتكارات علمية قبل النهضة الاوربية... وبتدريسهم هذه المطالب في الجامعات والمراكز العلمية سوف يحرّضون الشبان نحو النشاط الاكبر والأكثر فاعلية.

 

[ 146 ]

آثار النور وبركاته

لقد شُبِّه الايمان في المثل الثاني بالنور، والكفر بالظلمات. ولأجل اتضاح عظمة النور من المناسب ان نشير إلى آثاره المادية وبركاته هنا:

النور هو ألطف موجود وأسرعه في عالم المادة; فإنَّ سرعته في الثانية 000/300 كيلوامتر، وبعبارة اخرى: النور يستطيع أن يطوي الارض سبع مرات ونصف المرة في الثانية الواحدة، لأن قطر الأرض في خط الاستواء هو 40 الف كيلوا متر، واذا قسمنا 000/300 على 000/40 فان الناتج سيكون سبعة ونصف.

إنَّ بركات عالم المادة جميعها من النور، وذلك لأنَّ بواسطته تُقتل الميكروبات المضرّة وتُعالج بعض الامراض، وببركته يدفء الجو، وببركته تتنوّر الأرض، وببركته تنزل نعمة المطر الالهية.

في الإسلام والايمان إضاءة كما في النور. إنَّ حمزة وعمار كانوا أمواتاً قبل الإسلام، كما هو حال عرب الجاهلية أجمع، ثمّ تنوّروا بعد إيمانهم، وأحيى هذا النور وجودهم وقلوبهم، وقد سلكوا طريق الحق والحقيقة بواسطة هذا النور، وطبيعي أن يختلف صاحب هذا النور عمن لا يمتلكه.

 

نور الفرقان

الآية التالية (29 من سورة الأنفال) من الآيات ذات المحتوى والمعنى العميق التي نزلت في هذا المجال: ( يَا أَيُّها الَّّذِيْنَ آمَنُوا إنْ تَتّقُوا اللهَ يَجْعَلُ لَكُمْ فُرْقَاناً ) .

الفرقان لغوياً يعني ما يميز به الحق عن الباطل. والآية تعني أنَّ الإنسان إذا اتقى الله، فالله يلقي في قلبه نوراً يستطيع الإنسان من خلاله أنْ يميز الحق عن الباطل. ولهذا قد يحصل أن يكون بين الناس العوام اشخاص يحملون هذا النور ويعلمون بواقع الأمر رغم اكتناف الواقع بملابسات وغموض بحيث يعلمون بالمنشأ والأهداف. إنَّ أصحاب هذا النور لا يقعون في فخ الشيطان ولا يكونون آلة بيده، كما لا يتورطون بشباك المحتالين; وذلك لأن نور الفرقان يكشف لهم عمّا غمض ويهديهم إلى الصواب، لذا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «المؤمن ينظر بنور الله».(1)


1. بحار الأنوار64: 75.

[ 147 ]

التقوى ثمرة الصوم والفرقان ثمرة التقوى

شهر رمضان شهر التقوى والنور، والإنسان يحصل بالصوم على تقوى أكثر إلى مستوى تتجذر فيه نبتة التقوى (لعلكم تتقون). وعليه، فالتقوى ثمرة الصوم ونتيجته، وعلى أساس الآية الشريفة، إنَّ الفرقان هو ثمرة التقوى.

ومن المناسب في هذه الليالي والأيام المباركة وبخاصة عند الاسحار أنْ نرفع أيدينا إلى السماء خشية وتضرّعاً سائلين الله التقوى والفرقان (اللهم آمين).

 

الأعمال القبيحة تبدو حسنة في نظر الكفار

يقول الله في نهاية الآية الشريفة: ( زُيِّنَ لِلكَافِرِيْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ); وذلك لأنَّ حب الذات والهوى والأنانية والغرور تجعل الإنسان في غفلة عن أعماله القبيحة وتتزيّن له الأعمال القبيحة، بحيث تبدو جميلة وحسنة.

[ 148 ]

[ 149 ]

 

 

 

 

المثل الثالث عشر: شرح الصدر

 

يقول الله تعالى في المثل الثالث عشر من أمثال القرآن في الآية 125 من سورة الأنعام:

( فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أنْ يَهْديَهُ يَشْرَحُ صَدْرَهُ لِلأسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجَاً كَأنّمَا يَصَّعَّدُ فِي السِّمَاء كَذَلك يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الّذِين لاَ يُؤمِنُونَ ) .

 

تصوير البحث

إنَّ الآية الشريفة في صدد بيان الأرضيات الروحية للناس لقبول الحق. والمستفاد من هذه الآية، أنَّ الناس يختلفون من هذه الحيثية، فبعض من الناس بمجرد أن يواجه الإسلام يتلقاه ويحتضنه; وذلك لطهارة روحه و نورانية قلبه، ولأجل ذلك يشرح الله صدوره. وفي قبال هذا البعض، هناك البعض الذي لا يتأثر بالقرآن حتى لو قرأته كله عليه; وذلك لأنه يفقد الأرضية اللازمة لقبول الحق، فيجعل الله صدر هذا ضيّقاً ومظلماً.

 

الشرح والتفسير

( فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَح صَدْرَهُ للأِسْلاَمِ ) والعبارة الاخرى لشرح الصدر هي توسيعه بحيث يجعله مؤهلا وقابلا لاستقطاب الحق والحقيقية.

( وَمَنْ يُرِدْ أنْ يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً ) والعبارة الاخرى لضيق الصدر هي سلب القدرة والطاقة عن القلب بحيث يختل توازنه الفكري لأصغر مشكلة وأتفهها.

[ 150 ]

( كَأنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ... ) أي أنَّ ضيق الصدر يصل إلى مستوى وكأنه يحلق إلى السماء بدون وسيلة، كما أنّ تحليقاً من هذا النوع محال بالنسبة إلى الإنسان، كذلك تحّمل الضيق والظلمة بالنسبة لهؤلاء، فهم لا يطيقون ذلك. إنَّ الله يجعل هكذا ظلمة وكفر في قلوب غير المؤمنين.

 

خطابات الآية

1- الهداية والضلالة بيد الله

إنّ المفهوم الذي يتطابق مع ظاهر الآية هو أنَّ الهداية والضلالة بيد الله، وهذا لا يعني إلاّ الجبر. ففي هذه الحالة يُعدُّ الإسلام والكفر أمرين غير اختياريين، لكن قبول هذا - حسب عقيدتنا - يتنافى مع عدالة الله.

ومن هنا كان علينا أن نقدم مقدمة نوضح فيها الأمر:

من الفرق الإسلامية - التي لا تنهل من المنبع الزلال للولاية والامامة - فرقة تقول بالجبر وتعتقد أنَّ الإنسان مسلوب الإختيار. إنَّ الإعتقاد بهذا المذهب - المخالف لمذهب الشيعة - يتساوى مع انكار اصول الدين الخمسة.

إنّ أول أصل يغض النظر عنه هذا المذهب هو أصل العدل الإلهي، فإنَّ الإنسان اذا كان مُجبراً على أعماله فعذاب الكافر وثواب المؤمن ليسا من العدالة; لأنّه لا الكافر اختار الكفر، ولا المؤمن اختار الايمان. ولهذا لم يقل بعدل الله من قال بالجبر.

إنَّ التوحيد هو الأصل الثاني الذي ينفى بالاعتقاد بالجبر; وذلك لأنَّ الله إذا لم يكن عادلا فهو ليس أهلا لادارة وتدبير هذا العالم الواسع الذي يُدار على أساس النظم والحكمة.

من هنا كان إرسال الرُسُل وبعثة الأنبياء خالياً من أي معنى وتبرير; فإنَّ الانبياء لا قدرة لهم على هداية الكفار وذلك لأنَّهم مسلوبو الإختيار، كما أنّه لا تأثير للأنبياء على إيمان المؤمنين، فإنَّ الجَبْر يحول دون انحرافهم، وبعبارة أُخرى: أنّ الأوّل محال، والثاني تحصيل حاصل، وكلاهما غير ممكنين من وجهة نظر فلسفية.

الإمامة - التي هي استمرار للنبوة - تبطل للسبب السابق. وآخر أصل يبطل بالجبر هو

[ 151 ]

أصل المعاد; فإنَّ المعاد يبتني على الاختيار. وعليه، إذا كان الناس جميعهم مجبورين ومسلوبي الاختيار فإنَّ الجزاء والجنة وجهنم والقيامة والمعاد كلها تكون مفاهيم دون معان.

وفي النهاية، لا يمكننا أنْ نكون مسلمين بالاعتقاد بالجبر، كما لا يمكننا على أساسه قبول أصول الدين(1) ولهذا على الشيعة أن تشكر الله على أنَّه لم يوقعها - ببركة الائمة المعصومين(عليهم السلام) - في وادي الجبر المظلم، كما لم يتركها تتسيب في صحراء التفويض المظلمة، بل سلك الله بالشيعة طريقاً بين المذهبين المنحرفين، وهو طريق الحق المستقيم والواضح.

إنَّ ما تدل عليه الآية هو: أنَّ الخطوة الأولى للهداية والضلالة يخطوها الإنسان نفسه، فاذا كانت هذه الخطوة باتجاه الهداية، فإنَّه سيكون مشمولا للهداية الربانية، وإذا كانت هذه الخطوة باتجاه الضلالة فإنَّه سيكون مشمولا للضلالة الربانية. سلمان الفارسي - مثلاًَ - تحرك من إيران وخطى باتجاه منبع الهدى، وتحمّل في هذا السبيل المشاكل إلى مستوى أنّه أُخذ رقاً، لكن باعتبار أنّ خطاه الأولى كانت باتجاه الهداية، شملته هداية الله وشرح الله صدره ونال ما نال من جرّاء ذلك.

أما أبو جهل وأبو لهب فرغم أنَّهما كانا بجنب منبع الهدى، إلاَّ أنَّ خطاهما الأولى كانت باتجاه العناد والعداوة، أي اختارا طريق الضلالة تبعاً للشيطان وأغلقا أعينهما وأسماعهما للحيلولة دون رؤية أو سماع الحق ونداءه، لذا شملتهما ضلالة الله وضيّق الله صدورهما وأظلمها.

وعلى هذا، فإنَّ الهداية والضلالة نتيجة لخطى الإنسان الأولى، والآية الشريفة كغيرها من الآيات لا تتنافى مع اختيار الانسان.(2)

 

2- الاعجاز العلمي للقرآن في آية المثل

رغم أنَّ المُفسرين يعتبرون جملة ( كَأنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ ) كناية عن الأمر المحال وغير


1. هناك عوامل كثيرة أدت للاعتقاد بالجبر، للمزيد راجع كتابنا خمسين درساً في أصول العقائد، بالفارسية الصفحة 118 فما بعدها.

2. للمزيد راجع كتاب خمسين درساً عقائدياً، الصفحة 137 فما بعدها.

[ 152 ]

الممكن، إلاّ أنَّه باعتبار التقدّم الملحوظ في العلوم البشرية وامكانية الوصول إلى الفضاء، يمكن ذكر تفسير آخر لهذه الجملة يكشف عن إعجاز علمي للقرآن المجيد.(1)

يحيط الكرة الأرضية وإلى ارتفاع 30 كيلومتراً مقدار من غاز الاوكسجين، والذين يفيدون من هذا الاوكسجين من الموجودات الحية يفيدون من المقدار الموجود إلى ارتفاع كيلومترات محدودة، اما الموجود في الفضاء المرتفع فالإفادة منه صعب للغاية، بحيث بالنسبة للإنسان كلّما ارتفع عن سطح الأرض كلّما صعب عليه التنفّس وضاق.

ولأجل ذلك قد يبتلي متسلقو الجبال بمشاكل عسر التنفس إذا ما ما تسلقوا جبالا عالية، أي بلغوا مستوى يصعب بعده جذب الاوكسجين في البدن، الأمر الذي قد يؤدي بهم إلى الغيبوبة، والموت بعضاً ما.

ولنفس السبب تُجهَّز الطائرات بمعدات لتنظيم مقدار الاوكسجين في الطائرة عند التحليق في اماكن مرتفعة، واذا اختل عمل أجهزة الهواء في الطائرة يضطر المسافرون للبس الاقنعة الخاصة التي تمدّهم بالاوكسجين والتي أعدت للحظات من هذا القبيل، واذا تعسر الافادة من ذلك تضطر الطائرة للتحليق في ارتفاعات أدنى للحفاظ على حياة المسافرين.

في الوقت الذي نزلت فيه الآية لم يكن الإنسان على علم بهذه القضية العلمية إلاَّ أنَّ القرآن المجيد في ذلك الزمان (1400 سنة قبل) كشف عن هذا اللغز العلمي وقال بعدم امكان الافادة من الهواء في الفضاءات المرتفعة، وشبَّه الضالين بأولئك الذين يريدون التنفس في تلك الفضاءات.

 

3 - شرح الصدر

عندما بلغ النبيّ موسى(عليه السلام) مقام النبوة، طلب من الله عدة أشياء، منها: شرح الصدر حيث جاء: ( قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي... ) . (2)


1. إنّ اعجاز القرآن ذات وجوه مختلفة منها الاعجاز العلمي، للمزيد راجع تفسير نفحات القرآن 8:121 - 167.

2. طه: 25.

[ 153 ]

نال الرسول(صلى الله عليه وآله) هذه النعمة الإلهيّة العظمى دون أن يطلبها من الله: ( ألَمْ نَشْرَح لك صَدْرَكَ ) . (1)

ما معنى شرح الصدر باقتضاب؟

لا يعني الصدر ذلك القسم العلوي من البدن، بل يعني الروح والفكر. وعلى هذا، فشرح الصدر يعني الروح المنفتحة والفكر المنفتح، أي منشرح الصدر هو صاحب الفكر العميق والصبر والتأني الفكري والروحي بحيث لا يتزلزل أمام أبسط الحوادث أو أشدها. ولهذا كان شرح الصدر أحد أهم مستلزمات الترقي والتعالي نحو الله تعالى.

 

الرسول(صلى الله عليه وآله) وجاره اليهودي

كان للرسول(صلى الله عليه وآله) جار يهودي يلقي فضلات بيته وجمر ناره على الرسول عند مروره من بيته، وكان يمارس هذا العمل يومياً، وفي يوم مرّ الرسول من بيت اليهودي ولم يواجه الظاهرة اليومية التي كانت تصدر من اليهودي، فسأل الرسول أصحابه؟ فأجابوه بأنه مريض، فذهب الرسول لعيادته، وطرق الباب وكانت إمرأته خلف الباب فسالته عمّا يريد فأجابها أن الهدف هو العيادة ففتحت له الباب، وكان سلام الرسول(صلى الله عليه وآله)وتحياته لليهودي تبدو وكأنَّ اليهودي لم يكن من المؤذين للرسول يومياً.

عندما شاهد اليهودي هذه المعاملة من الرسول سأله عمّا إذا كانت هذه الاخلاق من صلب الدين الذي يدعو له؟ فاجابه بالايجاب.

ونجد الكثير من هذه النماذج في سيرة الرسل والأئمة وعلماء الدين.

على سبيل المثال، كتب شخص في شيراز رسالة إلى أحد علماء تلك المدينة يهجره ويشهّر به فيها، فيرى العالم ذلك الشخص الكاتب في الغد ويقول له: (لقد رميت الرسالة التي كتبتها لي(2) يبدو أنك تعاني من مشكلة مالية، فخذ هذا المبلغ لعلَّ مشاكلك تُحل به).


1. سورة الشرح الآية 1. وقد جاء نفس المضمون في الآية 106 من سورة النحل وكذا الآية 22 من سورة الزمر.

2. كان في كلامه تورية، لأنّه رماها خلف الكتب بعد أن قرأها، أمّا الكاتب فتصوّر أنه لم يقرأها.

[ 154 ]

ففرح كاتب الرسالة وكان يقول مع نفسه (كان خيراً أن السيد لم يقرأ رسالتي).

على المسلم أن يتأسَّى بالرسول(صلى الله عليه وآله) وأن يشرح صدره ويوسع فيه، وأن تكون همّته أرفع من أن يتنازل ويضعف أمام المشاكل; بل عليه أن يتحمّل ولا يكفر بالنعم لكل مشكلة يواجهها ولو كانت صغيرة، وما عليه أن يحقد ويسعى للإنتقام.

إلهي ببركة هذا الشهر (رمضان) اشرح صدورنا ووفقنا جميعاً لتحمل ما لا نستسيغه.

[ 155 ]

 

 

 

 

المثل الرابع عشر: المبدأ والمعاد

 

يقول الله تعالى في المثل الرابع عشر من امثال القرآن الجميلة في الآية 57 من سورة الأعراف:

( هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَي رَحْمِتِه حَتَّى إذَا أقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالا سُقْنَاه لِبَلَد مَيِّت فأنْزَلْنَا بِهِ المَاءَ فأخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلّ الثَمَرَاتِ كَذلك نُخْرِجُ المَوتَى لَعَلَّكُم تَذَكّرُونَ ) .

 

تصوير البحث

جاءتنا الآية بخطابين مصيريين، هما صدر الآية الذي تضمّن التوحيد ومعرفة الخالق وببرهان مقنع على المبدأ، وذيل الآية الذي تضمّن مثلا جميلا أشار به إلى عالم الآخرة والمعاد.

 

أهمية المبدأ والمعاد

إن المبدأ والمعاد من المسائل المهمة جداً والتي طرحت في القرآن بشكل واسع بحيث اختص ما يقرب الالفين من الآيات (أي ثلثا القرآن) بالمعاد، كما أن ثلث الآيات اختصت بموضوع المبدأ. وهذا الأمر يكشف عن أهمية المبدأ والمعاد.

إنّ القضايا التي تناولتها الآيات هي من قبيل العدل الإلهي والجنة والنار، ودفتر الاعمال وتجسّم الأعمال والمعاد الجسماني وثمار الجنة وغير ذلك. وسر الاهتمام البالغ بالمعاد واضح، من حيث أنَّ الإنسان لا يمكنه أن يقع في طريق السعادة ولا يمكنه أن يخطو في هذا الطريق إلاَّ أنْ

[ 156 ]

يكون معتقداً بالأصلين المهمين، الأول: هو المبدأ أو التوحيد والثاني: هو المعاد أو رجوع الإنسان إلى الله.

إنّ الإعتقاد بالله يعلِّم الإنسان أنَّ الله يراقبه في كل زمان ومكان ( وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَمَا كُنْتُمْ ) . (1) والإعتقاد بالمعاد يعلِّم الإنسان أنَّ الله لا يخفى عليه شيء وهو عالم بأعمال الإنسان جميعاً ( عَلِيْمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )،(2) ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورَ ) . (3)

وحسب ما جاء في الآيات، يُدرس سجل الإنسان يوم القيامة في محكمة العدل الإلهي، وهي محكمة لا يمكن إغواء القاضي فيها كما لا يمكن انكار شهودها، فقد جاء في الآية الشريفة: ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّة شَرَّاً يَرَه )،(4) كما جاء في الآية الشريفة التالية: ( لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرةً إلاّ أحصَيها )(5) فالإنسان مسؤول على جميع أعماله ولو كانت صغيرة جداً.

إنّ الإلتفات إلى الاصلين يجعلان من الإنسان أن يعتبر الله ناظراً على أعماله، الأمر الذي يحول دون ارتكابه المعصية. كما أنّ الغفلة عن ذلك يترك للشيطان فجوة ينفذ من خلالها، كما قالت ذلك الآية الكريمة: ( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانَاً فَهُوَ لَهُ قَرِيْنٌ ) . (6)

 

المعاد الجسماني والمعاد الروحاني

المعاد من وجهة نظر القرآن جسماني وروحاني، أي أنَّ جسم الإنسان يحشر يوم القيامة كما تحشر روحه. وبعبارة أُخرى: أنَّ روح الإنسان تكون مشمولة لنعم الله ونقمه، كما هو الحال بالنسبة إلى جسمه، وذلك هو مقتضى العدل الالهي، فكما أنَّ الإنسان بجسمه وروحه عمل


1. سورة الحديد الآية 4، وقد تناولت الآية 7 من سورة المجادلة نفس المضمون.

2. لقد جاءت هذه العبارة في آيات كثيرة من القرآن منها الآية 119 من سورة آل عمران.

3. غافر الآية 19.

4. الزلزلة الآية 7 و 8 .

5. الكهف الآية 49.

6. الزخرف الآية 36.

[ 157 ]

خيراً أو شراً، ففي القيامة ينبغي أن ينال كلٌّ من الروح والجسم نصيبه وجزاءه من العمل الدنيوي من ثواب أو عقاب.

إنَّ ما أثار دهشة وإعجاب منكري المعاد في صدر الإسلام هو القول بالمعاد الجسماني لا الروحاني; وذلك لأنَّ عقل أكثر الناس في عيونهم فيصدقون ما يرون ويكذبون ما لم يروا. من هنا كان يسأل منكرو المعاد: كيف يمكن أن يحيى الإنسان بعد ما تبدل إلى تراب بعد الموت بحيث يتعذّب يوم القيامة؟ فأجابهم الله على شبهتهم هذه في الآيتين 7 و 8 من سورة سبأ حيث قال: ( قَالَ الَّذينَ كَفَرُوا هَلْ نُدُلُّكُمْ عَلَى رَجُل يُنَبِّئُكُمْ إذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّق إنَّكُمْ لَفِي خَلْق جَدِيد افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أمْ بِهِ جنّةٌ بَلِ الَّذينَ لاَ يُؤمِنُونَ بالآخِرةِ فِي العَذَابِ والضَّلالِ البَعِيْدِ ) . (1)

لقد تمسك القرآن المجيد بالمثل لاثبات المعاد الجسماني والروحاني، كما هي سيرته في تفهيم المطالب لمخاطبيه. وقد أفاد هنا من ثلاثة أمثال:

1 - التمثيل بالنباتات وتشبيه الحياة بعد الموت بإحياء النباتات بعد موتها.

2 - التمثيل بالمراحل الجنينية لخلق الإنسان حيث تبدأ حياته بنطفة صغيرة تنمو كل يوم، ويُعدُّ كل يوم من هذه المراحل حياة جديدة لهذا الجنين.

3 - التمثيل بنوم أصحاب الكهف، فإنَّ نومهم كان بمثابة الموت، ويقظتهم كانت بمثابة الحياة الجديدة بعد سنوات عديدة.

كيف يمكن لشخص أن يستيقظ من النوم سالماً بعد أكثر من ثلاثمأة سنة دون أن يأكل أو يشرب خلال هذه الفترة؟

حسب ما أقرته الآية، انَّ أصحاب الكهف ناموا مدّة مليون يوماً، وخلال هذه الفترة لم يتناولوا شيئاً من الطعام أو الماء رغم هذا استيقظوا سالمين، مع أنَّ الإنسان العادي لا يستطيع العيش لأكثر من يومين أو ثلاثة دون أكل وشرب.

من عجائب خلق الإنسان هو قلبه، فان ضرباته تصل إلى مأة الف ضربة في اليوم. وإذا


1. لمعرفة المزيد في مجال المعاد الجسماني راجع نفحات القرآن 5:272 فما بعدها.

[ 158 ]

اعتبرنا عمر الإنسان العادي سبعين عاماً، فإنَّ عدد ضربات قلبه ستصل إلى 250 مليون ضربة (عَجَباً لِحِكْمَةِ اللهِ)!

إنَّ قلب الإنسان كاف لأجل معرفة الله ولأن يقرّ الإنسان بعظمة الخالق ويخضع له ... وعليه، فاذا كانت أجسام أصحاب الكهف تعيش بالأغذية التي تناولتها قبل النوم ولمدة مليون يوماً، فإنَّ على قلوبهم أن لا تدق في اليوم الواحد أكثر من مرّة واحدة. وعلى هذا، فإنَّ أصحاب الكهف كانوا أشبه ما يكونون بالموتى، أحياهم الله بعد أكثر من ثلاث مأة عام. واذا كان الله قادراً على أن يوقظ أناساً بعد مليون يوم من النوم، فكيف لا يمكنه أن يُحيي الموتى!

لهذا يصرّح الله في ذيل آية أصحاب الكهف بالحديث التالي: ( وَلِيَعْلَمُوا أنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ) .

 

الشرح والتفسير

إنّ الآية إحدى الآيات الثلاث التي شبهت المعاد بإحياء النباتات ( هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ... ) أي أنَّ الله يُرْسِله كبشرى لنزول الغيث; وذلك لأن السماء تتهيّأ للمطر بواسطة الرياح.

( حتَّى إذَا أقَلّتْ سَحَاباً ثِقَالا... ) أي تستمر الرياح حتى تجتمع الغيوم ويتراكم فيها الماء.(1)

إنّ الله يُرسل الرياح ليجمع بها الغيوم الممطرة في المدن والبلاد الميتة فيحييها ويحيي أراضيها.

( فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ... ) فإنَّ المَطر هو الذي يثمر الاشجار ويمنحها القدرة على انتاج الفواكه.

