استخلاف آدم
(واذ
قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة. قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك
الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ قال : اني أعلم ما لا تعلمون. وعلم آدم
الاسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة فقال انبئوني باسماء هؤلاء ان كنتم صادقين.
قالوا : سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا انك انت
العليم الحكيم. قال يا آدم انبئهم بأسمائهم فلما انبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم
اني أعلم غيب السموات والارض واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) البقرة: 30 - 33.
هذه الآيات الاربع تتحدث عن قضية استخلاف اللّه
سبحانه لآدم على الارض. وهذا الجانب من قصة آدم يكاد ينحصر ذكره والاشارة اليه في
القرآن الكريم بهذا المقطع القرآني فقط.
ودراسة هذا المقطع وما تضمنه من معلومات ومفاهيم
لها جانبان : -
الجانب الاول : تحديد الموقف العام تجاه دراسة هذا
المقطع القرآني وتصوير ما يعنيه القرآن الكريم منه.
الجانب الثاني : تحديد الموقف القرآني والاسلامي
تجاه بعض المفاهيم التي جاءت في المقطع بالشكل الذي ينسجم مع المسلمات القرآنية
والظهور اللفظي لهذا المقطع بالخصوص.
وفيما يتعلق بالجانب الاول نجد الشيخ محمد عبده
تبعاً لبعض
{ 292 }
الدارسين المتقدمين يذكر رأيين مختلفين بحسب الشكل
وان كانا يتفقان في النهاية، حسب ما يقول :
الرأي الاول : هو الذي سار عليه السلف واختاره
الشيخ محمد عبده نفسه ايضاً حيث يقول : (وما ذلك الحوار في الآيات فهو شأن من شؤون
اللّه مع ملائكته صوره لنا في هذه الفصول بالقول والمراجعة والسؤال والجواب ونحن
لا نعرف حقيقة ذلك القول. ولكننا نعلم انه ليس كما يكون منا. وان هناك معانٍ قصدت
افادتها بهذه العبارات وهي عبارة عن شأن من شؤونه تعالى قبل خلق آدم وانه كان يعد
له الكون او شأن مع الملائكة يتعلق بخلق نوع الانسان وشأن آخر في بيان كرامة هذا
النوع وفضله)(1).
والرأي الثاني : الرأي الذي سار عليه الخلف من
المحققين وعلماء الاسلام الذين بذلوا جهدهم في دراسة القرآن والتعرف على مقاصده
حيث يرون ان هذه القصة بمواقفها المختلفة انما جاءت على شكل التمثيل ومحاولة تقريب
النشأة الآدمية الانسانية واهميتها وفضيلتها. وان جميع المواقف والمفاهيم التي
جاءت فيها يمكن تحديد المعاني والاهداف التي قصدت منها.
فالرأي الأول والثاني وان كانا يلتقيان في حقيقة
تنزيه اللّه سبحانه وتعالى وعالم الغيب عن مشابهة المخلوقات المادية المحسوسة في
هذه المواقف المختلفة ويكاد يتفقان أيضاً في الاهداف والغايات العامة المقصودة من
هذا المقطع القرآني ولكنهما مع ذلك يختلفان في امكانية تحديد بعض المفاهيم التي
وردت في المقطع كما سوف يتضح ذلك عند معالجتنا للمقطع القرآني من جانبه الآخر.
وفيما يتعلق بالجانب الثاني نجد السلف انسجامه مع
موقفهم في
______________________________
(1) المنار 1/254.
{ 293 }
الجانب الاول يقفون من دراسة المقطع موقفاً سلبياً
ويكتفون في بعض حالات الانفتاح بذكر الفوائد الدينية التي تترتب على ذكر القرآن
لهذا المقطع القرآني المتشابه.
وقد اشار الشيخ محمد عبده الى بعض هذه الفوائد.
ونكتفي بذكر فائدتين منها :
الاول : ان اللّه سبحانه وتعالى في عظمته وجلاله
يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعه وما يخفى عليهم من اسراره في خلقه.
الثانية : ان اللّه سبحانه لطيف بعباده رحيم بهم
يعمل على معالجتهم بوجوه اللطف والرحمة فهو يهدي الملائكة في حيرتهم ويجيبهم على
سؤالهم عندما يطلبون الدليل والحجة بعد ان يرشدهم