( كَذَلك نُخْرِجُ المَوْتَى لَعلَّكُم تَذكَّرُون ) أي أنَّ الله يحيي الموتى يوم القيامة مثلما يحيي الأشجار والاراضي الميتة. وفي نهاية الآية يعتبر الله التذكّر وتوعية الناس هو فلسفة المثل.


1. لقد كشف القرآن المجيد قبل 1400 عن هذا السر العلمي، وبيّن أنّ الغيوم على قسمين: ممطرة وغير ممطرة، والممطرة أثقل من غير الممطرة.

[ 159 ]

فواكه مختلفة من ماء وهواء وتراب واحد

كما قلنا سابقاً: إنَّ التعود من حجب المعرفة الإنسانية، فالإنسان عندما يتعوّد على شيء سوف لا يفكر في ماهيته وسبر غوره، وهذا حجاب عظيم. ومن هنا كان إنبات النباتات المتنوعة وإثمار الاشجار المتنوّعة من عجائب الطبيعة. فإنَّ هذا من مظاهر قدرة الله تعالى حيث تنبت من تراب وماء وهواء واحد ثمار وزهور متنوّعة بألوان مختلفة وطعم متفاوت. وهذا يدعو الإنسان أن لا يتعجّب من إحياء الإنسان يوم القيامة.

لقد خلق من هذه الارض الواحدة أصناف عديدة من البشر منهم الصالحون والأنبياء والائمّة والشهداء، ومنهم الفجرة والوضيعون مثل الفراعنة والنماردة ومعاوية وصدام و... فكل هؤلاء مبعوثون من هذه الأرض الواحدة. إنَّ الإنسان من خلال مشاهدته لهذه الظواهر يرى لقطات من المعاد وتتكرّر عنده هذه اللقطات كل يوم إلى حين الممات. والعجيب أنَّ السماء تمطر في يوم البعث، وذلك المطر يحيي من في القبور جميعاً.(1)

القانون الكلي الذي يستفاد من الآية الشريفة هو أنَّ مبادىء الموت والحياة واحدة في جميع المخلوقات الحية، فكما أنَّ هناك حياة بعد ممات في النباتات كذلك بالنسبة إلى الإنسان.

سؤال: في عالم النبات نتمكن من إعادة حياة نبات ما من خلال زرع بذوره، اما في عالم الإنسان فالأمر يختلف من حيث انه إذا مات يتبدل إلى تراب، فكيف يمكن إعادته من تراب؟

الجواب: إنّ الحياة الثانية للنبات ليست من خلال البذور دائماً،بل قد تكون حياة وموت النبات شبيهة بحياة الإنسان وموته، فقد تصفرّ أوراق الاشجار في الخريف وتسقط، وبعد مدة تصبح تراباً تمتصها جذور الشجرة لترجع ورقة من جديد وهذا ما يحصل في الربيع، وبهذا تحيى الورقة الميتة مرة أخرى رغم أنّها ماتت بالكامل وتبدلت إلى تراب، فالانسان كذلك يموت بالكامل ويُبعث مرة أُخرى.

وعلى هذا، فالإنسان يرى - كل عام - المعاد بعينه، لكنه يغفل عن أنَّ الله القادر على إحياء النبات بعد موته قادر على إحياء الإنسان الميت.


1. بحار الانوار 6: 329، الحديث 13 وكذا 7: 39.

[ 160 ]

آثار المعاد

إنّ الاعتقاد بالمعاد يعلّم الإنسان الخضوع والتسليم إلى الحق، وأنْ لا يظلم ولا يخون، وهذا ما نراه منعكساً في كلام جميل لمولى المتقين الإمام علي(عليه السلام) في الخطبة 224 من نهج البلاغة يخاطب به أخاه عقيل: «والله لأنْ أبيت على حسك السّعدان(1) مسهداً، أو أجرَّ في الأغلال مصفّداً، أحب إلىَّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد».

أي أنَّ المبيت على أشواك نبات السعدان أو الجرّ بالأغلال والسلاسل في النهار أحبُّ لعلي من أن يلاقي الله ورسوله يوم القيامة وهو ظالم لبعض عباد الله.

هل من المحتمل صدور ظلم من هكذا زعيم عارف بالمبدأ والمعاد ومتيقن بهما؟! هل يحتمل صدور تمييز من حاكم كهذا؟ هل يقبل أو يتحمّل هكذا رئيس أقل خطأ من حواشيه؟ !

قطعاً جواب هذه الأسئلة هو النفي، فإنَّ إنساناً كهذا يعتقد بيوم القيامة والمعاد يعظّم الذنب ولو كان صغيراً، فلا يرتكبه .

وينقل من خلال الخطبة ذاتها قصتين ذات عبرة عن أخيه عقيل و المنافق الأشعث بن قيس، وفي القصتين آثار الاعتقاد بالمعاد واضحة وجلية.(2)


1. أشواك السعدان عجيبة جداً من حيث انها تشبه الخنجر في استحكامها وحدتها، وهي تجرح البدن أينما اصابته.

2. أشرنا إلى القصتين في المباحث الماضية.

[ 161 ]

 

 

 

 

المثل الخامس عشر: البلد الطيّب

 

يقول الله في مثله الخامس العشر، في الآية 58 من سورة الاعراف:

( وَالبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بإذْنِ رَبِّهِ وَالّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إلاَّ نَكِداً كَذَلك نُصَرِّفُ الآياتِ لِقَوْم يَشْكُرُونَ ) .

 

تصوير البحث

إنَّ هَذه الآية الشريفة التي جاءت مباشرة بعد المثل الرابع عشر هي في الواقع استمرار لبحث المعاد وجواب عن سؤال مقدّر قد تتداعى معانيه في أذهان البعض، وسنأتي به في الصفحات المقبلة.

 

إشارة للمثل السابق

في المثل الرابع عشر (الآية 57 من سورة الاعراف) جاء القرآن في بيان جميل ببرهان على المبدأ وأصل التوحيد، كما استدل على المعاد وعالم الاخرة.

إنّ حركة الرياح واجتماع الغيوم الثقيلة ونزول المطر وإحياء الأرض بعد مماتها، وتوفّر الثمار المتنوّعة والأزهار والنباتات والاشجار المختلفة كلها أدلة قاطعة على التوحيد، وهي أدلة لو لم يكن غيرها لكانت كافية في إثبات المراد.

مِمَّا لا شك فيه أنَّ آثار موت تبدو على البستان كله بحلول فصل الشتاء بحيث تصبح

[ 162 ]

الاشجار وكأنها مهمومة وجرداء من الروح، لكن بعد فترة من الزمن أي بعد حلول فصل الربيع تبدأ الحياة الجديدة تنبض في البستان، فتخضرّ الاشجار و تتفتح الزهور وتنمو النباتات المختلفة وتثمر الاشجار فواكه حامضة وحلوة بألوان متنوّعة بحيث تضفي طراوة على روح الإنسان.

هذه الطبيعة المدهشة دليل قاطع على وجود الله القادر المطلق، واذا ما فكّر الإنسان بورقة خضراء فقط لكان ذلك كافياً لمعرفة الحق.

إنَّ هذه الورقة - كما يقول العلماء - إذا قصت من العرض فيبدو فيها سبع طبقات، كل طبقة منها تحضى ببناء خاص ومهام خاصة، إذا دققنا قليلا نجد خطوطاً رَفِيعة على هذه الورقة الظريفة وكأنها تشبه تأسيسات الماء في مدينة، وهي تتكفل بايصال الأغذية والماء إلى الاقسام المختلفة من الورقة. مَن الذي خلق هذه الطبقات الظريفة والجميلة؟! يا له من خالق حكيم صمَّم هذه الشبكة العظيمة والدقيقة. إنَّ الورقة وما فيها يُعدُّ كتاباً لمعرفة الخالق لمن كان أهلا للعلم المعرفة.

إذن، صدر الآية يدل على التوحيد، أما ذيلها ( كَذِلك نُخْرِجُ المَوْتَى ) فيدل على مسألة المعاد ويرشدنا إليها.

 

الشرح والتفسير

كما قلنا سابقاً: إنّ الآية الشريفة جواب لسؤال مقدّر يمكن أن يتداعى في ذهن الذي يلتفت إلى الآية السابقة، وهو: إذا كان الماء واحداً والهواء واحداً والتراب واحداً فلماذا تنبت الزهور والنباتات في بعض البقاع، وتنبت الأدغال والأشواك في البعض الآخر؟ وإذا كان وابل الرحمة الإلهية يصبُّ على القلوب جميعاً بشكل متساو، فكيف أنَّ بعض القلوب تهتدي وتكون مصداقاً للبلد الطيّب وبعضها الآخر يكون مصداقاً للبلد الخبيث; لأنها ظلّت ولم تهتدِ؟

إنّ الآية في صدد الأجابة على هذا السؤال، حيث تقول: ( وَالبَلَدُ الطَّيِّبَ يَخرُجُ نَبَاتُهُ بإذنِ رَبِّهِ ) فإنَّ التربة الطاهرة وغير المالحة تكون مناسبة ولائقة وتُخرج باذن الله نباتات مناسبة وجيّدة، كذلك القلوب المستعدة والطاهرة ينمو فيها الثمار الحلو من الاخلاص والصفاء، ذلك كله بوحي من الله.

[ 163 ]

( والَّذي خَبُثَ لا يَخْرِجُ إلاَّ نَكِداً ) فإنَّ الأرض غير المناسبة لا تنبت إلاّ النكد. والنكد يعني الإنسان البخيل، ويُطلق على النباتات غير المفيدة التي تنمو في الأراضي المالحة. فكما أنَّ البخيل لا يصل نفعه إلى غيره، كذلك الأراضي المالحة لا يخرج منها الشيء المفيد ولا ينتفع بها أحد.

( كَذَلك نُصَرِّفُ الآياتِ لِقَوْم يَشْكُرُونَ ) أي أنا نبيّن آيات الله للناس بعبارات وأمثله بسيطة ليستفيدوا منها ويشكروا ربّهم عليها. وعلى هذا، فلا اشكال على وابل الرحمة الإلهيّة ولا على الوحي السماوي; وذلك لأنَّ هذين الرحمتين تنزلان على القلوب كلها بشكل متساو، واذا كان هناك قصور أو تقصير فمن نفس القلوب والأراضي ذاتها، فإنَّ بعض الأراضي غير مستعدة وغير مؤهّلة لنمّو النباتات فتنمو فيها الأشواك والأدغال فحسب، كذلك بعض القلوب فإنَّها غير مؤهلة للهداية وترى نفسها في غنى عن الوحي الإلهي.

لِمَن هذا المثل؟

هناك بحث في هذا المجال بين المفسرين، فالكثير منهم يعتقد أنَّ الآية جاءت في الكفار والمؤمنين، أي شُبِّه الوحي الإلهي هنا بالغيث، باعتباره ينزل على جميع القلوب، لكن لا يفيد منه إلاّ ذلك البعض الذي يكون مصداقاً للبلد الطيّب، أي يحضى بقلب طاهر، وتكون ثمار هذه الاراضي الطاهرة هي الاخلاق الحسنة والايمان القوي والشوق إلى أولياء الله، والاخلاص في العمل، والعمل بما تستدعيه الوظيفة و... وفي مقابل هؤلاء هم الكفّار الذين قلوبهم تشبه الأراضي الملوّثة التي لا تستفيد من المطر شيئاً.

 

خطابات الآية

1- فاعلية الفاعل وقابلية القابل كلاهما ضروريان

إنَّ الآية الشريفة وكذا آيات أخرى تشير إلى مطلب مهم، وهو: ضرورة توافر شيئين لبلوغ الكمال:

الف - فاعلية الفاعل.

باء - قابلية القابل.

[ 164 ]

لأجل بلوغ الكمال والرقي ينبغي توافر العوامل كما ينبغي توفير الأرضية. وعلى هذا، ففاعلية الفاعل (الغيث) ليس كافياً، بل ينبغي أنْ يَكُون القابل قابلا (استعداد الأرض وشأنها) فإنَّ المطر لو هطل مدة مأة عام على الأرض المالحة لما أنبتت هذه الأرض ولا زهرة واحدة.

إنَّ الرسول(صلى الله عليه وآله) كما دعى سلمان وأبا ذر والمسلمين الآخرين للإسلام كذلك دعى أبا جهل وأبا لهب وباقي الكفار، فالقلب الطاهر لسلمان أنبت الإيمان، لكنّ الدعوة لم تنبت في قلوب أبي جهل وأبي لهب إلاَّ البخل والبغض.

 

2 - مردودات القرآن والوحي على الكافر عكسية

آيات القرآن في بعض الأحيان لا أنها لا تكون هادية فحسب، بل قد تكون ضالة لأولئك الذين ساءت طينتهم من الكفار، فإنّهم بسماعهم للآيات يزدادون ضلالة.

إنّ هذا الأمر بيّنته آيات من القرآن، منها الآية 124 و 125 من سورة التوبة: ( وإذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَنْ يَقُولُ أيُّكُم زَادَتْهُ هذِهِ إيمَاناً فأمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فزَادَتْهُم إيْمَاناً وَهُم يَسْتَبْشِرُونَ وأمَّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُم رِجْسًاً إلى رِجْسِهِم وَمَاتُوا وَهُم كَافِرُونَ ) .

سؤال: كيف يمكن للآيات القرآنية المنيرة أن تكون سبباً لضلال البعض؟

الجواب: أنّ القرآن المجيد بمثابة المصباح الذي اذا وقع بيد أحد العلماء أفاد منه لأجل العلم والاكتشاف والاختراع والتقدّم، وهو بذاته اذا وقع بيد لصّ أفاد منه لأجل سرقة أشياء ثمينة، وبذلك تزداد ذنوبه وآثامه.

الإشكال هنا ليس من المصباح ذاته، بل من قابلية القابل، كذا الحال بالنسبة للغيث حيث إنتاجه يتوقف على نوعية الأرض، فاذا كانت جيدة نبتت فيها الزهور والنباتات الصالحة واذا كانت مالحة وغير مؤهلة نبت فيها الأدغال والأشواك.

( فَزَادَتْهُم رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ ) فإنَّ الآية اذا نزلت فزعوا للمخالفة والعناد والعداوة، لذلك لا عجب إذا قلنا: إنَّ آيات القرآن قد تسبب للضالين ضلالة أكثر.

 

[ 165 ]

الناس ثلاثة أصناف

لإِيضاح هذا المطلب (الذي يتناول قابليات الناس المختلفة) نأتي بكلام لأمير المؤمنين (عليه السلام)مخاطباً فيه كميل بن زياد بعد ما دعاه إلى المقبرة، وعند بلوغهما الصحراء قال الإمام له بعد أن تأوّه: «يا كميل بن زياد إنّ هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها».

وكمثال نقول:

إنَّ الناس يختلفون في إفادتهم من المطر، واحد منهم يفيد من المطر بمقدار بحيرة ماء، وذلك لسعة ظرفيته والآخر يفيد منه بمقدار كأس صغير، وذلك لأنه لا يستوعب أكثر من ذلك. وقد يكون هناك شخص لا يفيد من المطر أبداً، لأنه قد قلب إناءه على ظهره. والمثال يوضح أنَّ الإشكال ليس من جانب الله بل من جانب الأوعية التي تُهيّئ للافادة من ماء المطر.. ثمّ يخاطب الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) كميل قائلا: «فاحفظ عنّي ما أقول لك النّاس ثلاثة: فعالم ربّاني ومتعلم على سبيل نجاة وهمجٌ رُعاعٌ» أي أنَّ الناس ثلاثة أصناف:

1 - الصنف الأول هو صنف العلماء الذين طووا طريق الحق والحقيقة ويسعون لارشاد الناس وتربيتهم.

2 - والثاني هم الذين يفقدون العلم لكنهم يسعون في سبيل تحصيله العلم وكسب المعرفة.

3 - والثالث هم الحمقى من الناس الذين لا يعلمون ولا يسعون لأن يعلموا ولا يسألون أهل الطريق لإرشادهم إليه.

يوضح الإمام خصال الصنف الثالث في أربع:

الف - أتباع كلّ ناعق، أي يتّبعون أصحاب الرايات المختلفة دون علم وبصيرة.

باء - يميلون مع كلّ ريح، فهم كالريح تهزّهم الدعوات المختلفة وتميلهم إلى جنبها، ومثلهم كمثل الذين قاتلوا تحت راية الرسول في عصره، وقاتلوا تحت راية معاوية بعد وفاته، ولو كان الأجل يسمح لهم لقاتلوا تحت راية يزيد كذلك; وذلك كله لأجل أن الريح آنذاك كان بهذا الاتجاه.

جيم - لم يستضيئوا بنور العلم، فهم المستضعفون المحرومون من العلم.

دال - لم يلجؤوا إلى رُكن وثيق، أي لا أنهم يفقدون العلم فحسب، بل لا يعتمدون على أعمدته المحكمة.(1)


1. نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 147.

[ 166 ]

إنَّ الصنف الثالث وهم ذووا الأوعية الصغيرة أشخاص خطرون، كما أنَّهم مصداق للآية الشريفة ( والَّذي خَبُثَ )، إلاّ أنَّ الصنف الأوّل والثاني مصاديق للآية الشريفة: ( البَلَدُ الطيَّبُ ) .

 

الفاعلية اكتسابية أم جبرية؟

قابلية القابل - التي هي شرط الكمال - اكتسابيه أم جبرية؟ وبعبارة أخرى: هل أنّ الله خلق بعضاً بقابلية ضخمة وخلق آخرين مع قابلية ضعيفة؟ إنّ قابلية القابل اكتسابية لا جبريّة; وذلك لأنّ القول بجبريتها يعني عدم ترتب الذنب على الشخص الذي ينبت قلبه الرياء بدل الاخلاص، وما عليه من عقاب، كما أنّه لا فائدة في بعثة الأنبياء.

من هنا نقول: إن الإنسان كلّما سعى لكسب التقوى والمعرفة الإلهية أكثر، كلّما استعدّ قلبه أكثر لقبول الوحي الإلهي والآيات القرآنية.

إنّ القرآن يُوكّد على كون الإنسان مخلوقاً بأفضل شكل وصورة ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أحْسَن تَقْوِيم )،(1) ووفقاً لهذه الآية فانه لا فرق في خلق الناس، والهداية والضلالة يتوقفان على الإنسان ذاته. وحتى الشيطان لم يُخلق خبيثاً، ولذلك كان في صفوف الملائكة وعبد الله ستة آلاف عاماً.(2)

نعم، انَّ الناس يختلفون عن بعضهم البعض، ليس بمعنى أنَّ بعضهم خلق حسناً وبعضهم الآخر خلق سيئاً، بل في أن بعضهم خلق حسناً وبعضهم الآخر أحسن، لذلك قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «الناس معادن كمعان الذهب والفضة».(3)

في النتيجة لم يخلق إنسان شقياً أو خبيثاً، وقابلية القابل اكتسابية لا جبرية. إنَّ المطر يهطل شفافاً وزلالا لكنّه يتسخ عندما يلتقي بالأرض الوسخة، لكنه يبقى نظيفاً عندما يقع على الأرضي النظيفة، فيبقى على فطرته وطهارته.


1. سورة التين الآية 4.

2. ميزان الحكمة، الباب 2005، الحديث 9365.

3. بحار الأنوار 58: 65.

[ 167 ]

إنّ البيئة الموبوئة والكتب المنحرفة والمفاهيم الفاسدة والأصدقاء السيئين والعائلة غير السليمة هذه كلها بمثابة الأرض الملوّثة، تلوّث قلب الإنسان الطاهر وفطرته النقية.

أيُّها الشباب الاعزة! يا أمل الإسلام والثورة والوطن!

إن الله خلقكم كقطرة المطر الشفافة الطاهرة، إسعوا للحفاظ على هذه الطهارة، واحذروا معاشرة صديق السوء، لأن هذا الصديق قد يغيّر مستقبل الإنسان بالكامل.

من وجهة نظر الإسلام، ليس أداء الذنب لوحده معصية، بل الحضور في مجلس يرتكب فيه الذنب يُعدُّ محرماً ومعصية. أي إذا حضر الإنسان في مجلس يُعصى فيه الله فإنَّ حضوره في هذا المجلس يُعدُّ معصية كذلك، رغم أنّه لم يفعل الذنب الذي اقترف في المجلس، وذلك لأنَّ المحيط الملوّث يؤدي إلى التلوث تدريجياً، ويفقد الذنب آنذاك قبحه تدريجياً الأمر الذي قد يؤدي إلى اقتراف الذنب في المستقبل. إنَّ المتعاطين للمخدرات تعاطوها بهذا الشكل وبهذا الاسلوب.

وعلى هذا، ينبغي السعي لأجل الحفاظ على نقاء الباطن، وتهيئة أرض القلب وإعدادها للافادة من وابل الرحمة اقصى إفادة.

[ 168 ]

[ 169 ]

 

 

 

 

المثل السادس عشر: العالم المنحرف

 

يقول الله تعالى في الآيات 175 و 176 و 177 من سورة الأعراف في مثله السادس عشر:

( واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ الَّذي آتَيْنَاهُ آياتِنَا فانْسَلَخَ مِنْهَا فأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلكنَّهُ أخْلَدَ إلى الأرْضِ واتَّبَع هويَهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَث أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَلك مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بآيَاتِنَا فاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ ) .

 

تصوير البحث

الحديث في الآيات الثلاث عن العالم الذي كان في الطريق الصواب والصحيح وبلغ في هذا الطريق مقامات رفيعة، إلاّ أنّه تدريجياً انحرف وطُرد من الساحة الربانية، فيشبّه الله هذا العالم بالكلب ليعتبر الآخرين منه.

 

شأن نزول الآية

هناك بحث وخلاف بين المفسرين حول المراد من هذا العالم الذي تحدثت عنه الآية. وأكثر المفسرين يعتقد أنَّه (بلعم بن باعورا) فهو من علماء بني اسرائيل وقد نال بعبادته مقامات عليا إلى مستوى انه حصل على اسم الله الأعظم، وأصبح مستجاب الدعوة. وعندما بعث موسى (على نبينا وآله وعليه السلام) نبيّاً ونال هذا المقام الشامخ، كانت بعثته قد اثارت حسد بلعم،

[ 170 ]

وقد كان الحسد يزداد كل يوم، ويأكل حسناته شيئاً فشيئاً، كما أنَّ هذا الحسد من جهة، وحب الدنيا من جهة اخرى بلغا به إلى مستوى أن لجأ إلى فرعون وبلاطه ليصبح من وعّاظ السلاطين. ففقد بذلك كل افتخاراته وكانت عاقبته السوء. فبيّن القرآن قصة هذا العالم المنحرف ليكون عبرة للآخرين.

يعتقد مفسرون آخرون أنَّ العالم في الآيات هو (أمية بن الصلت) فهو من الشعراء المعروفين في عهد الجاهلية، أسلم في البداية، لكنه بعد ذلك شاكس وخالف; حسداً للرسول ومقام نبوّته.

ويعتقد مفسرون آخرون أنَّ العالم هنا هو (أبو عامر النصراني) فقد كان راهباً مسيحياً أسلم ثم التحق بركب المنافقين، ثم سافر إلى الروم للتحالف مع سلطانه، ثمّ رجع إلى المدينة والتحقق بدينه بعض المنافقين، وبنى مسجد (ضرار) المعروف.

إنَّ القول الأوّل هو أصح الثلاثة، والآخران مستبعدان من حيث أنَّ صدر الآية ( واتْلُ عَلَيْهِم نَبَأ الّذي... ) قرينة على حكاية قصة تتعلق بالأقوام السالفة.(1)

 

الشرح والتفسير

( واتْلُ عَلَيْهِم نَبَأ الَّذي آتَينَاهُ آياتِنَا ) يطلب الله من الرسول أن يحكي للأصحاب قصة ذاك العالم.

المراد من الآيات هو أحكام التوراة ومواعظها، فإنَّ هذا العالم كان عالماً باحكام التوراة ومواعظها، كما كان عاملا بها. ويعتقد البعض أنَّ المراد من الآيات هو الاسم الأعظم، ولهذا كان بلعم بن باعورا مستجاب الدعوة وكان صاحب نفوذ وجاه رفيع في المجتمع.

( فانْسَلَخَ مِنْهَا فأتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِيْنَ » إنَّ مادة السلخ تعني نزع جلد الحيوان، ولذلك قيل لمن ينزع جلد الخروف سلاّخاً. إلاّ أنَّ كلمة (فاتبعه) لها معنيان:


1. مما لا شك فيه أنّ الآية تعني كل شخص يحمل نفس المواصفات المذكورة في الآية، وشأنها شأن باقي الآيات حيث نزلت في مورد خاص لكن شأنها يعم... وبخاصة بالنسبة للآيات هذه فإنَّ هناك حديثاً للإمام يقول فيه: ((إنَّ الآية تعم جميع أهل القبلة)). للمزيد راجع الأمثل ج5 ذيل الآية 175.

[ 171 ]

الف - تعني تبع ولحق، أي أنَّ الشيطان جعل العالم تبعاً له.

باء - أنَّ الفعل استخدم هنا بمعناه لو كان ثلاثياً مجرداً بحيث يكون المعنى أنّ الشيطان اتّبع هذا العالم، بعبارة اخرى: أنّه سبق الشيطان في الضلالة، وتجاوزه مهارة في هذا المجال. مثله مثل ذلك الشخص الذي كان يفعل عملا قبيحاً جداً بطريقة جديدة وكان يلعن الشيطان دائماً على فعله هذا، فظهر له الشيطان وقال: اللعن عليك لا عليَّ، لأني رغم مهارتي في الشيطنة ما كنت أعلم بهذه الطريقة، بل انت الذي علمتني إياها.

وعلى هذا، فالآية تعني أنّ بلعم بن باعورا خُلِّي من آيات الله، وانسلخت هذه الآيات عنه رغم أنَّه كان يحيط بها جميعاً، لكنها انسلخت واتّبع الشيطان، أو أنَّ الشيطان اتّبعه، وكانت عاقبته الشر والشقاء فكان في عداد الاشقياء والضالين.

( وَلَو شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أخْلَدَ إلَى الأرْضِ واتّبَعَ هَوَاهُ ) أي أنا لو أردنا إجباره على البقاء على الحق لفعلنا لكنّا تركناه لنرى ما يفعل باختياره وإرادته، وذلك لأنَّ في الإسلام الاختيار لا الاجبار، ( إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِرًاً وإمَّا كَفُورَاً )(1) فالله يستطيع أن يجعل جميع الاعمال من قبيل الحج والصوم والصلاة جزءاً من غرائز الإنسان، كما جعل الأكل والشرب، لكنّه لم يفعل ذلك، بل خلق الإنسان حراً ومختاراً ليكون هناك هداية وتكامل وتقدّم واختبار وثواب وعقاب و... ولكي لا تفقد هذه المفاهيم معانيها.

وفي النهاية يكون معنى الآية هو: أنّا تركنا بلعم بن باعورا إلى نفسه، إلاّ أنَّ هذا العالم المنحرف - الذي سبق وأن كان مبلغاً قوياً لموسى(عليه السلام) - تبع الهوى والهوس حباً للدنيا وحسداً من موسى(عليه السلام) وانجذاباً بوعود فرعون، وكان عاقبته الطرد من الساحة الربانية. وعلى هذا، فإنَّ شيئين كانا سبباً لسقوط بلعم بن باعورا هما: أوّلا: حبّ الدنيا والميل إلى فرعون. وثانياً: الهوى واتباع الشيطان.

( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِل عَلَيْهِ يَلْهَثْ أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ )، إنَّ الكلاب عادة ذات منفعة متعارفة يفيد منها الإنسان ولذلك يصح اجراء معاملة عليها في الفقه الإسلامي، إلاّ أنَّ بعض


1. الإنسان: 3.

[ 172 ]

الكلاب تكون مسعورة دائماً إثر ابتلائها بداء الكَلَب، وهو مرض يجعلها تلهث دائماً وتصيح، وتفرز سماً، وإذا عضت الإنسان يمكن أن تؤدي هذه العضة إلى موته أو ابتلاءه بالجنون. والكلاب تُعد حينئذ فاقدة للقيمة لا تُجرى معاملة عليها; لأنَّها تفقد الفائدة اضافة إلى ما فيها من مضايقة للآخرين. علائم هذا المرض في الكلاب هو أنَّها تفتح فمها وتحرك لسانها دائماً; وذلك لتخفِّف من الحرارة الداخلية التي تشعر بها، وحركة اللسان عندها بمثابة المروحة التي تدفع بالهواء لتبرّد الجسم. ومن علائمه أيضاً العطش الدائم... وعلى كل حال يكون هذا الكلب مهاجماً.

والقرآن بمثله الجميل هذا يشبِّه العالم المنحرف بالكلب الذي يفقد القيمة ويحمل أخطاراً كثيرة... فحب الدنيا والهوى والهوس يُحرف العالم ويفقده البصر والبصيرة بحيث يصبح لا يميز صديقه عن عدوّه.

( ذَلك مَثَلُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )(1) أي أنَّ هذا مثل المجتمعات التي كذّبت بآيات الله فاقصص - أيها النبيّ - على الناس وبخاصة اليهود والنصارى هذه القصص ليعتبروا منها، ولكي يعلموا أنَّهم إذا كذّبوا بايات الله فإنَّ مصيرهم سيكون كمصير بلعم بن باعورا.

 

خطابات الآية

خطر العلماء المنحرفين

لقد سقط بلعم بن باعورا من مقامه الرفيع من جراء حبه للدنيا وتبعيته للشيطان، وقد كان سقوطه بدرجه أن شبّهه القرآن بالكلب المتوحش الذي لا يرحم شخصاً وكأنّه مجنون. إنّ حب الدنيا والهوى والتبعية للشيطان أجنّت عالماً كان قد حصل على الاسم الأعظم، وكان جنونه بشكل يبدو عطشاناً للدنيا دائماً ولا يبدو مرتوياً منها أبداً، إنَّ عالماً مثل هذا يحمل معه


1. إنّ هذا الجزء من الآية يدل على حكايتها للعصور السالفة لا عصر النبيّ، لذا كانت الآية تدل على بلعم بن باعورا لا غيره.

[ 173 ]

أخطاراً جمّة نشير إلى بعض منها هنا:

الف - أنَّ عالماً كهذا يكون في خدمة الظلمة، كما هو الحال بالنسبة إلى وعّاظ السلاطين الذين كانوا في خدمة أهل الجور من الحكام والملوك. ومن الواضح أنَّ خطر علماء كهذا لا يقل عن خطر الظلمة ذاتهم.

أراد سلطان في العصور الماضية أن ينفذ مشروعاً خاصاً، فطلب أحد علماء البلاد يسأله عن رأي الشارع في المشروع، فأجابه العالم: (إن رأي الشارع متسع، والأمر يتوقف على إرادة السلطان) أي يمكنه أن يجعل مخرجاً شرعياً لكل ما يريد السلطان.

نعم، انَّ علماء كهذا يمكنهم أن يبرروا ظلم السلاطين الظلمة!

هؤلاء هم الذين يحكّمون أسس الظلم، ويصرفون الناس عن أي رد فعل تجاه الظلم. إن علماء كهؤلاء، استطاعوا فترة حكومة بني امية وبني العباس أن يزوّروا أحاديث الرسول(صلى الله عليه وآله)والأئمة(عليهم السلام) ويمتدحوا في بعضها سلاطين ظلمة من سلسلة بني العباس وبني امية!

باء - أنّ علماء كهذا يمكنهم أن يزلزوا الأسس الاعتقادية للناس; فإنَّ الناس العوام، عندما يشاهدون عالماً غير عامل، يتزلزل اعتقادهم في الدين، بل قد يترددون في حقائق من قبيل الجنة والنار ويوم الحساب والقيامة فيقولون لأنفسهم: (إذا كانت هناك قيامة فالآمرين بالدين والتدين أولى بأن يعملوا لذلك اليوم).

وعلى هذا، فالسلاطين إذا أظلموا على الناس دنياهم، فالعلماء المنحرفون يُظلمون على الناس أُخراهم.

جيم - العالم المنحرف يجرُّ الناس نحو الذنب. إنَّ الدول المخالفة للإسلام أسسوا في القرن الأخير - لأجل مواجهة الإسلام - فرقة ضالة، ولأجل تقوية هذه الفرقة ربُّوا في أحضانهم عالماً منحرفاً استطاع تأليف كتاب أيّد فيه الفرقة واستفاد في تأييده للفرقة من الآيات، وكان كتابه بدرجة من الضلالة بحيث عدّت خدمته للفرقة أكثر من خدمة مؤسسها لها.

من هنا على متعلمي المعارف الإلهية أن يعلموا أن سبب هكذا انحراف هو عدم الإخلاص، فإنَّ بعض الطلاب يبغي العلوم لا لوجه الله تعالى بل لأغراض دنيوية مثل الهوى والهوس وحب الدنيا، وبهذه الأغراض تتهدم آخرته لتصبح جحيماً.

[ 174 ]

الإنسان مهما بلغ من مقام، عليه أن لا يرى نفسه في أمان من وساوس الشيطان، فإنَّ هذا الاحساس هو بداية الانحراف والسقوط، بل على الإنسان أن يكون دائماً بين الخوف والرجاء، الخوف من الهوى والهوس والوساوس الشيطانية، والرجاء والأمل برحمة الله ولطفه، فهو أرحم الراحمين.

 

عالم الدين من وجهة نظر الإمام الحسن العسكري(عليه السلام)

ينقل الفقيه الشيخ الأعظم الأنصاري - رضوان الله عليه - في كتابه القيّم (فرائد الأصول) حديثاً جميلا من التفسير الجليل المنسوب للإمام الحسن العسكري(عليه السلام) نأتي به هنا:

(ومثل ما في الاحتجاج عن تفسير العسكري(عليه السلام) في قوله تعالى: ( وِمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكِتَابَ... ) الآية من أنَّه قال رجل للصادق(عليه السلام): فاذا كان هؤلاء القوم من اليهود والنصارى لا يعرفون الكتاب إلاّ بما يسمعون، ومن علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره فكيف ذمهم بتقليدهم والقبول من علمائهم، وهل عوام اليهود إلاّ كعوامنا يقلدون علمائهم؟ فإنْ لم يجز لأولئك القبول من علمائهم لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم.

فقال(عليه السلام):«بين عوامنا وعلمائنا وبين عوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة. أمّا من حيث استووا فإنَّ الله تعالى ذمَّ عوامنا بتقليدهم علمائهم كما ذمّ عوامهم بتقليدهم علمائهم. واما من حيث افترقوا فلا».

قال: بيّن لي يا بن رسول الله!

قال: «إن عوام اليهود قد عرفوا علمائهم بالكذب الصريح وبأكل الحرام والرشاء وتغيير الاحكام عن وجهها... فلذلك ذمّهم لما قلدوا من عرفوا ومن علموا أنه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه ولا العمل بها بما يؤديه إليهم عمّن لا يشاهدوه. ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول الله(صلى الله عليه وآله)... وكذلك عوام امتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر والعصبية الشديدة... فمن قلّد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمهم الله تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم، فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً على هواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم. فأمّا من

[ 175 ]

ركب من القبائح... وآخرون يتعمدون الكذب علينا... فضلوا أو أضلوا اولئك أضرّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد (لعنة الله عليه) على الحسين بن علي(عليه السلام)».(1)

سؤال: لماذا كان العلماء المنحرفون أسوأ حالا من جنود يزيد؟

الجواب: إنَّ جند يزيد أعلنوا بصراحة عدائهم، إلاَّ أنَّ علماء السوء بمثابة الذئاب الذين تقمصوا قمصان الرعاة وهم يكيدون بالدين باسم الدين. وواضح أنَّ خطر هؤلاء أشدّ من خطر من أعلن عدائه بصراحة.

إنَّ ما يفتخر به الشيعة هو أنّهم خلال العصور الماضية كانوا تبعاً للمراجع والعلماء الذين اجتمعت فيهم شرائط الزعامة حسب ما أراده الأئمّة(عليهم السلام)، وأنَّهم كانوا ولا زالوا تحت مضلّة وألطاف هؤلاء العظماء.

ولا شكّ أن تقليد علماء زهّاد ذوي بصيرة لا أنّه غير مذموم فحسب بل واجب حسب ما نستشفه من آيات القرآن وروايات أهل البيت(عليهم السلام).


1. فرائد الاصول: 58، طبعة المجلد الواحد، رغم أنَّ هناك بحثاً في سند الرواية، لكنها - كما قال الشيخ الأعظم - من حيث النص بدرجة من الاستحكام والجمال حيث تجعلنا نطمئن بمصدرها، كما هو الحال بالنسبة لمضمون نهج البلاغة والصحيفة السجادية، فان مضامينها تكشف عن صحة مصادرها.

[ 176 ]

[ 177 ]

 

 

 

 

المثل السابع عشر: مسجد ضرار

 

يقول الله تعالى في الآيات (107 - 109) من سورة التوبة:

( والّذِيْنَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَارَاً وَكُفْراً وَتَفْرِيْقاً بَيْنَ المُؤمِنِينَ وإرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحلِفُنَّ إنْ أرَدْنَا إلاَّ الحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لاَ تَقُمْ فيه أبَدَاً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلى التَّقْوَى مِنْ أوّلِ يَوْم أحَقَُّ أنْ تَقُومَ فيهِ فيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ أفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَه على تَقَوى مِنَ اللهِ ورِضْوَان خَيْرٌ أمْ مَنْ أسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُف هَار فانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ واللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ ) .

 

تصوير البحث

إنَّ الآيات الثلاث التي تعتبر المثل السابع عشر للقرآن تحدثت عن مسجد ضرار الذي اسّسه أعداء الدين لأجل مواجهة الدين الجديد واعتبروه متراساً ومرصداً محكماً لهم لمواجهة الدين بالدين.

 

شأن النزول

أشار أكثر المفسرين إلى شأن نزول الآية،(1) ونحن هنا نذكر شأن النزول أيضاً:


1. راجع تفسير الميزان 9: 391، وكذا تفسير مجمع البيان 5: 72.

[ 178 ]

إنّ بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قبا، وبعثوا إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله)أن يأتيهم فأتاهم وصلّى فيه فحسدهم جماعة من المنافقين من بني غنم بن عوف فقالوا: نبني مسجداً فنصلي فيه ولا نحضر جماعة محمد، وكانوا اثني عشر رجلا، وقيل: خمسة عشر رجلا، منهم: ثعلبة بن حاطب ومعتّب بن قشير ونبتل بن الحارث فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قبا.

فلّما بنوه أتوا رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو يتجهّز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله إنّا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة الممطرة والليلة الشاتية، وإنّا نحب أن تأتينا فتصلي فيه لنا وتدعو بالبركة فقال(صلى الله عليه وآله): «انّي على جناح سفر ولو قدمنا أتيناكم إن شاء الله فصلّينا لكم فيه»، فلمّا انصرف رسول الله(صلى الله عليه وآله) من تبوك نزلت عليه الآية في شأن المسجد.

 

الشرح والتفسير

( والّذِيْنَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَارَاً وَكُفْرَاً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المُؤمِنِينَ وإرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْل ). نعم إنّ جبرئيل(عليه السلام) نزل على الرسول مانعاً إياه عن الصلاة في هذا المسجد; وذلك رغم أنَّ ظاهره للعبادة، لكن واقعه معبد للأصنام ومركز للتآمر ضدّ المسلمين، فالآية هنا بيّنت أربعة أهداف من وراء بناء هذا المسجد.

1 - ( ضِرَارَاً ) إي أنَّ مؤسسي هذا المجسد كانوا يستهدفون الإضرار بالمسلمين من خلاله وذلك بجعله متراساً لأعداء الإسلام.

2 - ( كُفْراً ) إنّ الهدف الآخر لهم من وراء بناء هذا المسجد هو تقوية أسس الكفر، والمسجد دوره هنا كمركز لدعم الشرك والكفر.

3 - ( تَفْرِيقَاً بَيْنَ المُؤْمِنِينَ ) الهدف الآخر لهم وهو من أخطر الاهداف عبارة عن إيجاد الفرقة بين المسلمين، واستهلاك الطاقة الموحدة التي يمتلكونها، في النزاعات فيما بينهم، الأمر الذي يُضرّ بالاطراف الإسلامية المتنازعة أكثر من اضراره في شيء آخر، وهذا مبدأ يحكم جميع الاختلافات.

4 - ( إرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْل ) إي إعداد مركز للاعداء في قلب الدولة الإسلامية، الأعداء الذين يكنون العداء لله ورسوله من ذي قبل.

[ 179 ]

أبو عامر النصراني العدّو اللدود للإسلام

عن (مجمع البيان): «إنّه كان قد ترهّب في الجاهلية ولبي المسوح فلمّا قدم النبيّ(صلى الله عليه وآله)المدينة حسده، وحزّب عليه الأحزاب ثم هرب بعد فتح مكّة إلى الطائف. فلمّا أسلم أهل الطائف لحق بالشام، وخرج إلى الروم وتنصر وهو أحد المسبيبين والموقدين لحرب أحد.

وسمّى رسول الله(صلى الله عليه وآله) أبا عامر (الفاسق)، وكان قد أرسل إلى المنافقين ان استعدوا وابنوا مسجداً فإني أذهب إلى قيصر وآتي من عنده بجنود، وأخرج محمداً من المدينة، فكان هؤلاء المنافقون يتوقعون أن يجيئهم أبو عامر فمات قبل أن يبلغ ملك الروم».(1)

وبعد هذا طلب هؤلاء من الرسول(صلى الله عليه وآله) أن يفتتح المسجد، لكن جبرائيل نزل ونهاه عن ذلك بهذا الخطاب:

( وَلاَ تَقُمْ فِيهِ أبَدَاً ) والرسول (صلى الله عليه واله) لم يقم فيه ولم يصلّ فيه أبداً.

( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أوَّلِ يَوْم أحَقُّ أنْ تَقُومَ فِيْهِ ) أي أنَّ مسجد ضرار ليس محلا مناسباً لعبادة الله الواحد، والمسجد المؤهل لذلك يتسم بالسمات التالية:

1 - أن يكون أساس تأسيسه هو الإيمان والتقوى، وهذا القسم من الآية يعلمنا أن يكون أساس تأسيس مراكز مثل الحسينيات والمدارس الدينية والسياسية والاقتصادية والادارية هو الايمان والتقوى، فهما روح الأعمال.

2 - السمة الاخرى هي أن يكون الحضور من المتقين والطاهرين; وذلك لأن المصلين في المسجد يعدون معرّفاً للمسجد.

إن السمتين حاصلتان في مسجد قبا، فقد كان أساس تأسيسه الإيمان والتقوى، كما أنّ مصليه كانوا من المؤمنين عكس ما كان في مسجد ضرار فلا أساسه كان يعتمد الإيمان والتقوى ولا حضوره كانوا من المؤمنين.

 

الأمر بتخريب مسجد ضرار

الرسول(صلى الله عليه وآله) لم يكتف بعدم افتتاح المسجد والصلاة فيه، بل أمر المسلمين بإحراقه ثم


1. تفسير الأمثل 6: 200 - 201.

[ 180 ]

تخريب جدرانه وتهيئته ليكون مرمى للنفايات.

( أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَه عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوان خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرْف هَار ) .

(الشفا) يعني الطرف من كلّ شيء، واطلقت هذه المفردة على شفاه الفهم لأجل ذلك.

(الجرف) يعني الجنب فجرف الشيء أي ما يجانبه ولذلك اطلق على شاطئ النهر جرف.

(هار) يطلق على الشيء الآخذ بالسقوط. إنَّ النهر قد يفرغ جرفه من الداخل ليصبح الجرف أجوف، والإنسان الذي لا يعلم بذلك قد يقدم على المشي على هذا الجرف فيسقط فيه ويغرق.

الله تعالى يشبّه بناء مسجد ضرار ببناء على جرف نهر، والجرف لا يشرف على ماء النهر، فانّ ذلك قد لا يؤدي بالإنسان إلى موته وهلاكه الحتمي لانه قد يكون عارفاً بالسباحة، بل إنَّ هذا الجرف مشرف على جهنّم ذاتها بحيث إذا سقط إنسان فيه فذلك يعني هلاكه الكامل وانتفاء احتمال نجاته...

وهل الإنسان إذا كان عاقلا يرضى باقامة بنيانه في أرض رخوة كهذا الجرف ويتحمل ما فيه من مخاطر؟

نعم; إنَّ المسجد الذي أساسه التقوى ورضاء الله فبناؤه يكون محكماً جداً ولا يؤدي بالإنسان إلاّ إلى النجاة، أمَّا المسجد الذي يؤسّس على أساس الكفر والشرك ويكون مقراً للأعداء فهو بدرجة كبيرة من الخطورة ويؤدي بالإنسان إلى السقوط. وحسب ما تذكر الآية إنه سقوط في جهنّم.

هل يمكن العثور على تعبير أجمل ومَثَل أوضح لمصادر الشرك والنفاق مثل التعبير الذي تضمنته الآية الكريمة؟!

 

خطابات الآية

1 - إنّ المستفاد من الآية هو ضرورة مراقبة المسلمين أعمالهم، وأنَّ الأعداء قد يواجهون الدين بالدين نفسه وبآلياته ذاتها... ولهذا عندما نقرأ تاريخ الإسلام نعثر على الكثير من الفرق

[ 181 ]

التي أسسها الأعداء لضرب الإسلام الخالص.

من المذاهب الموضوعة (فرقة البهائية الضالة) التي اتضح حالياً للجميع مكان تأسيس هذه الفرقة وشخصيات المؤسسين والمستفيدين من تأسيس هذه الفرقة.(1)

2 - على المسلمين أن يكونوا كيّسين وأن لا تغرّهم الظواهر. ما أن تحصل فتنة فعلى المسلمين أن يتعرّفوا على متوليها ومموّليها والمستفيدين والمتضررين منها; وذلك خوف الاغترار باولئك الذين ينوون تخريب البلاد باسم استعماره، أو أسر المسلمين باسم تحريرهم أو سلب الدين عنهم باسم الدين نفسه.

وقد قال الرسول(صلى الله عليه وآله) في هذا المجال: «المؤمن كيّسٌ فطن حذرٌ».(2)


1. للمزيد راجع الكتابين (ارمغان استعمار) و (باى سخنان بدر) - بالفارسية.

2. ميزان الحكمة، الباب 291، الحديث 1449.

[ 182 ]

[ 183 ]

 

 

 

 

المثل الثامن عشر: الدنيا العابرة

 

يقول الله تعالى في الآية 24 من سورة يونس:

( إنَّمَا مَثَلُ الحَياةِ الدُّنْيَا كَمَاء أنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّماءِ فاخْتَلَطَ بِهَ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأكُلُ والنَّاسُ وَالأنْعَامُ حتَّى إذَا أخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وازّيَّنتْ وظَنَّ أهْلُهَا أنَّهُم قَادِرُونَ عَلَيْهَا أتَاهَا أمْرُنا لَيْلا أوْ نَهَارَاً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدَاً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بالأمْسِ كَذَلك نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ ) .

 

تصوير البحث

الحديث في المثل عن الحياة الدنيا العابرة، والتذكير بها خوف أن يغتر الإنسان بظاهرها الخلاّب ويتعلّق بها، فإنَّ الإنسان قد يفقد كل شيء في وقت يتصوّر أنّ كل شيء قد تهيّأ وأُعد لصالحه. ويدعو الله في نهاية الآية الإنسان للتفكير لعلّه ينقذه ويجد لنفسه من خلاله مخرجاً.

 

الشرح والتفسير

( إنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) استخدمت عبارة (الحياة الدنيا) ما يقرب السبعين مرة في القرآن، والدنيا قد تعني أحد المعنيين التاليين:

الف - أن تعني القرب، ودنيا مؤنث (أدنى)، وذلك باعتبار أن الحياة الدنيا أقرب قياساً للحياة الآخرة التي هي بعيدة نسبياً.

باء - أن يراد منها السافلة أو التافهة، ومنها اطلاق (الدني) على الإنسان الساقط

[ 184 ]

والسافل. وباعتبار أنَّ الحياة الدنيا حياة تافهة وتفقد القيمة الكافية فهي حياة دنيا عكس ما عليه الحياة الآخرة فإنَّها عليا وتمتاز بالقيمة المتفوّقة.

هذا، اضافة إلى أنَّه يستفاد من آيات قرآنية مثل الآية التالية: ( وإنّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ )(1) أنَّ الحياة هي الحياة الآخرة فحسب، أمّا الدنيا فهي لا تستحق من الحياة إلاّ الاسم، بل هي موت تدريجي!

على كل حال، فإنَّ الحياة الدنيا إمّا أنّها حياة لا قيمة لها، أو أنّها ليست حياة بالكلية.

( كَمَاء أنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فاخْتَلَطَ بِهَ نَبَاتُ الأرْضِ ) أي مثل هذه الحياة العابرة كمثل الماء الذي ينزل من السماء بقطراته الشفافة والفاقدة للون، وباختلاطه بالأرض تنمو نباتات ومحاصيل متنوّعه.

المراد من الاختلاط في الآية هو تنوّع النباتات.

إنّ النباتات على ثلاثة أقسام:

1 - القسم الذي يشكل الأغذية للإنسان مثل الفواكه والخضروات والحبوب ( مِمَّا يَأكُلُ النَّاسَ ) .

2 - القسم الذي يشكل أغذية للحيوانات ( مِمّا يَأكُلَ... الأنْعَامُ ) وهي قد تشترك - نوعاً ما - بين الحيوان والإنسان كالاشجار التي يفيد الإنسان من ثمارها، والحيوان يفيد من أوراقها وغصونها. وقد تكون خاصة بالحيوانات مثل العلف.

3- القسم الآخر هو النباتات والأشجار التي تزيّن الطبيعة مثل الأزهار والحشائش الاخرى ( حَتَّى إذا أخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وازيَّنت وَظَنَّ أهلُهَا أنَّهُم قَادِرُونَ عَلَيْها ) .

أي في الوقت الذي هطل فيه المطر وأثمرت الاشجار وحان الوقت لجني الثمار في هذا الوقت تحدث حادثة وتخلبط كل حسابات الإنسان وتحول دون جنيه ثمار ما زرع. وهذا أمر مؤلم لمن تعلّق بالدنيا.

( أتَيها أمْرُنَا لَيْلا أو نَهَارَاً ) نعم، في الوقت الذي يرى الإنسان أن الدنيا أقبلت عليه


1. العنكبوت الآية 64.

[ 185 ]

وكشفت عن وجهها الخلاب والخادع، ويجد أنَّ كل شيء حسب ما يرام، في هذا الوقت يصدر أمر الله بالعذاب ليلا أو نهاراً لتتدمر بذلك كل الآمال والزحمات، بحيث تبدو الدنيا لم تكن شيئاً مذكوراً.

إنّ كلمة «أمْرُنَا» في الآية الشريفة تدعونا للدقة والتأمل الوافر من حيث إنّها تضمُّ موارد ومصاديق كثيرة وتشمل كل أنواع العذاب الذي يصدر من الله.

نشير إلى بعض من تلك المصاديق.

1 - قد تؤمر مجموعة من الحيوانات تبدو كأنها ضعيفة مثل الجراد، فتؤمر الجراد لتهجم على مزرعة بشكل كتلة، لم تبقِ منها شيئاً إلاّ أكلته أو دمرته، كما يحصل ذلك بين الحين والآخر في بعض الدول.

2 - وقد يلقى هذا الأمر على عاتق السموم من الرياح، فيؤمر بتنفيذ مهمة العذاب الإلهي، وهو عندما يمرّ بشيء يسمّه ويجفّفه، بحيث إذا مرّ من مزرعة أبدلها إلى رماد يذهب مع الريح.

3 - وقد يتكفل بتنفيذ المهام الإلهية موجود هو أخطر من ريح السموم، مثل الصاعقة(1)التي تدمّر كل شيء تصطدم به مثل الجبال والاشجار والانعام والناس، أو مثل موجودات أخرى نشير إليها في البحوث المقبلة.

هناك نقطة مثيرة تضّمنتها عبارة ( لَيْلا أوْ نَهَارَاً ) وهي أنَّ الإنسان لا خيار له غير التسليم والخضوع للعذاب الإلهي. ولا يفرق في ذلك الليل والنهار ولا يتصّور أن الإنسان سوف يخضع للعذاب في الليل باعتباره مسلوب القدرة آنذاك، بل انَّ العذاب إذا نزل سيستسلم له الإنسان سواء كان نازلا في الليل أو في النهار.

( فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدَاً كَأنْ لَمْ تَغْنَ بالأمْسِ ) أي عندما يصدر أمر بالعذاب تتهدم ممتلكات الإنسان وتدمّر مزارعه في آن، بحيث لا تبدو الأرض وكأنها كانت مزروعة قبل لحظات، بل تبدّل إلى كومة من الرماد.

( كَذَلك نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ ) أي أنَّ اهداف هذا المثل لا يدركها إلاّ الذين


1. لقد مرَّ التعريف العلمي للصاعقة وفرقها مع الرعد والبرق في البحوث السابقة.

[ 186 ]

يتفكّرون فيه، ولا يدرك غور هذه الآيات الإلهية إلاّ بالتفكّر والتأمل الذي لا توجد عبادة أرفع مستوى منه.(1)

 

فلسفة المثل

لأجل استيعاب فلسفة المثل نشير هنا إلى ثلاث من خصائص الحياة الدنيا:

1- الحياة الدنيا عابرة ولا ثبات ولا دوام فيها.

2 - الحياة الدنيا جوفاء، ظاهرها فاتن وباطنها خال من المحتوى، وقد تبلورت بوضوح في حياة بعض الناس الذين تجذبنا حياتهم من بعيد وتجعلنا نأسف على حياتنا ونتحسّر على حياتهم، لكن عندما نقترب لهم نحمد الله كثيراً على كون حياتنا ليست مثل حياتهم من حيث كثرة المساوىء والابتلاءات.

3 - الحياة الدنيا تُُغرُّ الإنسان وتخدعه.

وفي حديث للرسول(صلى الله عليه وآله) أشار فيه إلى هذه الخصائص الثلاث: «الدّنيا تغر وتضر وتمر».(2)

من هنا نستوعب فلسفة المثل في أنَّه من دونه لا يمكننا إدراك ماهية الحياة الدنيا. والإنسان من خلال المثل يدرك حقيقة الدنيا وماهيتها أفضل. ولذلك تمسك الله به إيضاحاً وبياناً.

 

تفسير وتطبيق للمثل المذكور

في الآية الشريفة شُبِّه الإنسان وحياته الدنيا بالمطر، وبذلك يشير القرآن إلى قابليته وأهليته العالية، فاذا فُعّلت هذه الأهلية لأمطرت عليه ثماراً من قبيل الابتكار والخلاقية المتنوّعة، ولاستخدم كل طاقته في سبيل الحياة الأفضل، ولنشط في مختلف المجالات، ولاستهلك طاقات جمة في سبيل بلوغ الأهداف الخاصة. إلاّ أنَّ حادثة تحصل فجأة تخيّب كل


1. جاء ما يلي في ميزان الحكمة، الباب 3253، الحديث 15920: «لا عبادة كالتفكّر في صنعة الله عزّوجلّ».

2. بحار الانوار 7: 911، وقد نقل هذا الحديث كأحد كلمات الإمام علي(عليه السلام) القصار في نهج البلاغة الكلمة 385.

[ 187 ]

آماله وتدمّر كل ما جناه في حياته حتى هذه اللحظة ليبدو وكأنه لم يفعل شيئاً لحياته أبداً ولم يكن قد فعل وتحمّل لأجل ضمان المستقبل.

إنَّ هذه الحوادث هي (الأمر الالهي)، وقد تتبلور في داخل جسم الإنسان ويسلّم لها الإنسان رغم ضعتها وصغرها. وعلى سبيل المثال قد تحصل جلطة في دم الإنسان تسري في الشرايين لتصل إلى القلب فتحدث سكتة فيه، أو تصل إلى الدماغ فتحصل سكتة فيه أيضاً قد تتسبب في شل جزء من جسمه إذا لم تمته.

والأبسط من ذلك هو أن يأمر الله تعالى خلية من خلايا جسم الإنسان للتتكاثر بشكل غير متعارف وبتصاعد هندسي كأن تصبح الخلية خليتين والخليتان أربع خلايا والأربع ثمانية والثمانية ستة عشر وهكذا إلى أن تتبدّل فجأة إلى غدة سرطانية تنتشر في جميع بدنة شيئاً فشيئاً لتجعل من الإنسان قعيد البيت ( فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كأنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ ) فيبدو وكأنه قد مات منذ سنوات وآماله قد اندثرت منذ ذلك الحين.

وقد يلقى الأمر الإلهي في عهدة حادثة خارجية مثل الزلزلة أو الطوفان أو الاعصار أو الشهاب السماوي او غير ذلك.

هذا المثل وما شابهه من الحوادث التي شهدناها طوال عمرنا مرات عديدة بمثابة صافرة الانذار تحذرنا أن لا تغرّنا الحياة الدنيا ولا نتعلّق بها ولا نرتكب الجرائم لأجل بلوغ الأهداف الدنيوية الآنية.

من المناسب أن نفكر بعمق في هذه الآية الشريفة وفي أمثالها، ونعدّها كالمصباح نستنير به الطريق.

 

خطابات الآية

1 - معرفة الله

إنّ الله بتشبيهه الحياة بقطرات المطر علمنا شيئاً من دروس المعرفة، ورسّخ في قلوبنا الايمان بالله. الآية تعلّمنا أنَّ الله بواسطة هذا الماء الشفاف الذي لا لون له يستطيع أن يخلق ألواناً مختلفة.

[ 188 ]

إنّ الأرض تُسقى بماء واحد ( يُسْقَى بِمَاء وَاحد )،(1) لكنّ الثمار والفواكه والاشجار تنبت متنوّعة، فيخرج من هذا الماء أحلى الفواكه وأشدّها حموضة وأشد السموم مرارة، وأجمل الأزهار و... هذه كلها من ماء واحد وتراب واحد. إنَّ قدرة الله عجيبة حقاً! لكن أسفاً للعادة لكونها تحجبنا وتمنعنا دون أن نفكر في هذا الكتاب الناطق لله.

 

2 - كل ما في الكون مخلوق على أساس من النظم

إنَّ الله جعل ماء المطر سبباً للبركة والعمران، وهو بذاته إذا زاد عن حدّه المتعارف سبب الدمار والكوارث، وإذا قلّ عن مقداره المتعارف سبّب الجفاف والقحط.

وهذا درس آخر للإنسان في أن يكون معتدلا ومنتظماً في جميع مجالات حياته ويجتنب الإفراط والتفريط.

على الإنسان أنْ لا يفرط حتى في العداء والخصومة، ولهذا فرض الإسلام آداباً للحرب وهي عبارة عن أوامر جميلة ولطيفة محذراً من خلالها المسلمين التفريط في العداء. وعليه، فالمسلم يكون منتظما ومبرمجاً في جميع شؤونه.

 

3 - قد تتبدّل النعمة إلى نقمة

أي قد يكون الشيء الذي يمنح الإنسان الحياة هو بذاته يكون سبباً لدمار الإنسان وموته، وذلك بأمر من الله تعالى. إن الماء يمنح الإنسان حياة في هذه الدنيا لكنّه قد يتبدل إلى سيل جارف وقاتل.

 

4 - إذا جرى الماء كان سالماً وهنيئاً وذا طعم لذيذ

أمّا اذا ركد الماء تعفّن وتلوّث ويكون غير صالح للشرب. ففي هذه الحالة لا أنَّه لا يمنح الحياة فحسب، بل يكون سبباً للتلوّث. إنَّ الاموال والثروات ذات نفس الخصلة هذه،


1. الرعد الآية 4.

[ 189 ]

فيمكنها أن تنمّي اقتصاد البلاد إذا كانت جارية ويتداولها الناس، إلاّ أنها عندما تحتكر وتركد في مكان واحد فقد تسبب السقم في اقتصاد البلد.

 

5 - بعض النباتات سامة رغم جمالها

بعض النباتات تبدو زينة جميلة مثلما تبدو بعض الزهور لكنها في الواقع سموم قاتلة.

لهذا كان علينا أن لا نغتر بالظاهر وإن كان جميلا، بل علينا سبر الغور والتفكّر فيه لكشف الواقع ثم انتخاب المناسب.

وفي نهاية الآية وصية للتفكير، ومدح للعلماء والمفكّرين.

يقول رسول الله(صلى الله عليه وآله): «أعطوا أعينكُم حظها من العبادة».

قالوا: وما حظها من العبادة يا رسول الله؟ قال: «النظر في المصحف والتفكّر فيه والاعتبار عند عجائبه».(1)

فكّروا في آيات القرآن لكي لا تبتلوا بما ابتلى به النماردة والفراعنة وامثال ابو لهب كما فكروا من جهة اخرى بامثال سليمان وموسى وداود و... توقفوا وتأملوا في عجائب آيات القرآن.

لا تكتفوا بقراءة القرآن رغم ما لهذه القراءة - وبخاصة في شهر رمضان المبارك - من أجر وثواب جزيل، بل لتقترن مع التدبّر والتأمّل.


1. المحجة البيضاء 2: 231، تفسير البرهان 1: 331، الحديث 11.

[ 190 ]

[ 191 ]

 

المثل التاسع عشر: الكافر والمؤمن

 

يقول الله تعالى في الآية 24 من سورة هود:

( مَثَلُ الفَرِيْقَيْنِ كالأعْمَى والأَصَمّ والبَصِيْرِ وَالسَّميعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثلا أفلا تَذَكَّرُونَ ) .

 

تصوير البحث

يقارن الله العظيم في هذا المثل بين الكافرين والمؤمنين، ويشبِّه أحد الفريقين بالأعمى والأصم والآخر بالبصير والسميع، وذلك لأنَّ الايمان والتقوى يورثان السمع والبصر، أما اللجاجة والتعصب والكفر فيحجبان عن هذين الموهبتين الالهيتين.

 

إشارة إلى الآيات ما قبل آية المثل

الآيات التي تسبق آية المثل هذه تبيّن أحوال المؤمنين والكفار، ومن الضروري إلقاء نظرة عليها لكي نتمكن من شرح الآيات وتفسيرها ببصيرة أكثر.

 

سيرة الكافرين

شرحت الآية 19 من سورة هود أحوال الكافرين حيث قالت: ( الَّذِيْنَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيْلِ اللهِ وَيْبغُونَها عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) .

لقد بيّنت الآية ثلاثاً من خصال الكفّار:

[ 192 ]

1 - الكفار يمنعون عن سبيل الله ويحولون دون دخول الآخرين في هذا السبيل.

2 - الكفار يبغون الأعوجاج عن طريق الحق، أو أنَّهم يريدون إظهاره معوجّاً، مع أنه - حسب سورة الحمد - طريق مستقيم ولا إعوجاج ولا افراط ولا تفريط فيه بل هو متعادل ومتوازن.

3 - الكفار ينكرون المعاد والحياة بعد الموت. ويبدو أن هذه القضية هي السبب الأساس في انحطاطهم; وذلك لأنَّهم عندما أنكروا المعاد سعوا في اظهار طريق الحق معوجاً ومنعوا من اهتداء الآخرين إلى هذا الطريق.

ثم يقول الله في الآية 22 من نفس السورة: ( لاَ جَرَم أنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأخْسَرُونَ ) .

أي أنَّ الكفار الذين منعوا من اهتداء الناس إلى طريق الحق، وأظهروه وكأنّه معوجاً، وفي النهاية أنكروا المعاد، إنّهم في المعاد أخسر من الجميع.

 

سيرة المؤمنين

الآية 23 من سورد هود همّت بدراسة الفريق الثاني (المؤمنين) وقالت: ( إنَّ الّذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وأخْبَتُوا إلى رَبِّهِمْ أولئك أصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُونَ ) .

بيّنت الآية الشريفة ثلاث خصال للمؤمنين:

1 و 2 - الإيمان والعمل الصالح، إنّ هذين الخصلتين ذكرتا معاً في كثير من الآيات القرآنية، فهما لازم وملزوم ولا يمكن تفكيكهما،(1) ولهذا كان إدعاء الإيمان بالنسبة للذين لا يعملون إدعاء خواء، وهم غير مؤمنين في الواقع. ومن جانب آخر، أنَّ الصادقين الذين يعملون صالحاً من دون إدعاء، هم المؤمنون الحقيقيون; وذلك لأنّهم - كما أشرنا سابقاً - بمثابة الغصون والاوراق لشجرة واحدة.

3 - الخصلة الثالثة التي يحملها المؤمنون هي خصلة (الاخبات). إنَّ (الاخبات) جمع (خبت) والاخيرة تعني - في الاصل - الصحراء الواسعة والمستوية، وقد اُطلقت بعد ذلك على


1. ذكرا معاً في ما يقارب من سبعين آية.

[ 193 ]

بعض خصائص الإنسان، نشير هنا إلى ثلاث حالات منها:

الف - تستخدم في الإنسان ذي الروح المتواضعة، فكما أنَّ الصحراء المستوية تتواضع أمام الماء وتسمح له بالسير في جميع بقاعها، كذلك روح الإنسان المتواضع فإنَّها تستسلم للحق ببساطة.

باء - أنَّ مفردة (مخبتْ) كما تُطلق على الإنسان المتواضع تطلق كذلك على من سلّم نفسه لله تعالى، أي كما أنَّ الأرض المستوية مستسلمة، كذلك روح الإنسان المؤمن.

جيم - تطلق هذه المفردة على من اطمئنَّ بالله تعالى. الإنسان عموماً عندما يخطو في الصحراء يخطو باطمئان ومن دون خوف وذعر، عكس ما لو كان يمشي في جبال وأراض وعرة، فإنَّ خطاه ستقترن بالخوف والذعر، وخطى الإنسان المؤمن في طريق العبودية تقترن بالاطمئنان.

وعلى هذا، فالمؤمنون الذين يحملون هذه الصفات (الايمان والعمل الصالح والاخبات) هم اصحاب الجنة خالدين فيها ويتمتعون بنعمها.

 

الشرح والتفسير

( مَثَلُ الفَرِيْقَيْنِ كالأعْمَى والأصمِّ والبَصِيْرِ والسَّمِيع ) بعد أن بيّن الله خصائص الفريقين في الآيات السابقة نعت هنا كلا من الفريقين بصفات فقال: إن الكافر مثل الأعمى والأصمّ، والمؤمن مثل البصير والسميع.

( هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أفَلاَ تَذَكَّرُونَ ) والسؤال هنا استنكاري أي أنَّ الفريقين لا يستويان فالأعمى ليس كالبصير والأصم ليس كالسميع; كذلك المؤمن فهو غير الكافر وليس مثله.

المفروض بهذه المقارنة أن تثير مخاطبي الآية وتذكّرهم، أليس كذلك؟!

لأجل الوقوف على عمق هذا المطلب واستيعاب آثار الايمان والقدرة اللامتناهية لرب العالمين، نقوم في البداية بدراسة أهمية العين والاذن ودورهما في جسم الإنسان.

 

العين من أعظم آيات الله

لا شك أنَّ العين من أعظم الآيات الإلهية، بل يمكننا القول: إنها أعجب آيات الله سخرها

[ 194 ]

تعالى في خدمتنا. إنّ العين ذات بناء معقد جداً، والأعجب من ذلك أن البناء يتشكل من مواد بسيطة جداً، فهي تتكون من مقدار قليل من الشحوم والعضلات ومقدار بسيط من السوائل.

إنَّ هذا يكفي للكشف عن قدرة الله تعالى، فهو يستطيع بناء وسيلة معقدة من مواد بسيطة جداً.

للعين سبع طبقات ممتازة ومجزّأة، وهي مستقلة عن بعضها البعض بالكامل وقد رتّبت بشكل لطيف جداً، كما أنه تعالى جعل لكل طبقة وظائف خاصة.

لا يوجد في الدنيا كاميرا يمكنها التصوير تلقائياً مثل ما تعمل العين، فهي تعمل دون حاجة إلى منظّم لعدستها، فهي تنظم نفسها لتصوير أدنى وأقصى نقطة في أقل زمن ممكن. مع أن تنظيم العدسة للاماكن البعيدة في كاميرات التصوير يحتاج إلى وقت غير قصير نسبياً، وقد يستدعي هذا الأمر ساعة من الزمن إذا أُريد تصوير لقطة حساسة.

كذلك الأمر بالنسبة لتنظيم النور، فاذا كنا - مثلا - في محيط مضيء ثم انطفأت الكهرباء فيه وساد الظلام، فإنَّ بؤبؤة العين توسع نفسها لتتكيف مع المحيط وتتمكن من الرؤية.

وفي العين يوجد عضلات تتحرك في ست جهات تمكنها من الحركة إلى الأمام والخلف اضافة إلى الحركات الاربع أي اليمين واليسار والفوق والتحت.

ومن عجائب العين الاخرى هو السائل الذي يترشح منها ويسمى الدمع. إنَّ الدمع غذاء للعين كما أنَّه سائل لغسلها ولتطهير هذا البناء الدقيق والظريف من أي تعفن يحتمل حصوله.

من خصائص العين أنَّها هي بنفسها تقوم بترميم ما يطرأ عليها من اشكالات ونواقص.

هل هناك شيءٌ من مصنوعات الإنسان يحضى بهذه الخصائص؟ لننصف ونرى لو لم يكن هناك دليل وآية على اثبات الخالق غير هذه العين أليس ذلك بكاف؟(1) كيف يمكن تصديق أن الطبيعة الفاقدة للأحاسيس والشعور يمكنها خلق جهاز بهذه العظمة؟

 

الاُذن آية الله الاخرى

رغم أنَّ بناء الاذن قياساً للعين ليس بنفس الدرجة من حيث التعقد والظرافة، إلاّ أنَّه


1. للمزيد راجع الأمثل 20: 198- 200.

[ 195 ]

يحكي كما هو حال العين عن قدرة الله تعالى. إنَّ الاذن تتكون من الجزء الخارجي والداخلي والوسط. والاقسام تقع في مناطق متجزءة عن بعضها الآخر، ولكلٍّ وظائف خاصة ومستقلة. هناك عظام يشبه عملها عمل المضرب، كما أنَّ هناك طبلة ترتعش بضربات المضرب، والارتعاشات هذه عندما تنتقل إلى الدماغ بواسطة الأعصاب تُفسَّر هناك. والعجيب في هذا كله أنَّ الاذن يمكنها تعيين جهة الصوت.

إنَّ العين والاذن نعمتان إلهيتان أنعمهما الله علينا، وهما عجيبتان جداً، وفي توصيفهما كتبت كتب كثيرة، ولكلّ منهما من حيث الطبابة مختصون، بل انَّ في العين لوحدها عدة تخصصات.

 

العين والاذن وسيلتان مهمتان للمعرفة

إنَّ أهمّ وسائل المعرفة عند الإنسان هي العين والاذن. إنّ الإنسان عندما يولد يكون خلواً من أي علم ( وَاللهُ أخْرَجَكُم مِنَ بُطُونِ أمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً ) .(1) والإنسان يحصل على العلوم بعد أن تنمو عنده حاسة السمع والبصر.

إنَّ العلوم التجريبية تنتقل للإنسان عبر حاسة البصر، فالإنسان يبلغ النتائج المختلفة في المختبرات بعدما يراها بعينه، ورؤيته هذه هي التي تنقل النتائج إلى الذهن. أما العلوم النقلية - وبخاصة العلوم التي قدمت من الوحي الالهي - فهي تنتقل عبر حاسة السمع (الاذن). بالطبع أن العلوم العقلية تعتمد في الأساس على العلوم الحسية أي أنَّ الأشياء ما لم تر أ و لم تسمع فلا يتمكن العقل من إداركها، وذلك لأنَّ أساس العلوم العقلية هو (تجريد) و (تعميم) المحسوسات، ولهذا اذا كان هناك إنسان بالغ أصم وأعمى - وهو بالنتيجة أخرس - فان مستوى فهمه سيكون بمستوى فهم طفل عمره خمس سنوات حتى لو كان يحضى بدماغ بمستوى دماغ ابن سيناء; لأنَّ هكذا انسان يكون فاقداً لعمودين أساسيين من أعمدة العلوم العقلية وهما البصر والسمع.

 


1. النحل: 78.

[ 196 ]

الكافر يفتقد وسائل المعرفة

وفقاً لما ذكرت الآية، أنّ الكافر أعمى وأصم، أي أنَّه يفقد وسائل المعرفة أو أنَّ هذه الوسائل مسلوبة منه، لذلك لا يدرك شيئاً من نور الأيمان. أما المؤمن فهو - بفضل نور الإيمان - يتمتع بحاسة السمع والبصر بشكل كامل، ويفيد من العلوم، ووسائل المعرفة.

 

لماذا كان الكافر أعمى وأصم؟

الوصف المستخدم في الآية يفيد أنّ العمى والصم هما بسبب حاجب الكفر الذي يحول دون السمع والنظر ( خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِم وَعَلَى أبْصَارِهْم غِشَاوَةٌ ).(1)

إنَّ اللجاجة مع الله وعدم التسليم له والصفات الرذيلة الاخرى سببت عدم إدراك الكفار للحقائق.

يقول الإمام السجاد(عليه السلام) في دعائه العرفاني (أبو حمزة الثمالي): «إنّك لا تُحْجَب عن خلقك إلاّ أن تحجبه الأعمالُ دونك».

وعلى أساس هذا الدعاء، فإنَّ أعمال الناس هي التي تحجب الإنسان عن الله. وفي بعض نسخ هذا الدعاء ذكرت مفردة (آمال) مكان أعمال، وعلى هذه النسخة، فإنَّ الآمال هي التي تحجب الإنسان عن الحقائق والمعارف الإلهية.

الإيمان عندما يظهر في الإنسان فإنَّ حجب التعصب والجهل والغرور والكبرياء والأنانية تتلاشى لوحدها، ويتضح للإنسان بعد ذلك كل شيء، بل الله نفسه يهديه من الظلمات إلى نور الإيمان، لذلك قال الله في الآية 257 من سورة البقرة: ( اللهُ وَلىُّ الِّذينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُورِ والّذِينَ كَفَرُوا أوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوت يُخْرِجُونَهُم مِنَ النُّوْرِ إلَى الظُّلُماتِ أُوْلئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُونَ ) .

 

كيف يمكن إزالة الحجب؟

كيف يمكن أن يكون لنا عين واُذن قرآنية؟ كيف يمكن أن يكون لنا عين ترى الحقيقة؟ وفقاً


1. البقرة: 7.

[ 197 ]

لما أقرَّته الآية الشريفة فإنَّ هذه الحجب تزال إذا أزلنا عن أنفسنا ستار الجهل والتعصب واللجاجة لنرى ما يرى أولياء الله.

ما علينا هو أن نكون مؤمنين.

لقد ذكرت علامات للمؤمن في روايات أهل البيت(عليهم السلام)، ولأجل الاطلاع نأتي بنموذجين هنا:

 

علامات المؤمن

1 - يقول رسول الله(صلى الله عليه وآله): «لا يؤمن عبدٌ حتّى يحب للناس ما يُحب لنفسه».(1)

2 - في رواية اخرى يقول الإمام الصادق(عليه السلام): «إنَّ من حقيقة الإيمان أن تؤثر الحقّ وإن ضرّك على الباطل وإن نفعك».(2)

وحسب هذه الرواية فإنَّ الحقيقة والصدق من علائم المؤمن، وهي تحمل في طيّاتها خطاباً للأحزاب والتكتلات السياسية في البلد بأن يقوم نشاطهم على الصدق والحقيقة وتجنّب الزيف. إنهم إذا بلغوا مرحلة يرجّحون فيها حديث عنصرهم الطالح على حديث العنصر الصالح للتكتل المنافس فذلك يعني أنّهم لم يدركوا حقيقة الايمان، ودعواهم الايمان زيف لا أكثر.

اللهم ارزق جميع المسلمين الايمان الكامل.


1. ميزان الحكمة 1: 193.

2. بحار الانوار 67: 106.

[ 198 ]

[ 199 ]

 

 

 

 

المثل العشرون: الذين يدعون من دون الله

 

يقول الله في الآية 14 من سورة الرعد:

( لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ والّذِيْنَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِه لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيء إلاّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إلى المَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الكَافِرِينَ إلاّ فِي ضَلال ) .

 

تصوير البحث

إنّ آية المثل درست قضية الدعاء والتوسّل، وهي تسعى لتعليم الإنسان إلى مَن يمدّ يده ؟ ثم مثَّلت أولئك الذين يطرقون أبواب المخلوقات دون خالقهم طالبين حاجاتهم بمن بسط يديه إلى الماء....

سؤال:

قبل البتِّ بشرح وتفسير آية المثل ينبغي التساؤل عن سبب عدم التطرّق إلى بعض الأمثال التي جاءت قبل سورة الرعد، مثل الآية الشريفة 32 من سورة المائدة التي اعتبرت قتل النفس البريئة بمثابة قتل الناس جميعاً واحياء نفس بريئة بمثابة احياء الناس جميعاً. فإنّ فيها تشبيهاً وتمثيلا نوعاً ما، فَلِم لم تأت في البحث.

الجواب:

في القرآن امثال وتشابيه كثيرة، لكن بحثنا في الامثال القرآنية لا التشابيه.

إنَّ التشبيه هو تنظير شيء بشيء كأن يقال: (إن حسن كالأسد). فهذا تشبيه وليس مثلا،

[ 200 ]

أما المثل فهو تجسيد وبيان لقصة أو جماعة أو قضية أو مطلب عقلي ليس في متناول أذهان الناس، كما لو أنَّ الله أراد بيان قضية الحق والباطل وهما قضيتان غير حسية مثّلهما بالمطر والسيل والزبد الذي يتجمع على الماء، فيمثّل الحق بالماء والباطل بالزبد، من حيث أنّ الزبد رغم ابهته وارتفاعه وظهوره إلاّ أنه أجوف ويتلاشى بسرعة... وبناءً على هذا الايضاح فقد حصلنا على معيار كلي للتمييز بين الأمثال والتشابيه.

 

البرق والسحب الثّقال

لأجل الاستيعاب الأفضل للمثل المذكور علينا شرح الآيات 12 و 13 من سورة الرعد باقتضاب.

يقول الله تعالى في الآية 12 من سورة الرعد: ( هُوَ الَّذِي يَرُيْكُمُ البَرْقَ خَوْفَاً وَطَمَعاً وَيُنْشِأُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ) .

إنّ البرق من آثار عظمة الله تعالى، فهو يزرع الأمل في نفس الإنسان كما يزرع الخوف والقلق.

إنّ البرق يبشّر الناس بهدية المطر الإلهية; وذلك لأن الرعد والبرق يتسببان في نزول الكثير من المطر.

 

كيف يسبب البرق نزول المطر؟

اصطدام السحب التي تحمل شحنات كهربائية متضادة يوجد حرارة تقدّر بخمسة عشر ألف درجة سانتيغراد. إن هذه الحرارة تحرق الهواء المحيط بها وبذلك يقل ضغط الجو الأمر الذي يؤدي إلى هبوط المطر. من جانب آخر قد يتبلور البرق على شكل صاعقة فيحرق حينئذ ما يصطدم به من الغابات والقرى والاشخاص والحيوانات والمزارع، وهذا هو الذي ينجم عنه خوف الإنسان.

( وَيُنْشِأُ السِّحَابَ الثِّقَالَ ) قد يتصور كثير من الناس أنَّ السُّحُب لا تختلف، وهي تعمل على وتيرة واحدة، مع أنَّ الحقيقة شيء آخر، وهي تختلف عن بعضها الآخر كثيراً.

[ 201 ]

ممّا تختلف فيه السحب هو أنّها تنقسم إلى ثقال وخفاف، والثقال تتموقع في جوّ أقرب إلى سطح الأرض، أمَّا الخفاف ففي جوّ مرتفع أكثر عن سطح الأرض، وسبب اقتراب الثقال هو كثرة الرطوبة والماء فيها، الأمر الذي يمنعها من التصاعد إلى أجواء أبعد.

 

الرعد دليل على عظمة الله

يقول الله تعالى في الآية 13 من سورة الرعد: ( وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالمَلائِكَةُ مِنْ خِيْفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيْدُ المِحَالِ ) .

تشير الآية الشريفة إلى موضوعين، أحدهما: الرعد، والثاني: الصواعق. وبما أنَّا تناولنا موضوع الصواعق في البحوث السابقة لذا نخص بحثنا هنا بالرعد.

لقد قلنا سابقاً: إنَّ اصطدام سحب ذوات شحنات كهربائية مختلفة تولّد قدحة ضوئية وصوت، فالنور يقال له: برق، أما الصوت فيقال له: رعد. إنَّ الصوت والضوء يحصلان في وقت واحد، لكن بما أنَّ سرعة الضوء أسرع من الصوت بمرات، لذلك يصلنا الضوء قبل أن يصلنا صوت الاصطدام.

رغم ما يبدو من بساطة في ظاهرة الرعد، إلاّ أنّه يُعد من آيات الله العظمى، وله تأثير مهم على حياة جميع الموجودات.

لقد ذكر العلماء آثاراً كثيرة للرعد والبرق نشير هنا إلى أهمها:

1 - هطول الأمطار هي أول فوائد الرعد والبرق، وهي فائدة تعم جميع الموجودات سواء الإنسان أو الحيوان أو النباتات أو الجمادات.

2 - يقتل الرعد والبرق بعض الآفات النباتية; وذلك لأنَّ الحرارة التي توجد من خلال هذين الظاهرتين تسبب أكسجة الماء أي خلق ماء مؤكسج يتكون من ذرتين من الأوكسجين بدل ذرة واحدة مع ذرتين من الهيدروجين. ومن فوائد هذا الماء أنه من المطهرات ويمكنه قتل بعض الآفات والموجودات المضرة. إنَّ هذا الماء متوفّر في الصيدليات ويستخدم لغرض التطهير. وكلما زادت ظاهرتا الرعد والبرق كلّما قلت الآفات النباتية.

الفائدة الاخرى للرعد والبرق هو انتاج الكثير من الاسمدة للنباتات. إنّ هذين الظاهرتين

[ 202 ]

تنتجان كل عام عشرات الملايين من الاطنان من الأسمدة القوية والمفيدة والمؤثرة على جميع النباتات.

طريقة ايجاد هذه الاسمدة هو أنَّ الحرارة الناشئة عن الرعد والبرق تسبب تركيب الماء بذرات الكاربون فينتج أوكسيد الكاربون، وعندما يهبط هذا الاوكسيد على الأرض يتركب مع الاتربة فينتج نوعاً من السماد المفيد والقوي والمؤثر.

نعم، إنَّ الرعد والبرق لهما هذه الآثار، وهما من آيات الله العظمى. والمدهش أنَّ الله كشف عن هذه الأسرار العلمية في وقت لم تخطر في ذهن الإنسان هذه الامور أبداً.

طبقاً للآية الشريفة، الرعد يحمد الله ويسبّح له، والتسبيح هنا يعني تنزيه الله من أي عيب ونقص، ألم يكن قتل الآفات النباتية تنزيهاً لله من كل عيب ونقص؟ أليست هذه الظاهرة تسبيحاً لله نوعاً ما؟

إنَّ الرعد يحمد الله على صفاته وجلاله وجماله. ألم تكن تغذيه النباتات نوعاً من الحمد والثناء لله في عالم الممكنات والمخلوقات؟

لا شكَّ أنَّ الآيات 12 و 13 تشير إلى هذه النقطة وتعدّها من وجوه عظمة الخالق.

الخلاصة: أنَّ الآيتين أشارتا إلى بعض من الآيات الإلهية المهمة، أي الرعد والبرق والمطر والصاعقة.

 

الشرح والتفسير

( لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ ) يختلف المفسرون في المراد من هذه الجملة، فالبعض يرى أنها تعني التوحيد، والتوحيد خاص بذاته تعالى.

ويعتقد بعض آخر أنَّ المراد منها هو القرآن المجيد، فهي تشير إلى هذا الكتاب الإلهي.

وكثير من المفسرين فسَّرها بالدعاء، أي إذا أراد الإنسان أن يستجاب دعاؤه دعى الله خالصاً، فغيره لا يحلّ شيئاً من المشاكل بل الله هو الوحيد القادر على استجابة الدعاء وحل المشاكل.

والشاهد على هذا الرأي (الرأي الثالث) الذي نحن نذهب إليه هو ذيل الآية، حيث تقول:

[ 203 ]

( وَمَا دُعَاءُ الكَافِرينَ إلاّ فِي ضَلاَل ) .

إنَّ سبب كون دعاء الكافرين في ضلال هو أنَّهم يسألون من لا يقدر حتى على الدفاع عن نفسه، ولا يستطيع كسب منفعة لنفسه فضلا عن نفعه الآخرين.

( والّذِيْنَ يَدْعُونَ مِنْ دُوْنِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيء إلاّ كَبَاسِطِ كَفّيْهِ إلى الماءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ) إنّ شاهد حديثنا في المثل العشرين هو هذا الجزء من الآية.

إن الذين يدعون غير الله ويقصدون معابد الاصنام ويتوسلون بها لأجل حلّ مشاكلهم، فمشاكلهم سوف لا تُحل. ومثل إنسان كهذا مثل الذي يبسط يده ويمدها ليأخذ الماء ويشرب، وهو لا يستطيع من خلال هذا العمل شرب الماء أبداً.

اختلف المفسرون في تفسير ( كَبَاسِطِ كَفّيْهِ إلى المَآءِ... ) نشير إلى أقوالهم هنا:

1 - المراد منها هو شخص عطشان يريد إرواء عطشه فيقصد بئراً ليس فيه حبل ولا دلو، وعمق البئر كثير جداً، فيبسط هذا الشخص يديه في البئر، لكن يديه لا تمتدان إلى أكثر من متر واحد. ولا شك أنَّ شخصاً مثل هذا سوف لا يبلغ هدفه ولا يروي عطشه.

2 - مراد الآية هو الشخص الذي يقف بجنب البئر ويشير للماء لكي يصعد ويشرب منه. ومن الواضح أن الماء هنا لا يُنال بالاشارة إليه، بل هناك حاجة واقعية لوسيلة ترفعه.

نعم، دعاء الكافرين عند معبد الأصنام ضلال، وحالهم حال إنسان كهذا.

3 - إنَّ (باسط) تعني الذي يفتح يديه ولا يحنيهما بحيث يتمكن الاغتراف بهما. فإنَّ هذا الشخص يذهب إلى جنب الماء ويغترف منه بيديه حال كونه فاتح يديه وباسطهما، وهو أمر لا يوفّر له الماء فيضطر للابتعاد عن مصدر الماء، وهو عطشان.

نرى أنَّ التفسير الأوّل هو أنسب الثلاثة، رغم إمكانية القول بأنّ الثلاثة صحيحة وكلها تبيّن مراداً واحداً; وذلك لانَّا نعتقد بامكانية استعمال لفظ واحد في أكثر من معنى واحد.(1)

وعلى ما تقدم علينا - لأجل حل المشاكل - أن لا نطرق غير باب الله، بل نقصد بابه منذ البداية، فهو الخالق والرازق والمحيي والمييت وهو حلاّل المشاكل وكل شيء بيده. اما غيره فلا


1. إنّ هذه قضية اصولية طرحت في كتب الأصول، وللمزيد راجع انوار الاصول 1: 145.

[ 204 ]

شيء بيده; لأنّه ما من موجود إلاّ وهو يحتاج إلى الله الغني، فالكل يحتاج إليه فكل شيء عاجز، وهو القادر، وكل شيء ضعيف، وهو القوي والقادر المطلق، فلا يصح الذهاب لا لمعبد الأصنام فحسب بل لكل شيء غير الله.

 

خطابات الآية

1 - هل التوسّل بالمعصومين(عليهم السلام) شرك؟

وبعبارة اُخرى: هل أنَّ الأدعية والتوسلات بالأئمة تشملها الآية الشريفة وينهى عنها الشارع المقدس وينبغي الاجتناب عنها؟

نقول جواباً عن التساؤل الماضي: إنَّ التوجه لهؤلاء العظماء لا يعني طلبنا منهم حل المشاكل بشكل مباشر، بل نطلب منهم أن يشفعوا لنا عند الله ويبحثوا لنا عن حلّ لنا من الله القادر المطلق; وذلك لأنّا نعتقد أنَّ هؤلاء إذا استطاعوا فعل شيء فبأذن من الله. أما الوهابيون الذين ينسبون لنا الشرك والكفر لأجل هذه الأدعية والتوسلات فانّهم على خطأ، وهم لا يعرفون المعنى الحقيقي للشرك والكفر، كما أنَّهم لم يستوعبوا ماهية التوسل الذي عند الشيعة.

في رحلتي لمكة والمدينة عام 1419 هـ.ق التي كانت لغرض أداء العمرة، حضرت صلاة الجمعة في اليوم الثاني والعشرين من شعبان في المسجد الحرام، وكنت أصغي لما يقول الخطيب. والمدهش هنا أنَّ الخطيب كان يقرأ عن ورقة قد أعدّها من ذي قبل، يبدو أنّه ما كان مجازاً لإضافة او تنقيص ولو كلمة واحدة، فتذكرت خطبة الجمعة في مدن ايران ومدى ما يتمتع به الخطيب من حرية التعبير والتحليل. وعلى أي حال هاجم هذا الخطيب في أثناء خطبته اولئك الذين يتوسلون عند القبور المشرّفة ورماهم بالشرك والكفر.

بالطبع لم نسكت أمام هجوم هذا الخطيب، بل كتبنا رسالة إلى زعماء السعودية اعترضنا فيها عما تفوّه به هذا الشخص.

إنَّ الذين يعتقدون بالدعاء والتوسّل لا يعتبرون أولياء الله شركاء لله، بل شفعاء عنده. وبعبارة اُخرى: أنَّ اعتقادنا هو تجسيد للآية الشريفة (المائدة 110) التي تحدّثت عن السيد

[ 205 ]

المسيح (على نبينا وآله وعليه السلام) ( وَإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كِهْيئَةِ الطَّيْر بإذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإذْنِي وَتُبْرِئ الأَكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإذْنِي... ) .

في هذه الآية نسب الخلق والاحياء والشفاء كلها للسيد المسيح(عليه السلام) لكن بإذن من الله تعالى.(1)

والشيعة لا تقول شيئاً غير هذا الذي في الآية الكريمة، فالشيعة تعتقد أنَّ العظماء والأولياء يمكنهم فعل الكثير الذي يعجز عنه البشر لكن باذن الله، كما يمكنهم أن يشفعوا للعباد عند الله لحل مشاكلهم. وعلى هذا فدعاء الشيعة وتوسلهم لا شرك ولا كفر.

ومع هذه الايضاحات نقول: إنَّ الذي يعدُّ الشيعة لاجل دعائهم وتوسلهم مشركين، فهو يعدُّ السيد المسيح مشركاً كذلك.

ويمكننا أن نستفيد مما سبق ضمنياً أن المعجزة قد لا تحصل بدعاء النبي وإجابة الله مباشرة، بل قد تكون من النبيّ أو الولي مباشرة لكن بإذن من الله تعالى كما هو الحال بالنسبة لمعجزة شق القمر(2) التي صدرت عن رسولنا(صلى الله عليه وآله)، وهذا أمر غير مستبعد.

 

2 - الصور المختلفة لعبادة الأصنام

لعبادة الاصنام تاريخ طويل واشكال مختلفة، فقد تكون بشكل صنم يُصنع بأيدي الناس من الحجر أو الخشب أو الفلز بل وحتى من الاغذية، ثم يقع لها الإنسان ساجداّ وعابداً.

في برهة من الزمن كان المشركون يقدمون على انتخاب موجودات غير ذات شعور يعتبرونها أصناماً للعبادة، لذلك عبد البعض الشمس، والآخر النجوم أو القمر،(3) بل انّ البعض أقدم على عبادة أنهار أو بحيرات مهمة مثل نهر النيل أو بحيرة ساوة في ايران، وقد يكون جفاف بحيرة ساوه وانطفاء معبد فارس عند ولادة الرسول(4) بسبب أنها كانت معابد للإنسان آنذاك.


1. حُكي هذا المطلب على لسان السيد المسيح نفسه في الآية 49 من سورة آل عمران.

2. تجد شرح هذه المعجزة في كتاب (المعراج - شق القمر - العبادة في القطبين) بالفارسية.

3. اُشير إلى هذا المطلب في الآيات 76 - 78 من سورة الأنعام.

4. لقد حدثت معاجز كثيرة بولادة الرسول(صلى الله عليه وآله) كان منها انطفاء نار معبد فارس وجفاف بحيرة ساوه. وللمزيد راجع منتهى الامال 1: 44.

[ 206 ]

وفي بعض من بقاع العالم كان البعض يعبد الاشجار وبخاصة شجرة الصنوبر التي كانت منذ القدم معبوداً لمجموعة من الناس. من هنا اعتقد بعض المفسرين أنَّ (أصحاب الأيكة) هم أنفسهم عبدة شجرة الصنوبر الذين كانوا منشأ لخرافة (سيزده به در) أي الثالث عشر من بداية السنة الشمسية.

وفي زمن كانت الحيوانات آلهة لبعض من الناس. ومِمّا يؤسف له أنّ هذا النوع من العبادة لا زال موجوداً في بعض المناطق من الهند.

وقد ألّه البعض أشخاصاً من البشر، كما هو الحال بالنسبة لفرعون حيث كان البعض يعبده كربّ لهم، ويقول القرآن المجيد نقلا عن فرعون نفسه: ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يا أيُّهَا المَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إله غَيْرِي )(1) وقد ألّه البعض الملائكة في بعض الأحيان.

يقول أحد المؤرخين: (كل شيء في العالم قد تألّه، وكان يُعبدُ في يوم ما ونحن لا نعرف شيئاً لم يتألَّه ولم يُعبد في يوم من الأيام).

على كل حال، أنَّ ما يجمع عبادة الأصنام هو التوجه إلى ما سوى الله والغفلة عن الله رب العالمين، وقد جاء على لسان بعض العظماء: (كلّ ما شغلك عن الله فهو صنمك). من هنا عُدَّ المال والبنون والمرأة والثروة والمقام والصديق وكل شيء يغفلنا عن الله صنماً.

القرآن قد شطب على كل شيء سوى الله، ولا يرى أهلية العبادة لغير ذاته الحقة، فإنَّ جميع المخلوقات فقيرة وتحتاجه وتفتقر فيضه في كل آن ولحظة، ليس في بداية الخلق فحسب بل لادامة الحياة واستمراريتها كذلك.

إنّ مثل حاجة الإنسان إلى الله كمثل حاجة المصباح إلى مولد الكهرباء، فكما أنَّ المصباح يحتاج إلى المولد في كل لحظة ما دام متقداً، كذلك الإنسان فانه يفتقر فيض الله في كل لحظاته ما دام حياً.

وبعبارة أُخرى: أنَّ كل لحظة من لحظات العمر هي خلق وصنع جديد ( كُلَّ يَوْم هُوَ فِي


1. القصص الآية 38.

[ 207 ]

شَأن )(1) وبخاصة إذا فسرنا ذلك حسب رؤية (الحركة الجوهرية) فإنَّ الأمر سَيكون أوضح.(2)

 

الدعاء من وجهة نظر القرآن والروايات

إنّ الدعاء قضية مهمة جداً وقد انعكست بشكل واسع في القرآن وروايات المعصومين(عليهم السلام). وفي هذا المجال مباحث وأسئلة عديدة نشير إلى بعضها هنا:

1 - ما هي فلسفة الدعاء؟ إذا كنا مستحقين للاجابة فالله العالم بالظاهر والباطن سيستجيب لطلباتنا من دون حاجة إلى دعاء، وإذا لم نستحق الاجابة فإنَّ الله سوف لا يجيب لطلباتنا سواء دعوناه أم لم ندعه، ولا تأثير لدعائنا هنا!

وبتعبير آخر: أنَّ طلبتنا إذا كانت بمصلحتنا فسيوفرها لنا الله من دون حاجة إلى دعاء، وإذا لم تكن بمصلحتنا فانه سوف لا يوفرها مهما أصررنا بالدعاء والتوسّل.

إذن ما فلسفة الدعاء وما دوره؟

2 - ما هي شروط إجابة الدعاء؟ وما علينا فعله لكي يستجيب لنا الله الدعاء ولكي نبلغ هدف الاجابة؟

3 - ما هي موانع استجابة الدعاء؟ لماذا لم يُستجب لبعض الأدعية رغم الاصرار الوافر في طلبها؟

4 - ما هو أسوأ دعاء؟

 

الدعاء أفضل عبادة

المستفاد من الآيات والروايات هو أنَّ الدعاء ليس كونه عبادة فحسب، بل من أفضل العبادات.


1. الرحمن الآية 29.

2. للمزيد راجع تفسير الأمثل 17: 373 - 374.

[ 208 ]

ولأجل إيضاح أهمية الدعاء نشير إلى ثلاث آيات من القرآن وست روايات من المعصومين:

1 - يقول الله تعالى في الآية 60 من سورة غافر (المؤمن): ( وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُوني أسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الّذِين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّم دَاخِرِينَ ) .

استخدمت الآية في البداية مادة (الدعاء) ثم أبدلتها بمادة (العبادة) في نهاية الآية.

لماذا عبّر القرآن بالعبادة عن الدعاء؟

قال البعض: إنَّ العبادة بمعناها المطلق هي دعاء، ولأجل ذلك كان تعبير الروايات بأنَّ «الدعاء مخ العبادة».(1)

2 - يقول الله تعالى في الآية 77 (آخر آية) من سورة الفرقان: « قُلْ مَا يَعْبَؤُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُم فَقَد كَذَّبْتُم فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامَاً ) .

إنَّ هذا التعبير ( ما يعبؤُ بِكُم... ) والذي يعني عدم اهتمام الله بكم لو لم تدعوا، لم يستعمل في العبادات الاخرى مثل الحج والصوم والجهاد وغير ذلك، وقد استخدم في الدعاء فقط، وهو تعبير يعني باطلاقه أنّ الذي يجعل الله يهتم بكم ويعتني رغم الذنوب والآثام هو الدعاء، فقدروا هذه العبادة وثمّنوها.

3 - يقول الله تعالى في الآية 186 من سورة البقرة بعد الحديث عن فضيلة واحكام شهر رمضان المبارك: ( وإذا سَألك عِبَادِي عَنِّي فَإنِّي قَرِيْبٌ أُجِيْبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَليُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) .

لا شكّ أنّ تعبير الآية التالية: ( نحن أقْرَبُ إلَيكْمْ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ )(2) للإشارة إلى قرب الخالق إلى المخلوق، هو أجمل تعبير يمكن أن يرد في هذا المجال.

وعلى هذا، فإنَّ التفكير في الآيات السابقة يرشدنا إلى أنَّ الدعاء من وجهة نظر الإسلام أمر مهم جداً بحيث اضافة إلى كونه عبادة يوجب اعتناء الرب بالإنسان، كونه وسيلة لتقرّب العبد إلى مولاه.

الدعاء في الروايات


1. ميزان الحكمة، الباب 1189، الحديث 5519.

2. سورة ق . الآية 16.

[ 209 ]

قلنا سابقاً: إنَّ الكثير من الروايات تناولت قضايا الدعاء، نكتفي هنا بذكر ست منها.

1 - يقول رسول الله(صلى الله عليه وآله): «الدعاءُ سلاح المؤمن وعمود الدين ونور السماوات والأرض».(1)

نعم، رغم أنَّ الدعاء عبادة سهلة، لكنّه، حسب ما يستفاد من كلمات الرسول(صلى الله عليه وآله) - يحضى بشأن رفيع عند الله. إلاّ أنَّ الإنسان غافل عنه بسبب سهولته وبساطته.

2 - يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «الدعاءُ مفتاحُ الرحمة ومصباح الظُّلمة».(2) نعم، هو مصباح ليس في الدنيا فحسب بل في الآخرة كذلك.

3 - يقول رسول الله(صلى الله عليه وآله) في رواية اخرى: «عمل البرّ كلّه نصف العبادة، والدعاء نصف».(3)

4 - يقول الإمام الصادق(عليه السلام): «أكْثِرْ من الدعاء فإِنّه مفتاح كلّ رحمة ونجاح كلِّ حاجة، ولا ينال ما عند الله إلاّ بالدعاء، وليس باب يكثر قرعه إلاّ يوشك أن يفتح لصاحبه».(4)

وعلى هذا، فالإنسان لا ينبغي أن يخيب أمله بمجرد عدم الإجابة، لأنّ الله قد يريد تطهير قلب العبد وتأديبه وتربيته من خلال الدعاء.

5 - يصف الإمام الصادق(عليه السلام) الدعاء بالشكل التالي: «أفضل العبادة الدعاء».(5)

6 - يقول الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام): «عليكم بسلاح الأنبياء»، قيل: ما سلاح الأنبياء؟ قال: «الدعاء».(6)

يستشف مما سبق من الآيات والروايات أنَّ للدعاء شأناً عظيماً في الإسلام ويحضى بأهمية كبيرة.

سر الدعاء في الإسلام


1. الكافي 2: 468.

2. بحار الأنوار 90:30.

3. ميزان الحكمة، الباب 1189، الحديث 5533.

4. ميزان الحكمة، الباب 1169، الحديث 5585.

5. ميزان الحكمة الباب 1189، الحديث 5516 و 5532.

6. الكافي 2: 468.

[ 210 ]

لماذا يحضى الدعاء في الدين بدرجة وقيمة كبيرة، بحيث عُدَّ أفضل العبادات وسلاحاً للمؤمن وعموداً للدين ونور السماوات والأرض ومفتاح الرحمة ومصباح الهداية ونصف العبادة وسر النصر وسلاح الأنبياء وسبباً لرفعة شأن الإنسان عند الله؟

إذا دققنا في هذه التحفة والهدية الإلهية ودرسناها جيداً لوجدناها أهلا لهذه الأُمور كلها.

إنَّ الدعاء يترك آثاراً مهمةً في الإنسان، وأهم تلك الآثار هو التربية، فإنَّ الدعاء سبب لتربية الإنسان وتزكيته.

إنَّ التعليم والتربية اللتين ابتنيت عليهما بعثة الأنبياء، يُعدان من أهم أهداف البعثة،(1) ومما لا شك فيه أن التعليم مقدمة للتربية، لذلك كانت التربية الهدف النهائي للبعثة.

 

العلاقة بين الدعاء والتربية

للدعاء آثار تربوية كثيرة نشير إلى ثلاثة منها:

إنّ الأثر الأوّل هو إيجاد نور الأمل في قلوب الناس، فالإنسان الخائب الأمل يكون في عداد الموتى. إنَّ المريض يتحسّن إذا كان قد ملأ قلبه بنور الأمل وسوف لا يتحسّن إذا فقد أمله في التحسن، كما أنَّ السبب الرئيسي لنجاح المقاتلين في ميادين الحرب هو الأمل والمعنويات العالية، أما العسكر الذي يفقد الأمل ولا يتحلى بمعنويات عالية فسوف يخسر المعركة ولو كان قد عُدَّت له العدة وجُهِّز بأكثر الاسلحة تطوراً.

إنَّ الدعاء يعكس ضوء الأمل في قلب الإنسان.

إنَّ أصحاب الدعاء والمتوكلين على الله - رغم مشاكلهم الكثيرة وأعداءهم الجسورين وفقرهم المالي - إذا توجهوا إلى الله وناجوه، حيث قلوبهم نضحت بنور الأمل، وتفاءلوا بالمستقبل، وكأنّهم مُنحوا حياة جديدة; وذلك لأنّهم مدوا أيدي العون إلى من كانت أصعب الشدائد عنده أسهلها، مدوا أيديهم إلى الله الذي لا موقع للصعب والسهل عنده، وذلك لأنَّ الصعب يعني الشيء الذي فوق القدرة والسهل يعني الشيء الذي أدنى من القدرة، وهل هناك


1. سورة الجمعة الآية الثانية.

[ 211 ]

شيء يفوق قدرة اللّه؟

وعلى هذا، فلا اختلاف عند الله بين الصعب والسهل، فاذا أراد شيئاً قال له (كن) فيكون في لحظة حتى لو كان ذلك الشيء هو صنع ملايين من الشموس المثيلة لشمس الأرض.

إنَّ الإنسان إذا دعا وناجى من يملك مثل هذه القدرة وسجد له وخشع وبكى وطرح مشاكله عليه، فلا شك أنَّ نور الأمل سيستحوذ على قلب هذا الشخص.

2 - الاثر الثاني للدعاء هو ايجاد نور التقوى في الإنسان الذي هو السبب في تقرّب الإنسان إلى ربّه.(1)

التقوى هو زاد نجاة الإنسان يوم القيامة;(2) وهو جواز دخول الجنة.(3)

الدعاء يحيي هذه الجوهرة الثمينة في قلب الإنسان، إنَّ الإنسان إذا ناجى الله وتوسل به ودعاه باسمائه الحسنى وصفات جماله وجلاله، فإنَّ ذكر هذه الصفات سيترك أثراً يسوق الإنسان نحو الله بشكل يشعر الإنسان بأنه إذا أراد الاستجابة تاب وأناب إلى الله.

إنَّ الدعاء يدعو الإنسان إلى التوبة، والتوبة تدعو الإنسان لاعادة النظر في حياته، وفي نهاية هذه الحركة يتقد نور التقوى في حياة الإنسان.

جاء في حديث: «من تقدّم في الدعاء استجيبت له إذا نزل به البلاء، وقالت الملائكة: صوت معروف ولم يحجب عن السماء، ومن لم يتقدّم في الدعاء لم يستجب له إذا نزل به البلاء وقالت الملائكة: إنّ ذا الصوت لا نعرفه».(4)

يقول الإمام علي(عليه السلام) في خطبة همّام القيمّة عند بيانه لأوصاف المتقين: «نُزّلت أنفسهم منهم في البلاء كالّتي نزلّت في الرّخاء».(5)

ولهذا، لا فائدة في مناجاة فرعون وإقراره بالتوحيد، فقد جاء في الحديث ما يلي:


1. كما هو مضمون الآية 13 من سورة الحجرات (... إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُم).

2. كما هو مضمون الآية 197 من سورة البقرة: (وَتَزوَّدُوا فإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التّقْوَى...).

3. كما هو مضمون الآية 63 من سورة مريم: (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيَّاً).

4. ميزان الحكمة، الباب 1194 الحديث 5563.

5. نهج البلاغة، الخطبة 193.

[ 212 ]

«... قال جبرائيل:... لمّا غرق والله فرعون قال: آمنت أنّه لا إله إلاّ الذي آمنت به بنو اسرائيل. فأخذت حمأة (جكومة من طين) فوضعتها في فمه...».(1)

3 - إنّ الاثر التربوي الثالث للدعاء هو تقوية نور المعرفة.

إنّ الإنسان عندما يتجه إلى الله سوف يبدأ بالتفكير بأن الله قادر وعالم بما خفي عنا وبما ظهر ومحيط بجميع الأسرار، وهذا سوف يرفع من مستوى معرفة الإنسان، وبخاصة إذا كانت الأدعية المقروءة من الصحيفة السجادية أو المناجاة الشعبانية أو الصباح أو كميل أو الندبة، فهي تضمّ أرقى الدروس العرفانية، ومع وجود أدعية، أمثال هذه، لا داعي بالنسبة لطلبة العرفان أن يلجؤوا إلى كتب مشكوك في أمرها.

وعلى هذا، فالدعاء يوقد نور التقوى والمعرفة في قلب الإنسان.

سؤال: نقرأ في دعاء شهر رجب - الذي يستحب قراءته بعد كل صلاة من الشهر - العبارة التالية: «يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه».

وعلى أساس هذه العبارة فان الله يعطي كل شخص سواء دعاه أم لم يدعه، وسواء كان عارفاً به أم لم يكن. وعلى هذا فما فائدة الدعاء وجدواه؟

الجواب: إنّ لفيض الله وبركاته أقساماً وأنواعاً:

قسم يمنحه الله لجميع البشر، مثل الغيث، فالجميع من الكافر والمؤمن والعارف وغيره يفيدون منه.

وقسم من البركات تمنح للعارفين من المؤمنين ولا تشمل غيرهم.

وقسم من البركات والفيض يُمنح للداعين فقط دون غيرهم.

جاء في حديث: «لا تقل إنَّ الأمر قد فرغ منه، إنَّ عند الله منزلة لا تُنال إلاّ بمسألة».(2)

وعلى هذا، فإنَّ القسم الأول هو الوحيد الذي يشمل الجميع أما القسم الثاني والثالث فالإيمان والدعاء يؤثران فيهما.

موانع وشروط استجابة الدعاء


1. مجمع البيان ذيل الآية 92 من سورة يونس.

2. ميزان الحكمة، الباب 1189، الحديث 5529.

[ 213 ]

لماذا لم يُستجب لبعض أدعيتنا؟ لماذا لم تتحقق وعود الله في مجال استجابة الدعاء؟ هل الاشكال من قبل الله - نعوذ بالله - أم الاشكال من قبل الداعين أنفسهم؟

إنَّ هذه الشبهات كان يطرحها الصحابة والمسلمون في زمن الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، وكان أهل الذكر (الائمة) يجيبون عليها في روايات وردت عنهم.

مجموع الروايات السابقة وروايات اخرى جاءت في هذا المجال (ولم تتضمن أسئلة) تكشف عن أنّ هناك شروطاً لاستجابة الدعاء، على الداعين توفيرها وتحصيلها، كما عليهم إزالة الموانع والعقبات عن الاستجابة.

وعلى هذا، فإنَّ الإنسان إذا دعى من دون تحصيل الشروط ورفع العقبات والموانع، ولم يستجب دعاؤه، فما عليه أن يلوم إلاّ نفسه. إنَّ مَثَلَ الداعي من دون تحصيل الشروط ورفع الموانع مَثَلُ المريض الذي يذهب للطبيب للتداوي فيكتب الطبيب له نسخة تتضمن إرشاد المريض بحقن ابر في كل يومين مرة، وبعد استلام المريض الدواء واستهلاكه وعدم الشفاء يرجع المريض للطبيب قائلا له بعصبية: (أي طبيب أنت وأي دواء كتبت لي؟! لم أشف منه أبداً) فيسأله الطبيب: (هل حقنت الابر في كل يومين مرة؟) فيجيبه: (لا بل في كل ثلاثة أيام).

ويسأله مرة اخرى هل: (استخدمت المضادات الحيوية في كل ثمان ساعات؟) فيجيبه المريض: (كنت أبتلع في اليوم كبسولة واحدة) ويسأله مرة اخرى: (امرتك بالاستراحة لمدة اربعة أيام هل استرحت فيها أم لا؟) فيجيبه: (وهل هذا أمر ممكن رغم ما نعانيه من غلاء في السلع والأغذية؟ فاني رجعت للعمل في نفس اليوم).

فيهز الطبيب رأسه ويقول له: (لا إشكال في الأدوية التي كتبتها لك، والاشكال هو فيك من حيث إنَّك لم تعمل بما أمرتك به، الامر الذي أدى بك أن لا تسترجع صحتك وعافيتك فلا تلم إلا نفسك).

كذا الحال لو أعطى متخصص زراعي بذوراً لفلاح وأمره بنثرها وزرعها والعناية بها بشكل خاص وسقيها في أوقات محددة، والفلاح لم يعمل بوصايا المتخصص، وكانت النتيجة هي عدم إثمار البذور، فإنَّ المقصّر هنا هو الفلاح نفسه لا شخص آخر.

اعزتي: أيها الصيام المحترمون! إخواني وأخواتي الأعزة! إن أدعيتنا مثل البذور فلا يكفي

[ 214 ]

نثرها على الأرض، بل هي بحاجة إلى سقي وعناية خاصة واستخدام الأسمدة والسموم لمكافحة الآفات.

إنّ ما تقرّه الروايات هو ضرورة توافر الظروف والشروط وارتفاع الموانع لأجل الاستجابة. لكن المؤسف هنا هو توقعنا الأجابة من دون توفير هذين الأمرين، وذلك غير معقول.

نشير هنا إلى بعض من شروط وموانع استجابة الدعاء:

 

1 - عدم معرفة الله أهم مانع عن الإستجابة

بعبارة اخرى: أَنَّ معرفة الله من الشروط الاساسية بل أهم شرط لاستجابة الدعاء.

وهل يمكن الطلب مِمَّن لا يُعرف وممَّن نجهله؟!

في رواية عن الإمام الصادق(عليه السلام) سأله البعض عن سبب عدم استجابة الدعاء فأجابهم: «لأنّكم تدعون من لا تعرفونه».(1)

وعليه، فكما قلنا سابقاً: إنّ الدعاء يلقي بنور المعرفة في قلب الإنسان، والمعرفة هي الأساس للدعاء، أي أنّ لهذين آثاراً متبادلة.

يقول الله في القرآن: ( إنَّ الصَّلاة تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ )(2) أي أنَّ المجتمع المصلي لا يتلوّث بالذنوب وكذا الأفراد; لأنَّ الصلاة هي الضمان والأمان من الذنوب.

مع ملاحظة الآية الشريفة السابقة، لماذا نرى بعض المصلين يرتكبون الذنوب؟ هل الاشكال - نعوذ بالله - من الآية نفسها أم من المصلي ذاته؟ المصلي إذا ما كان عارفاً بالذي يصلي إليه ويسجد له، فإنَّ صلاته سوف لا تكون تأميناً له من الذنوب ومانعاً له عن المعصية. إنَّ معرفة الله جوهرة ثمينة وهي شرط لكثير من العبادات، بل هي شرط حتى للزيارات; وذلك لأنَّ ثواب وآثار الزيارات تخص ذلك البعض الذي تقترن زيارته بمعرفة اللّه.(3)


1. بحار الانوار 90: 368.

2. العنكبوت الآية 45.

3. نجد نموذجاً من هذه الروايات في كتاب وسائل الشيعة ج10 ابواب المزار، الباب 82.

[ 215 ]

وعلى هذا، فإنَّ الشرط الأوّل لاجابة الدعاء هو معرفة صفات جلال الله وجماله وأفعاله واسمائه الحسنى، وعلى كل شخص أن يحوي هذه المعرفة قدر طاقته وامكانه.

 

2 - النيّة الصادقة والقلب المخلص

إنَّ الشرط الثاني لاجابة الدعاء هو النية الصادقة والطاهرة والقلب المخلص والعاري عن الرياء.

وفي هذا المجال يقول الإمام الصادق(عليه السلام) «إنّ العبد إذا دعا الله تبارك وتعالى بنيّة وقلب مخلص استجيب له بعد وفائه بعهد الله عزّوجلّ».(1)

إنَّ العمل بعهد الله والوفاء به - والذي هو صفاء القلب والاخلاص في النية - هو شرط قبول الدعاء.

ينبغي الالتفات إلى كيفية تربية الدعاء للإنسان، إنَّا نطرق باب الله لقضاء الحاجة وحلّ المشاكل، إلاّ أنَّه علينا أن نعلم بعدم امكانية الاستجابة إلاّ بالاخلاص وصفاء القلب، لذلك كان علينا السعي في التزكية وتهذيب النفس.

 

3 - الاكل الحلال شرط مهم وصعب لاجابة الدعاء

يقول الرسول(صلى الله عليه وآله) في رواية جميلة جداً ومنذرة كذلك: «أطب كسبك تستجاب دعوتك، فإنّ الرجل يرفع إلى فيه حراماً فما تستجاب له دعوة أربعين يوماً».(2)

بعض الناس تلوثت أموالهم ومكاسبهم بالحرام وذلك بالتطفيف والربا وظلم الآخرين وعدم أداء الواجبات المالية، رغم ذلك يتوقعون من الله الإجابة.

المستفاد من الكلام الثمين لرسول الله(صلى الله عليه وآله) هو أنَّ الدعاء عامل مهم في تربية الإنسان ويحضُّ الإنسان على رعاية الحلال والحرام.


1. مكارم الاخلاق 2: 874.

2. مكارم الاخلاق 2:20.

[ 216 ]

من الإنصاف أن نقول: إنَّ رعاية الحلال والحرام له دور مهم في حياة الإنسان، وأنَّ الناس إذا اهتموا بهذا الجانب من حياتهم لما تكدست الاضبارات والشكاوى في المحاكم.

إذا راعى الناس الحلال والحرام ما كان مجتمعنا يضمُّ هذا المقدار من الفقراء.

أسفاً أنّ البعض غافل عن هذا ويبرّر عمله بشكل أو آخر ويقول: أين الحلال والحرام؟ لا وجود للحلال لكي نراه.

يقول أحد هؤلاء الذين يتمسكون بتبريرات هي هراء في الواقع: (إنَّ الحلال الوحيد في الدنيا هو ماء المطر ويمكنك الاستفادة منه في وسط النهر فقط لأنه مكان نطمئن بعدم غصبه، فعند هطول الامطار قف هناك وافتح فمك لتناول القطرات، وهذا هو المقدار الوحيد المسلّم بحليته).

إن أُناساً مثل هذا يخادعون أنفسهم ( يُخَادِعُونَ اللهَ وَالّذينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) . (1)

وبعبارة اخرى: أنَّهم يغالطون أنفسهم; وذلك لأنَّ حديثنا في الحلال والحرام الظاهريين، وهم يتحدثون عن الحلال والحرام الواقعيين، مع أنَّا مأمورون بالعمل حسب الظاهر لا الواقع.

ألم يهيء أئمتنا مأكولاتهم ومشروباتهم من سوق المسلمين هذا، وهم في الوقت ذاته يلتزمون بالظواهر ولا يحتاطون إلاّ في الاماكن المناسبة. مثلا كانوا يفيدون من الخبز واللحم اللذين لم تدفع زكاتهما؟

ومن المناسب لنا كذلك أن نعدّ مقدار استهلاكنا السنوي للخبز واللحم وندفع زكاته; لأنّ الكثير من المزارعين والرعاة لا يدفعون زكوات أموالهم ونحن نفيد من محصولاتهم ومنتجاتهم، وهذا مؤسف حقاً; لأنه ابتلاء لنا.

رغم أننا معذورون بسبب عدم العلم إلاّ أنَّ عدم الدفع سوف يترك أثره الوضعي. ولذلك كان عده ودفع زكاته أمراً مستحسناً ويسبب الطهارة القلبية والنزاهة الروحية.

النتيجة هي أنَّ الأكل الحلال لا يؤثر في الدعاء فحسب، بل في جميع عبادات الإنسان من


1. سورة البقرة: 9.

[ 217 ]

الصلاة والصوم والحج والزيارات الواجبة والمستحبة وأمثال ذلك. ومن ناحية أُخرى، انّ الأكل الحرام لا يمنع عن استجابة الدعاء، بل يؤثر سلباً على نشاط الإنسان ومعنوياته وعباداته وزياراته ويجره إلى الكسل عن قراءة القرآن واقامة الصلاة، وهو في النهاية يحول دون الالتذاذ بهذه الأعمال.

 

4 - حضور القلب

الشرط الرابع لاستجابة الدُّعاء هو حضور القلب، ومن الواضح أنَّه شرط ذات أهمية وقيمة; لما جاء في رواية: سُئل النبي(صلى الله عليه وآله) عن اسم الله الأعظم؟ فقال: «كل اسم من اسماء الله أعظم ففرِّغ قلبك من كلِّ ما سواه وادعه بأي اسم شئت».(1)

من هنا يتضح أنَّ الأسم الأعظم ليس لفظاً خاصاً - كما يتصوره البعض - لكي يُنطق به وتحل به جميع المشاكل، بل إنّه حالة وصفة خاصة ينبغي ايجادها في باطن الإنسان، وهي عبارة عن تطهير القلب.(2)

القلب إذا كان مركزاً للأصنام (صنم المال وصنم المقام وصنم الشهرة وصنم الزوجة والاولاد وما شابه ذلك) فالدعاء إذا صدر فيصدر من معبد الأصنام هذا. ومن الواضح أنَّ دعاءً كهذا لا يستجاب.

الخطوة الأولى للاستجابة هو الاقتداء بما فعله ابراهيم(عليه السلام) وعلي(عليه السلام) في كسرهما الأصنام، فبذلك تطهر القلوب، فهي آنذاك تصفى للواحد الأحد، ثم ادعه بأي اسم شئت، وسوف لا تكون النتيجة إلاّ الاستجابة.

مع الالتفات إلى الشروط الاربعة الماضية نقول: هل نحن وفرّنا هذه الشروط؟ هل كان طعامنا من حلال؟ هل كان قلبنا خالياً من الأغيار؟ هل كان الصفاء والاخلاص في النية هو الذي يحكمنا؟ هل كنا نعرف الله؟


1. بحار الانوار 90:322.

2. للمزيد راجع ما ورد عن (الاسم الاعظم) في تفسير الامثل فقد تناثرت البحوث في هذا المجال في ثنايا الكتاب.

[ 218 ]

إذا كنا نفقد هذه الشروط علينا السعي في كسبها وبخاصة في شهر رمضان المبارك، شهر الرحمة واللطف الالهي، وهو شهر تستعدُّ فيه روح الإنسان لهذه الامور أكثر، كما هو فرصة مناسبة للدعاء...

 

استجابة بعض الأدعية ليست بمصلحة الإنسان!

رغم أنَّا كُلّفنا بالدعاء ونأمل الاجابة، لكن ينبغي الالتفات إلى أنَّ إجابة بعض الأدعية ليس بمصلحة الإنسان رغم أنَّه يراها بمصلحته وأنها توفر سعادته، لكن الله يرى فيها الهلاك والشقاء لذلك لا يستجيب لها.

قلنا في قصة ثعلبة الانصاري التي مضت في البحوث السابقة: إنَّ ما أراده وطلبه من الله لم يكن بمصلحته، إلاّ أنَّه كان يصرّ على دعائه وطلبه، وكانت نتيجة الاستجابة هي فقده الايمان وضلالته واعتراضه على بعض القوانين الإلهية. وهذه القصة تتضمن دروساً وعبراً عظيمة للجميع.

قد يُقدم شاب على خطبة بنت ترفض الزواج منه، فيدعو الله ويتوسل إليه كثيراً لكي يميل رأيها ويغيره نحوه، رغم ذلك لا يستجاب دعاؤه، فتضلّ في ذاكرته فترة طويلة من الزمن، إلاّ أنّه يلتفت إلى مصلحة عدم استجابة الدعاء بعد ما يفهم أنَّ المرأة تلد اطفالا معتوهين مثلا.

وعلى هذا، ما علينا أنْ نقلق من عدم استجابة أدعيتنا; وذلك لأنَّه يمكن أن تكون عدم الاستجابة بسبب عدم المصلحة. إضافة إلى هذا، فإنَّ هناك روايات وردت عن المعصومين(عليهم السلام) حكت عن أنَّ الله يعطي العبد في الآخرة ما يعادل أدعيته غير المستجابة.(1)

 

سؤالان مهمان عن الدعاء

السؤال الأوّل: نجد فيما ورد عن أئمتنا أدعية لا تستجاب أبداً، كما هو الحال في أدعية شهر


1. لقد وردت في هذا المجال روايات كثيرة حكت عن وجود أثر للدعاء حتى لو لم يستجب. راجع ميزان الحكمة، الباب 1209.

[ 219 ]

رمضان الذي تضمّن بعضها عبارة: «اللهم اقضِ دين كلّ مدين» مع أنَّا نعلم أنَّ هذا الدعاء لا يستجاب; لأنَّه ما دامت الدنيا موجودة فهناك ديون للناس، والحياة من دون هذه الديون حياة خيالية لا أكثر، فما الهدف من هذه الأدعية؟

الجواب: إنَّ الديون على قسمين، قسم نشهد ممارسته من قبل التجار والكسبة بأن يستلفوا السلع دون دفع ثمنها، ويسددون الثمن بعد بيعها، أو استلاف الموظفين والعمال السلف من أصحاب العمل، وتسديدها تدريجياً من إيراداتهم الشهرية.

والقسم الآخر هو الدين الذي لا تتوفر للإنسان أرضية دفعه، رغم ذلك هو مجبور على استلافه ويعلم بعجزه عن الدفع. ويبدو أنَّ مراد الامام من الدين هو القسم الثاني لا الأول.

القسم الثاني من الديون لا أنه يستحسن الدعاء فيه ويمكن تحقق الاجابة له، بل إنَّه بناءً على ما أمر به الإسلام ينبغي تزامن الدعاء مع اجراءات عملية; وذلك لأنَّ في المجتمع الإسلامي المتكامل - وهو مجتمع صاحب العصر والزمان (عج) - لا ينبغي وجود حتى جائع واحد أو عار واحد أو فقير واحد، لذلك نقرأ في الدعاء: «اللهم أشبع كلَّ جائع، اللهمَّ اكسُ كلَّ عُريان، اللهم أغن كلّ فقير».

إنَّ شاهد هذا الحديث هو رواية وردت عن الإمام الصادق(عليه السلام): «إنَّ الله عزّوجلّ فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم، ولو علم أنّ ذلك لا يسعهم لزادهم».(1)

ومضمون الرواية السابقة وغيرها هو أنَّ الناس لو دفعوا ما عليهم من واجبات مالية لما بقي جائع ولا فقير ولا عاري في المجتمع، وإذا وجدت هذه الشرائح فبسبب عصيان الاغنياء ومنعهم الفقراء عن حقهم.

إنَّ مجتمع صاحب الزمان يخلو من الفقر والجوع والدين... والدعاء لرفع هذه المشاكل لا تبعد إجابته.

السؤال الثاني: من الاعمال ذات الفضيلة الوافرة في ليلة القدر هي وضع القرآن على


1. وسائل الشيعة ابواب الزكاة، الباب 1، الحديث 2 و 3 و 6 و 9.

[ 220 ]

الرأس، رغم أنَّ القرآن كوصفة الطبيب ( وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ للمُؤمِنِيْنَ )، ولكنها وصفة لا تنفع إلاّ بعد العمل بها، فما جدوى وضع القرآن على الرأس عند الدعاء في تلك الليلة؟

الجواب: القرآن ذات جانبين ووصفة الطبيب ذات جانب واحد. فإنَّ القرآن هو كلام الله من جهة، وهو ذات الفاظ بذاتها مقدسة من جهة أُخرى. ولذلك يعتقد المسلمون بلزوم الوضوء إذا أرادوا لمسه. ومن جهة أخرى، مضمونه مقدس، لذلك عدّ القرآن (الثقل الأكبر) وأهل البيت(عليهم السلام) (الثقل الأصغر)، ولهذا لا يصح قياس وصفة الطبيب على القرآن.

بالطبع، انَّ هذا العمل (وضع القرآن على الرأس) يحمل في طياته رسالات خاصة، فهو يعلمنا لزوم عدم وضع القرآن تحت الأيدي والارجل (من حيث الظاهر)، ومن حيث المحتوى والمضون فهو يعلمنا اعتبار القرآن على رأس قائمة الاعمال والنشاطات، وعلى العمل بقوانينه بشكل متواصل، وعدم نسيان أحكامه.

[ 221 ]

 

 

المثل الحادي والعشرون: الحق والباطل

 

من أجمل امثال القرآن هو مثل الحق والباطل، يقول الله تعالى في بيان هذا المثل ذات المغزى العميق في الآية 17 من سورة الرعد:

( أنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أوْدِيةٌ بِقَدَرِهَا فاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدَاً رَابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَة أوْ مَتَاع زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلك يَضْرِبُ اللهُ الحقَّ والبَاطِلُ فأمَّا الزَّبَدُ فيَذهَبُ جُفَاءً وأمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلك يَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ ) .

 

تصوير البحث

إنَّ الحديث في هذا المثل عن الحقّ والباطل وسعتهما ومجاليهما وعلائمهما وآثارهما وتعريفهما، وفي النهاية المواجهة الطويلة والمتواصلة بينهما التي كانت على طول التاريخ.

 

الشرح والتفسير

( أنْزَلَ مِنَ السّمَاءِ مَاءً فسالَتْ أوْدِيةٌ بِقَدَرِهَا ) إنَّ نتيجة هطول الامطار على الجبال ونزوله منها هو تجمع المياه في الاودية حسب حجمها، وجريانه وصيرورته أنهاراً صغاراً، وإذا التقت صنعت نهراً كبيراً، واذا تجاوز الماء سعة النهر تبدّل إلى سيول عظيمة ومخرّبة.

( فاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً ) هذه الانهار كثيراً ما يحصل فيها أمواج تضرب الاحجار والموانع التي تقع في طريقها، وهذه العملية توجد زبداً في الماء يشبه الزبد الذي يوجده

[ 222 ]

مسحوق الغسيل، يتجمّع على سطح النهر يبدو ساكناً، أمّا النهر فيستمر في حركته تحت الزبد.

( ومِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِليَة أو مَتَاع زَبَدٌ مِثْلُهُ ) هذا الزبد الاجوف والمتكبّر لا يختص بالماء بل قد يحصل للفلزات عند الصهر والذوبان مثل الحديد والنحاس وغيرهما.

ما يلفت النظر هنا هو أنَّ عبارة ( مِمَّا يُوْقِدُونَ عَلَيْهِ ) أشارت بظاهرها إلى أنَّ النار تُسلّط من الفوق على هذه المعادن رغم أنَّ النار في السابق كانت توقد على الفلزات من تحت أمّا حالياً فمعامل الصهر المتطوّرة تسلّط النار من فوق ومن تحت أي لم تستغن عن تسليط النار على الفلز من الاعلى، وهو أمر أشار له القرآن منذ ذلك الحين.

( كَذَلك يَضْرِبُ اللهُ الحَقَّ والبَاطِلَ ) أي أنَّ الله لأجل إيضاح المواجهة بين الحق والباطل والتي يمتد عمرها إلى طول التاريخ يضرب هذا المثل، فيشبّه الحق بالماء والباطل بالزبد الأجوف.

( فأمّا الزّبدُ فيَذْهَبُ جُفَاءً ) فإنَّ الزبد، رغم تفوقه على الماء ورغم علوه عليه، يذهب جفاء وكأنَّه لا شيء. إنّ الأمواج التي توجدها السيول هي السبب في ايجاد هذا الزبد، وبمجرد أن تصل المياه المتلاطمة إلى سهول تصبح آسنة وسرعان ما يذهب الزبد وتترسب الاوساخ العالقة في الماء ولا يبقى إلاَّ الماء الخالص; ذلك لأنّ عمر الباطل قصير، والهلاك هو نهايته.

( وأمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ ) فالذي يبقى هو ما ينفع الناس من الماء الصافي والفلزات الخالصة. فالماء، إمَّا أن يركد في مكان يستخدم للشرب والسقي وإمَّا أن ينفذ في الأرض ليلتحق بالمياه الجوفية ذخراً للمستقبل، يستخدم بعد ما يخرج كعيون تلقائياً أو من خلال حفر الآبار.

( كَذَلك يَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ ) أي يبيّن الله هذه الأمور للناس في صورة أمثال لكي تدرك بشكل أفضل.

 

خطابات الآية

لقد تناولت الآية قضايا دقيقة جداً ممّا يتعلّق بالحق والباطل باقتضاب، نقوم هنا بتفصيل هذه القضايا وبيانها.

[ 223 ]

1 - تعريف الحق والباطل

على أساس هذه الآية، فإنَّ الحق يعني الحقائق والواقعيات، وأما الباطل فيعني الاوهام والخيالات التي لا أساس لها.

إنَّ الماء واقع وحقيقةً، يتطابق ظاهره مع باطنه، وله آثار واقعية. أمّا الزبد فله ظاهر خادع من دون أن يكون له باطن، كما هو الحال في الخيالات والاوهام.

لقد جاء في الآيتين 117 و 118 من سورة الاعراف في بيان قصة موسى(عليه السلام) مع السحرة كما يلي: ( وأوْحَيْنَا إلى مُوْسَى أنْ ألقِ عَصَاكَ فإذا هِيَ تَلْقَفُ ما تَأفِكُونَ فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) .

إنّ الحق هو معجزة النبيّ موسى(عليه السلام)، والباطل هو سحر السحرة، فالمعجزة حقيقة وواقع; لأنَّ عصا موسى(عليه السلام) تبدلت واقعاً إلى أفعى ولم تكن الحادثة تلك شعوذة - نعوذ بالله - أمّا أفاعي السحرة فكانت شعوذة خالصة ولم تكن واقعاً، بل إفكاً، كما يعبر عنها القرآن.

إنَّ السحرة كانوا قد أعدوا عصياً وحبالا ملؤوها بالزئبق، ووضعوها جميعاً في مكان ما، وكان الناس وفرعون والسحرة وكذا موسى(عليه السلام) جالسين يشاهدون ما يحصل. عندما سطعت الشمس على هذه الحبال والعصي ارتفعت درجة حرارة الزئبق، الأمر الذي جعل الحبال والعصي تتحرك وتلتوي على بعضها البعض بحيث تبدوا كانها أفاعي، ولكنَّها في الواقع خيال لا أكثر.

 

2 - علائم الحق والباطل

مما يستفاد من الآية هو أنَّ علامة الحق كونه مفيداً للناس، وعلامة الباطل كونه مضراً لهم، فالماء مفيد وله تأثير، والزبد مضر ولا فائدة تتوخى منه; وذلك لأن الزبد لا يروي ضمأ العطشان ولا يسقي الزرع ولا يُنميه ولا يولّد شيئاً من الطاقة، ولا يُشغّل طاحونة أو دولاباً.

ومن العلائم الاخرى للحق والباطل هو كون الحق خاضعاً ومتواضعاً، أما الباطل فمتكبر. فالحق هو الماء المتواضع تحت الزبد، وأما الباطل فهو الزبد العالي والمتكبّر.

العلامة الثالثة للحق والباطل هو أنَّ الباطل ضوضائي، أما الحق فهاديء وساكن. فالماء

[ 224 ]

هادئ وساكن، أمّا الزبد فصارخ وصاخب، ولا يمكنه العيش دون هذا الضوضاء والصراخ والصخب.

 

3 - سعة الحق والباطل

إنَّ سعة الحق والباطل بسعة مفاهيم الحياة. فالحق والباطل لا ينحصران في جانب من الحياة، بل يعمان جميع شؤونها ويشملانها، من السياسة والثقافة والصحافة وغير ذلك. وبعبارة اخرى: يشمل جميع الجوانب المادية والمعنوية للحياة. وهذا المعنى يستفاد من القرآن المجيد ومن آية المثل ذاتها، فكما أنَّ الزبد لا يختص بالماء كذلك الباطل لا يختص في شيء ما.

 

4 - عاقبة المواجهة بين الحق والباطل

في هذه المواجهة يبقى الحق ويزهق الباطل ويمحق، إلاّ أنَّ انتصار الحق على شكلين مؤقت وزمني وآخر نهائي. إن أنصار الحقّ إذا استقاموا ولم ينحرفوا فسينتصرون في أزمنة مختلفة ما داموا مستقيمين غير منحرفين، أمّا النصر النهائي فلا يحصل إلاّ بظهور صاحب العصر والزمان بقية الله الأعظم (عجل الله تعالى فرجه)، وحينئذ سيتغير وجه الدنيا وستحكم الدنيا حكومة عالمية حقة.

من الآيات التي فسرت في الحجة بن الحسن العسكري(عليه السلام) هي هذه الآية، حيث فسِّر الماء في المثل بوجود الحجة المبارك، والزبد بالظلم والجور والانتهاز والاستعمار فانها ستزول يوماً ما.

 

5 - المواجهة بين الحق والباطل دائمة

كما أشرنا سابقاً، فإنَّ المواجهة بين الحق والباطل بدأت منذ بداية الخلق، والعصور جميعها ضمت هذين الظاهرتين، وستضم العصور المقبلة هذين الظاهرتين وستستمر هذه المواجهة

[ 225 ]

حتى النهاية. لقد كان لكل نبي شيطان،(1) فقبال آدم(عليه السلام) كان ابليس، وقبال الأنبياء الآخرين شياطين اخرون، كما تكشف الآية التالية عن هذا الأمر: ( وَكَذَلك جَعَلْنَا لُكِلِّ نبىّ عَدُّواً شَيَاطِينَ الأنْسِ والجِنِ ).(2)

المستفاد من الآية الشريفة هو أنَّ الشيطان ليس شيئاً خفياً دائماً، بل قد يكون من الناس أنفسهم، وقد يكون هذا هو سبب تقديم الآية شياطين الانس على الجنّ.

وعلى هذا، فإنَّ المواجهة بين الحق والباطل لا زالت مستمرة حتى استقرار حكومة الحق وبسط سيطرتها على بقاع الأرض جميعاً، وتتحقق الآية الشريفة التالية: ( وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوْقاً )(3) في ظل ظهور المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، والمواجهة قبل ذلك متواصلة.

 

6 - كيفية تبلور الباطل

كيف نشأ الباطل وتبلور؟ هل الله تعالى هو الذي خلق بعض الموجودات الباطلة رغم أنَّه حق بل ابرز وأرفع حق؟

إنَّ الباطل موجود عدمي وهو وهم وخيال قد تلبّس ثوب الحق، مثل الزبد الأجوف، ذات الظاهر الخلاب والخادع.

الجميل هنا هو أنَّ الباطل اذا عمل على إبطال نفسه فذلك ببركة الحق. إنَّ المزيفين - الذين يعتمدون الزيف كمهنة لهم - إذا لم يتقمّصوا قمصان ذوي الشأن والاعتبار سوف لا يتوفقون في عملهم الباطل هذا، كذلك الكذّابين فإنَّهم إذا لم يتمسكوا بالحق ولم يتظاهروا بالصدق لما صدّقهم أحد. والمنافق إذا لم يرتدِ ثوب الإنسان الصالح، والعدو إذا لم يتقمص قميص الصديق،


1. للشيطان معنيان، الف: هو من مادة (شطن) وتعني (بعد)، ولذلك كان (بئر شطون) يعني بئراً عميقاً، فالشيطان حسب هذا التفسير موجود بعيد عن رحمة الله. ب: قد يكون من مادة (شاط) ويعني (احترق) و (هلك)، وعلى هذا الشيطان يعني الموجود الذي يهلك ويحترق هو وأتباعه.

2. الأنعام: 112.

3. الاسراء: 81.

[ 226 ]

والزبد إذا لم يطفو على الماء، وبالجملة مالم يجتمع الباطل بمختلف مصاديقه إلى جنب الحق فلا تكون هناك مواجهة. وعليه فالباطل عدمي ووجوده يتوقف على الحق. أمّا الحق، فأمر وجودي وهو مصدر البركات والمنافع وذا آثار كثيرة للإنسان.

 

الحق والباطل من وجهة نظر الآيات والروايات

بما أنَّ أهم بحث في حياة الإنسان هو قضية (الحق والباطل)، وهي تحضى بموقع خاص عند جميع البشر بمختلف توجهاتهم الفكرية، لذلك كان من المناسب دراسة هذه القضية من وجهة نظر الآيات والروايات:

لقد تحدث القرآن عن الحق والباطل بمقدار كثير، وتكررت مفردة الحق 244 مرة، مع أنَّ مفردة الباطل تكررت 26 مرة فقط.

وهذه النسبة تكشف عن أنَّ القرآن المجيد ذاته من مصاديق الحق.

 

ما هي مصاديق الحق؟

لقد ذكر في القرآن مصاديق مختلفة للحق نشير إلى بعض منها هنا:

1 - أبرز وأرفع مصداق للحق هو ذات الله القدسية، وهي في الحقيقة جامعة لجميع مصاديق الحق، وهي عين الواقع والوجود المطلق.

من هنا صرّح الله في الآية الكريمة 62 من سورة الأنعام ما يلي: ( ثُمّ رُدُّوا إلى اللهِ مَوْلَيهُم الحَقِّ ألا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أسْرَعُ الحَاسِبِيْنَ ) فعلى أساس هذه الآية، إنَّ الله الذي لا مثيل له هو الحقّ.

2 - النموذج الآخر وهو من أبرز مصاديق الحقّ عبارة عن خلق السموات والأرض أو الكون أجمع.

تقول الآية الشريفة 22 من سورة الجاثية: ( وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ والأرْضَ بالحَقِّ ) .

3 - المصداق الثالث للحق هو القرآن نفسه; وذلك لأن الآية 48 من سورة المائدة عند بيانها لهذا المطلب تقول: ( وأنْزَلْنَا إليْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ ) .

[ 227 ]

4 - الدين المبين والمنقذ للبشرية، أي الإسلام، وهو مصداق واضح آخر من مصاديق الحق. لذلك يقول الله تعالى في الآية 28 من سورة الفتح: ( هُوَ الّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ بالهُدَى وَدِيْنَ الحَقِّ ليُظْهِرَهُ عَلَى الدِّيْنِ كُلِّهِ ) . (1)

وخلاصةً، كل وجود هو منبع لخير البشر وسعادتهم يُعدّ حقاً، لذلك كان الله الحق المطلق; لأنَّه منبع جميع البركات والسعادات، كما أن السماوات والأرض والقرآن المجيد ودين الإسلام والتوحيد، باعتبارها جميعاً منشأ للهداية والبركة، عدّت حقاً.

وكل شيء هو منبع ومصدر للشقاء فهو باطل، مثل الشيطان والأصنام وعبادتهما والرياء والتظاهر والنفاق وامثال ذلك.

 

جولة الباطل ودولة الحق

المستفاد من الروايات هو أنَّ الباطل قد يكون له جولة وصراخ وصخب إلاّ أنَّ عمره مهما كان فهو قصير ومؤقّت: «للباطل جولةٌ وللحقّ دولة»(2) والدولة هي الثبات والبقاء والخلود، والجولة هي النفاق والخداع المؤقت.

 

كن مع الحق دائماً

حسب ما ورد في الروايات الإسلامية، على المسلم في كل حال أن يكون مع الحقّ والحقيقة. إذا أردت التسلّح بسلاح النصر أمام الأعداء، فعليك التمسك بسيف الحقّ الصارم، كما قال الإمام علي(عليه السلام): «الحق سيف قاطع».(3)

إذا أردت أن تكون من أهل النجاة في مقام العمل، وأن تكون صاحب حجة وبرهان في مقام الكلام، فعليك بالتوجّه نحو الحقّ، كما يقول الإمام علي(عليه السلام): «الحقّ منجاة لكل عامل


1. وقد تكررت الآية ذاتها في سورة الصف الآية 9.

2. غرر الحكم: 68 و71، طبع مركز البحث والتحقيق للعلوم الإسلامية.

3. ميزان الحكمة، الباب 885، الحديث 4082.

[ 228 ]

وحجّة لكلِّ قايل».(1)

إذا أردت من الاخرين قبول كلامك، واذا ابتغيت النصر، فقل الحقّ والتزمه. وإذا أردت مركبا هادئاً يوصلك إلى غايتك فكن مع الحقّ. يقول الإمام علي(عليه السلام) : «ألا وإنّ الحق مطايا ذلل، ركبها أهلها، وأعطوا أزّمتها، فسارت بهم الهوينا حتى أتت ظلاًّ ظليلا».(2)

 

الحق مرُّ والباطل حلوٌ

تقترن مع الحق والدفاع عنه مشاكل; وذلك لأنّه مرُّ والباطل حلو.

إنَّ مرارة الحقّ كمرارة الدواء الذي فيه شفاء، وحلاوة الباطل كحلاوة السم القاتل، لذلك قال الرسول(صلى الله عليه وآله): «الحق ثقيل مرٌّ، والباطل خفيف حلوٌ، ورُبَّ شهوة ساعة تورث حزناً طويلا».(3)

نعم، انَّ الحقّ ثقيل ومرّ; لأنَّه لا يكون في صالح الإنسان دائماً بل قد يضره، وقد يكون عكس ما تروق له النفس والشهوات الإنسانية، وقد يتزامن مع لوم الاخرين وعتابهم ومع مشاكل جمّة يثقل على الإنسان تحّملها، أما الباطل فخفيف وحلو، لكنه كالسم القاتل، لذلك قد يؤدي إلى ندم يرافق الإنسان حتى موته، كما لو ارتكب الإنسان ذنباً لم يستغرق فترة طويلة، لكن عقابه الحبس المؤبد، فذلك يعني كفارة ساعة من الذنب عمر في الحبس والسجن.

 

الباطل يتقمّص قميص الحق دائماً

المهم هنا هو أنّ الباطل لا يظهر بثوبه الحقيقي دائماً; وذلك لأنَّ اتضاح واقعه يعني عدم تمكّنه من الخداع، بل إنّه يظهر بمظهر الحق لكي يغرَّ ويخدع الكثير.

يقول الإمام علي(عليه السلام) في هذا المجال في الخطبة رقم خمسين من نهج البلاغة: «يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان، فهناك يستولي الشيطان على أوليائه».


1. ميزان الحكمة، الباب 885، الحديث 4084.

2. ميزان الحكمة، الباب 885، الحديث 4089.

3. ميزان الحكمة، الباب 888، الحديث 4100، وقد جاءت روايات أُخرى في نفس الباب تضمنت المعنى ذاته.

[ 229 ]

أي بما أنَّه لا زبون للباطل المحض، لذلك يمزجه أتباعه مع شيء من الحق ليبدو وكأنه حقّ، فعندئذ يأتي دور الشيطان ليستولي على أوليائه وأصحابه.

لذلك علينا أن لا ننخدع بالظاهر، إذا أردنا شراء كتاب مثلا فما علينا أن ننخدع بغلافه الجميل أو يغرّنا عنوانه الخلاّب وشعاراته; وذلك لأنّ أهل الباطل قد يستخدمون هذه الخدع لترويج سمومهم وأباطيلهم. وهذا الأمر نفسه صادق بالنسبة للافلام والمسرحيات والجرائد والمجلات والاساتذة والمعلمين والجيران والأحزاب و...

إنَّ أهل المعرفة والبصيرة هم الذين يميزون الباطل عن الحقّ، وذلك لما أعطاهم الله من (فرقان) منحةً لتقواهم.

 

علي(عليه السلام) محور الحقّ

هناك الكثير من المطالب المدونة عن فضائل الإمام علي(عليه السلام) وشخصيته وردت في كتب السنة والشيعة، ومن جملة ما اتفق الفريقان على نقله هو الحديث العجيب واللطيف القائل: «علي مع الحقّ والحقّ معه وعلى لسانه، والحقّ يدور حيثما دار عليّ»(1) وهو حديث منقول عن الرسول الاكرم(صلى الله عليه وآله).

إنّ هذا الحديث مقياس معتبر لتمييز الحقّ عن الباطل; ولذلك أفادت بعض الروايات أنَّ المسلمين في صدر الإسلام عندما يتشابه عليهم المسلمون والمنافقون والمتظاهرون بالإسلام ويصعب تمييز ذلك، أفادوا من هذا المقياس واعتبروا المسلمين هم المحبون لعلي وأتباعه، المنافقون هم الذين يكنّون العداء والبغض له.(2)

إنَّ الشيعة تفتخر بأن لها زعيماً عظيماً ومحقاً ما كان يمنعه شيء عن احقاق الحقوق، ما كان يتحمل الانحراف عن جادة الحقّ ولو كان صادراً من صحابي أو أحد أقربائه، وكان يأمر بالجبران بمجرد حصوله.


1. بحار الانوار 38: 82، الملفت هنا هو أنَّ مضمون هذه الرواية عنوان لباب مفصّل، والرواية الواردة هنا نموذج من روايات ذلك الباب.

2. لقد جاء حديث بهذا المضمون في ميزان الحكمة الباب 3932، الحديث 20292.

[ 230 ]

من جملة مصاديق هذا الكلام هو قصة قنبر غلام علي الوفي وعضده التنفيذي في حكومته، لقد أُمر هذا الغلام بإِجراء حدِّ الجلد، إلاّ أنه أخطا في التنفيذ وزاد على الحدّ ثلاث جلدات على المجرم، فأمر هذا القائد المحق قنبر أن يعدّ نفسه لأجل اقتصاص المجرم منه.(1)

ونقرأ في قضية عقيل أنه ما وافق منحه شيئاً زائداً على ما منحه للمسلمين، بل أحمى حديدة وقرّبها من يد عقيل، فصاح عقيل من شدّة الحرارة.(2)


1. وسائل الشيعة ج81، أبواب مقدمات الحدود، الباب 3، الحديث3.

2. تقدم بيان هذه القصة في البحوث السابقة.

[ 231 ]

 

 

 

 

المثل الثاني والعشرون: التقوى جواز دخول الجنة

 

يقول الله تعالى في الآية 35 من سورة الرعد:

( مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتي وُعِدَ المُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ أكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقوا وعُقبى الكَافِرِيْنَ النَّارُ ) .

 

تصوير البحث

الآية السابقة، رغم بساطة ظاهرها، تعدّ من أعقد الأمثال القرآنية، إنها بتّت بتشبيه الجنة - التي هي مأوى المتقين - وذكرت لها ثلاث خصال.

 

الشرح والتفسير

إنَّ التشبيه المستخدم في الآية يبدو تشبيهاً بسيطاً، إلاّ أنَّه في الواقع - كما قلنا سابقاً - من أعقد التشابيه المستخدمة في القرآن المجيد.

يعتقد المفسّرون أنَّ في الآية شيئاً محذوفاً، وهو جملة يجب تقديرها إمَّا في بداية الآية لكي تتلقى الآية خبراً للمبتدأ المحذوف، أو أن نقول بأنَّ صدر الآية مبتدأ، وخبرها محذوف.

نعتقد نحن أنَّ خبر الآية محذوف، ولأجل اتضاح الأمر نقدّم مقدمة:

 

المراحل الأربع قبل الولادة

إن الإنسان يجتاز أربع مراحل ليكتمل ويكون إنساناً.

[ 232 ]

في البداية يكون الإنسان عبارة عن تراب تنمو فيه نبتة أو شجرة، فيصبح هذا التراب جزءاً من النبات، يأكل حيوان ما هذا النبات ليصبح جزاءاً من بدنه، يتناول الإنسان لحم هذا الحيوان فيصبح لحم الحيوان هذا جزءاً من بدن الإنسان.

يمكن بيان المراحل الأربع هذه بشكل آخر بأن نقول: إن الإنسان كان تراباً في يوم من الإيام (المرحلة الأولى) ومن الطبيعي أن الإنسان لا يمكنه تناول التراب مباشرة بل ما تبدّل منه إلى نبات أو حيوان (المرحلة الثانية) في (المرحلة الثالثة) يتبدل النبات أو الحيوان إلى نطفة إنسانية. الجنين في مراحله الأولى ينمو نمواً نباتياً; لأنه يفقد الحس والحركة، فهو ينمو فقط، وبعد الشهر الرابع حيث يكون قادراً على الحركة والحس، و عندها تبدأ (المرحلة الرابعة)، وهي تستمر حتى تعلّق الروح بالجنين.

إنّ لهذه المراحل الأربع عجائب كثيرة، والمرحلة الجنينية من أعجبها.

 

عجائب من عالم الجنين

استطاع العلماء اليوم إعداد صور حيّة عن الجنين، وصنع فيلم مدّته نصف ساعة يصوّر المراحل الجنينية جميعها، وهذا الفيلم بمثابة هدية عجيبة قدّمت للإنسانية في عصرنا الحالي.

كيف استطاع الله خلق هذه العجائب كلها؟ نلفت انتباهكم إلى نموذجين من هذه العجائب.

1- نطفة الإنسان تبدأ من خلية واحدة، ثم تنتصف هذه الخلية لتصبح اثنين، وكلٌّ من هذين الخليتين ينتصفان كذلك لتصبح الخلايا أربعاً، ويستمر الانقسام هكذا بشكل تصاعدي. إنّ هذا التكاثر في الخلايا يستمر حتى تتكون خلايا متشابهة بالكامل وتنقسم حيندئذ إلى مجاميع. بعض منها يتكفل بخلق رأس الإنسان وبعض يؤمر بخلق العين أو اليد أو الرجل أو غير ذلك.

إنَّ هذه الخلايا جميعاً متشابهة لكن كيف حصل أن تخصصت البعض في صنع اليد والبعض الآخر بصنع الرجل؟ من أمر هذه الخلايا بالصنع المختلف رغم التشابه الموجود فيها؟ كيف تلهم هذه الخلايا؟ ومن الذي ألهمها هذه القابلية؟! لم يستطع أحد الكشف عن هذه الأسرار بعد.

[ 233 ]

2- إنَّ الجنين في بطن أمه يسبح في كيس خاص مليء بسائل غليظ وزنه يعادل وزن الطفل تقريباً. وعلى هذا، فالجنين لا يضغط بشكل مباشر على جسم الأم، كما أنَّ الأُم لا تحمّل الطفل ضغطاً مباشراً. يا ترى ما يحدث لو لم يكن ذلك الكيس؟

كيف يمكن للجنين أن يحافظ على نفسه ويستمر في حياته رغم ظرافته ونعومته ورغم ما يتعّرض له من ضربات تنشأ عن الجلسة الخاصة للأُم أو نومها في اتجاهات مختلفة؟

أعدَّ الله العالم القادر محيطاً وبيئة للجنين تشبه حالة الإنسان عند فقدان الجاذبية، بحيث لا يتأثر بالضغط إذا تعرض له مهما كان اتجاهه، ولهذا عندما يلد يشعر بالوزن، الأمر الذي يحرّضه على الصراخ والصياح.

إنَّ كيس السائل هو أفضل مكان للجنين. فإنَّ هذا الكيس يصدّ الضربات من أي اتجاه وردت، كما أنَّه يعدّل درجة الحرارة، بحيث إنَّ الام اذا تعرّضت للحرارة الشديدة أو البرودة الشديدة سوف لا تنتقل هذه الحرارة أو البرودة إلى الجنين مباشرة، بل ينتقلان إلى الجنين بعد مرورهما بالسائل الموجودة في الكيس ودور السائل هنا هو تعديل درجة الحرارة ونقلها بعد ذلك لجسم الجنين.

وعلى هذا الأساس، يقول الله في الآية السادسة من سورة الزمر: ( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس وَاحِدَة ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وأنْزَلَ لَكُم مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أزْوَاج يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْق فِي ظُلُمَات ثَلاث ذلِكُم اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ لاَ إلهَ إلاّ هُوَ فأنَّى تُصْرَفُونَ ) . (1)

 

مراحل كمال الإنسان الأربع

لاجل بلوغ الكمال، على الإنسان أن يطوي أربع مراحل أو عوالم:

1 - عالم رحم الاُم. 2 - عالم الدنيا. 3 - عالم البرزخ. 4 - عالم القيامة.

والمدهش هنا أنَّ الإنسان يجتاز كل مرحلة، وهو لا يعلم بالضبط بما تضمّ وتؤول إليه المرحلة اللاحقة. إنَّ الطفل في رحم الام لا يمكنه تصوّر مفاهيم الدنيا، حتى لو كان له عقل


1. وقد أشارت الآية 14 من سورة المؤمنون إلى نفس المضمون.

[ 234 ]

وذكاء كذكاء وفهم ابو علي ابن سيناء، وحتى لو استطاع أن يتواصل مع امه لتحكي له عن القمر والشمس والليل والنهار والنجوم والاشجار والأزهار والنباتات، وقد استطاعت أن تبيّن له هذه الأمور بأفصح بيان وأبلغه، رغم ذلك فهو سوف لا يفهم شيئاً. إنَّ مثلنا نحن بالنسبة إلى البرزخ كمثل هذا الطفل بالنسبة إلى الحياة الدنيا، نحن سمعنا بوجود عالم باسم البرزخ قطعاً، لكن ما هي الف باء تلك الحياة؟ ما معنى أنّ الشهداء هناك أحياء؟ كيف أنهم يرزقون في ذلك العالم؟ كيف يعذّب الله الروح أو ينعم عليها؟

نحن لا ندرك أياً من هذه الامور. إنّ بعض اولياء الله استطاع أن يتصل بعالم البرزخ فسأل أهل البرزخ عن ذلك العالم فأجابوه لا يمكننا وصف هذا العالم بالألفاظ والمفاهيم التي تدركونها انتم في الحياة الدنيا. إنّ مثل مفاهيم البرزخ وألفاظ الدنيا كمثل المصفاة والماء، وهل يتوقف الماء في المصفاة؟!

إنَّ موقف البرزخيين تجاه مفاهيم القيامة كموقفنا تجاه البرزخ لا يمكنهم استيعاب نعم الجنة، كما لا يمكنهم استيعاب أنواع العذاب في جهنّم.

وعلى هذا الأساس، تقول الآية الشريفة 17 من سورة السجدة: ( فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِىَ لَهُم مِنْ قُرَّةِ أعْيُن جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) .

إذا أخذنا مفردة (نفس) باطلاقها كانت شاملة للأنبياء والائمة - صلوات الله عليهم أجمعين - وذلك يعني هؤلاء أيضاً لا يعلمون ما أُعدَّ للمؤمنين من نعم في الجنة.

جاء في حديث قدسي ما يلي: «أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».(1)

أي أنَّها نعم لم ترَ في المنام ولا في اليقظة ولا في عالم الخيال ولا التصور، وذلك لأنّ عالم القيامة لا يمكن استيعابه.

وعلى هذا، فمن جهة أنَّ مفاهيم عالم القيامة مفاهيم لا يمكن استيعابها وإدراكها، ومن جهة أخرى ينبغي بيان نعم الجنة وعذاب الآخرة بشكل يسوق البشر نحو الأعمال الحسنة ويبعدهم عن الأعمال السيئة.


1. ميزان الحكمة، الباب 546، الحديث 2529.

[ 235 ]

من هنا كان توصيف وبيان هذه الحالات والأعمال بالالفاظ الدنيوية أمراً مستحيلا ولا يمكن بيانها بوضوح، لذلك كان علينا مزاولة هذا العمل باستخدام المفاهيم الدنيوية المشابهة لتلك المفاهيم والألفاظ الأقرب لهذا البيان، لترتسم بذلك صور قريبة لواقع النعم والعذاب الاخروي.

كمثال على ذلك، عندما يقال بأنَّ في الجنة أشجاراً، فإنّه لا يمكن القياس والمقارنة بين فوائد الأشجار في العالمين. وبالنسبة إلى تفسير الآية 54 من سورة الرحمن ( وَجَنَى الجَنّتَيْنِ دَان ) فيقال: إنَّ ثمار أشجار الجنة قريبة غير بعيدة بحيث تكون سهلة الوصول. وفي تفسير الآية 48 من السورة المذكورة ( ذَوَاتَا أفْنَان ) يقال: إنّ الغصن الواحد يضمّ ثماراً مختلفة، لكن لا يعرف أنَّ الثمار هناك هي نفسها التي هنا.

أو أنَّ أصحاب الجنة إذا ما أرادوا الاصغاء إلى الأنغام والموسيقى، أخذت غصون الاشجار تتلاطم وتخرج من نفسها أصواتاً وأنغاماً.

وعلى هذا، فنحن ندرك وجوه الشبه بين أشجار الدنيا والآخرة، لكنا لا ندرك ولا نشعر بها ولا بما يتولد من أنغام وموسيقى وثمار.

 

إيضاح

مع الالتفات إلى المقدمة، فإنَّ الآية من جملة الآيات التي هي في صدد عرض تشابيه للجنة، وبيان أو ترسيم موقع المتقين فيها. من هنا كان خبر الآية محذوفاً، أي أنَّ الآية كانت بهذا الشكل: ( مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ كجنة تََجْرِي... ) أي أنَّ في الجنة بساتين ليست مثل بساتين دنيانا; لأنّه أولا: أن منابع المياه فيها ذاتية وتلقائية، وتوجد عين قرب كل شجرة ولا حاجة لتأمين المياه من الخارج. ثانياً: أنَّ ثمار الجنة دائمية وفي جميع الفصول. ثالثاً: أنَّ ظل الاشجار هناك دائمي وخالد، أي أنَّ أوراق الاشجار لا تتساقط أبداً.

 

الخطابات المهمة للآية

المستفاد من الآيات العديدة هو كون التقوى هو مقياس الثواب الإلهي في الآخرة.

[ 236 ]

في مجال التقوى دوّنت البحوث الكثيرة، ولأجل الاستيعاب الأكثر لهذا المضمون، الذي هو جواز دخول الجنة وميزان قيمة الإنسان وزاده في الآخرة نشير إلى روايتين وردتا هنا:

1 - يقول الرسول في حديث مختصر وذات مغزى عميق في نفس الوقت: «تمام التقوى أن تتعلّم ما جهلت وتعمل بما علمت».(1)

بناءً على هذه الرواية، لا يُعدُّ الجهل عذراً، بل على الإنسان أن يتعلّم ما يجهل ليعمل بما علم ويُعاتب الذين يبرّرون أعمالهم بأنهم جهال، ويقال لهم: لماذا لم تتعلموا؟(2)

2 - يقول الإمام علي(عليه السلام) في حديث مختصر ومميّز: «من ملك شهوته كان تقياً».(3)

إنَّ الإنسان بتقواه يتمالك غضبه وشهوته وحب الجاه والمقام وحب الشهرة والتطرّف و... فهو سيتحكم بهذه الامور جميعاً.

إنَّ هذين الروايتين يعرضان تعريفاً جميلا وجامعاً ومفهوماً للتقوى، ينبغي السعي والعمل لأجل تحقيق ما ورد في هذين الروايتين الشريفتين وبخاصة في شهر رمضان المبارك; باعتبار أنَّ التقوى هي جواز دخول الجنّة وزاد الآخرة.


1. ميزان الحكمة، الباب 4173، الحديث 22179.

2. بحار الانوار 2:29 و 180، 7:285.

3. ميزان الحكمة، الباب 4173، الحديث 22174.

[ 237 ]

 

 

 

 

المثل الثالث والعشرون: أعمال الكفّار

 

يقول القرآن في الآية 18 من سورة إبراهيم:

( مَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِم أعْمَالُهُمْ كَرَمَاد اشتَدَّتْ بِهِ الرِّيْحُ فِي يَوْم عَاصِف لا يَقْدِرُونَ مِمّا كَسَبُوا عَلى شَيء ذَلك هُوَ الضَّلال البَعِيْدُ ) .

 

تصوير البحث

تناولت الآية بيان أعمال الكفار الصالحة، وتلمّح بأنَّ أعمالهم بسبب كفرهم غير مقبولة. من هنا كان احتمال حساب أعمالهم الصالحة بمعزل عن كفرهم أمراً مرفوضاً.

 

ارتباط آية المثل بسابقاتها

الآيات السابقة تناولت دراسة من اصطلحت عليه ( جَبَّار عَنِيْد ) وهو الشقي الذي يأس من ألطاف الله ورحمته، وأنَّ جهنم ستتطلع إلى أمثال هذا، وسيسقى من ماء متعفن، نتنة رائحته. وهنا يطرح سؤال وهو: هل سيُتغاضى عن أعمال الكفار الصالحة؟

المتعارف أنَّ الأعمال الصالحة قد تصدر من هؤلاء الاشقياء، فيقال عن فرعون مثلا: كان له مطبخ واسع يغذي به بيوت المدينة، وكان يستفيد الجميع من هذا المطبخ ومن طعامه، من الفقراء والمرضى والحوامل وغيرهم.

قد تنجز أعمال خيرية مهمة على يد حكام ظلمة، وهناك الكثير من المساجد التاريخية

[ 238 ]

الفخمة التي بنيت على يد هؤلاء الظلمة. إن العتبات المقدسة للائمة المعصومين وغيرهم(عليه السلام)كثيراً ما بُنيت أو عمّرت ووسعت على يد الظلمة، وكمثال على ذلك المسجد الحرام ومسجد النبيّ حيث وسِّعا من قبل زمرة آل سعود الظالمة، كما أن كثيراً من المستشفيات المهمة والجامعات الضخمة والمستوصفات والمدارس العلمية وما شابه ذلك بنيت على يد أمثال هؤلاء الظلمة وبأمر منهم، لكن يا ترى هل أنَّ هذه الأعمال الصالحة والعظيمة تفقد الأثر ولا تفيد صاحبها شيئاً في الآخرة؟ ألا تتغمّد هؤلاء الطاف الله ورحمته بسبب هذه الأعمال الكبيرة؟

إنَّ آية المثل التي سنقبل على شرحها وتفسيرها في الاسطر المقبلة هي بصدد الاجابة على هذا السؤال المقدر الذي قد يخطر في ذهن القارئ للآيات التي سبقتها.

 

الشرح والتفسير

( مَثَلُ الّذِيْنَ كَفَرُوا بِرَبِّهِم ) إنَّ أمثال القرآن على قسمين: قسم يُضرب على أعمال الإنسان، وآية المثل هذه من هذا القسم حيث تناولت دراسة أعمال الكفار.

القسم الآخر هو الامثال التي تضرب على الشخصيات ذاتها بأن يشبّه الاشخاص أنفسهم بشيء ما مثل ما مرّ في الآية الشريفة 261 من سورة البقرة، حيث شبّهت المنفق بحبة الحنطة التي تنتج سبعمائة حبّة.

على أي حال، الآية الشريفة تناولت اولئك الذين كفروا بربهم، لكن الملفت في الآية هنا هو أنَّها استخدمت مفردة (رب) بدل مفردة (الله)، وكأنها تريد الاشارة إلى الآثار الربوبية في كل مكان ورحمة الله وبركاته على جميع أعضاء جسم الإنسان وفي جميع اللحظات، فهي تريد القول للإنسان: إنَّك تفيد من نعم الله - التي يكفي واحدة منها لشكر الله - كل يوم وعلى طول العمر، رغم ذلك تكفر وتجحد به، مع أنَّ على الإنسان أن يكون شاكراً لله على نعمه دائماً.

( أعْمَالُهُمْ كَرَمَاد ) الآية شبَّهت أعمال الكفار الصالحة بالرماد، ولم تتطرق الآية إلى أعمال الكفار السيئة، وذلك لأنَّها دون القيمة التي تستدعي التطرّق لها وبحثها.

 

[ 239 ]

فوائد الرماد

نشير هنا إلى بعض من فوائد الرماد وآثاره:

1 - إذا خلط الرماد بالتربة سينتج سماداً مفيداً جداً، ولهذا نرى البعض يحرق ما تبقى من المزارع بعد الحصاد بغية تبديله إلى سماد جيد.

2 - إنَّ الرماد ينظف الاشياء الوسخة ويذهب بصدئها ويصقلها، وفي الازمنة السابقة كان الناس يصقلون بعض الصفائح الفلزية بالرماد لكي يصنعوا منها مرآة شفافة.

3 - الفائدة الاخرى للرماد أنّه يحافظ على النار وحرارته، بحيث إذا ألقينا التراب على النار أنطفأت النار، لكن إذا ألقينا رماداً عليها ضلّت النار تحافظ على نفسها وما انطفأت إلاّ في زمن متأخر.

( اشْتَدّتْ بِهِ الرِّيْحُ فِي يَوْم عَاصِف لاَ يَقْدِرُونَ على شيء مِمّا كَسَبُوا ) من الواضح أنَّ اليوم اذا كان عاصفاً أخذ الريح معه كل ما كان خفيفاً ودقيقاً، وكلما كان ذلك الشيء أدق كلّما صعب جمعه، أما اذا كان رماداً فاستحال الجمع; وذلك لصغر الأجزاء المكونة للرماد وتلوّنها بلون البيئة التي تسقط فيه. وإذا اجتمع اهالي المدينة كلهم - لا صاحب الرماد فحسب - ما استطاعوا أن يجمعوا شيئاً مما فقدوه من الرماد ولو بمقدار مثقال.

إنّ عاصفة الكفر والجحود تعمل بأعمال الكافر كما تعمل العاصفة الطبيعية بالرماد، بحيث لا يبقى شيء من ذلك العمل للكافر يتمتع به.

( ذَلك هُوَ الضّلاَلُ البَعِيْدُ ) إنَّ انحراف هؤلاء عن الصراط المستقيم كالانحراف والضلال البعيد عن الطريق الذي يصعب جبرانه والرجوع عنه نحو الطريق الصواب.

 

خطابات الآية

1 - الايمان شرط صحة الأعمال

رصيد الأعمال الحسنة والصالحة هو الايمان، فاذا لم يقترن العمل بالايمان فانه سيفقد قيمته.

ذكر الفقهاء: أنّ الايمان هو شرط قبول العبادة، بل شرط صحتها، أي أنَّ الصلاة والصوم

[ 240 ]

والحج والانفاق وإعانة المحتاجين وغير ذلك من الاعمال تكون فاقدة للقيمة إذا لم تتزامن مع الإيمان.

ولقد طرح نفس البحث في قضية (الولاية) فاعتقد البعض أنَّ الولاية شرط قبول الأعمال، أي رغم أنَّ الأعمال - من وجهة نظر شيعية - صحيحة إلاّ أنَّ الله لا يقبلها إذا لم تقترن بالاعتقاد بالولاية. وقد يعتقد البعض أنَّها شرط القبول والصحة أي لا يسقط التكليف من ذمة من لا يعتقد بها وإن جاء به.

في هذا المجال وردت روايات كثيرة في كتب الشيعة نأتي بنموذج واحد منها:

يقول الإمام الباقر(عليه السلام): «لو أنّ رجلا قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية وليّ الله فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ما كان له على الله حقُّ في ثوابه أبداً».(1)

إنّ هذه الآية طرحت ذات البحث في أصل الايمان بالله ولّمحت بأنّ الذي لا ايمان له لا ثواب له رغم اتيانه بأفضل الأعمال، وقد طرح هذا البحث في آيات عديدة أُخرى نشير إلى بعض منها:

الف - لقد جاء في الآية 264 من سورة البقرة التي مرّ الحديث عنها ما يلي:

( ... كَالّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِر فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَان عَلَيْهِ تُرَابٌ فأصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيء مِمّا كَسَبُوا واللهُ لا يَهْدِي القَومَ الكَافِرِينَ ) .

باء - جاء في الآية 39 من سورة النور:

( وَالّذِيْنَ كَفَرُوا أعْمَالُهُم كَسَرَاب بَقِيْعَة يَحْسَبُهُ الظمآنُ ماءً حتّى إذا جآءَه لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَه فَوَفّاهُ حِسَابَهُ واللهُ سَرِيْعُ الحِسَابِ ) .

جيم - ويقول الله في الآية 23 من سورة الفرقان:

( وَقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِن عَمَل فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَنْثُورَاً ) وهذه الآية كغيرها لم تمنح أي قيمة


1. وسائل الشيعة 1:91.

[ 241 ]

للعمل إذا لم ينشأ عن إيمان.

دال - جاء في الآية 54 من سورة التوبة:

( وَمَا مَنَعَهُم أنْ تُقْبَلَ نَفَقَاتُهُمْ إلاّ أنَّهُمْ كَفَرُوا باللهِ ورَسُولِهِ ولا يأتُونَ الصَّلاةَ إلاّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنْفِقُونَ إلاّ وَهُمْ كَارِهُونَ ) .

إنَّ هذه الآية كذلك تعتبر الإيمان شرط قبول العمل. وعليه، فإنّ الآية المذكورة وآيات وروايات كثيرة اخرى عدّت الإيمان شرطاً لصحة العمل وكماله، كما أنَّ بعض الآيات والروايات اعتبرت الولاية بنفس المستوى ومنحت الاعتقاد بها نفس القيمة التي منحتها هذه الآيات لمبدأ الايمان بالله.

لماذا الإيمان والولاية شرطان لصحة العمل؟

بعبارة أُخرى: لماذا لم يفتح الله لاعمال الكفار الصالحة أو الطالحة حساباً مستقلا، بأن يحاسب الكافر على أعماله الطالحة بمعزل عن حسابه لأعماله الصالحة؟

الجواب: لقد جاء جواب هذا السؤال في الآيات والروايات التي عدّت الولاية والإيمان شرطين لصحة الأعمال.

جاء في رواية تقدمت أنَّ الإمام(عليه السلام) يقول: «ولم يعرف ولاية وليّ الله فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه»، أي أنَّ للأعمال الصالحة شروطاً ومقدمات وملابسات يحدّدها الإمام المعصوم نفسه وإذا لم تتم بتنسيق معه فانها قد تكون ناشئة عن هوى وهوس وتصبّ في غير مجالها.

إنّ غير المؤمنين عندما يؤدون أعمالا صالحة مثل المرضى الذين يداوون أنفسهم بعقاقير خاصة من دون مراجعة طبيب، ومعالجة من هذا القبيل قد تلحق بالإنسان أضراراً كثيرة تصل إلى الموت أحياناً.

إنّ الرسول(صلى الله عليه وآله) والأئمّة(عليهم السلام) هم أطباء روحيون، ولأجل أن يداوي إنسان أوجاعه، عليه بالعمل حسب وصفتهم لا وصفة غيرهم.

من هنا يقسم الإمام علي(عليه السلام) - في كلام جميل يخاطب به كميل بن زياد - الناس إلى ثلاثة أصناف:

[ 242 ]

1 - العلماء الربانيون الذين وجدوا وسلكوا طريق الهداية والصراط المستقيم.

2 - المتعلّمون والذين هم في طريقهم إلى المعرفة ويفيدون من العلماء والاساتذة لبلوغ طريق الهداية والنجاة.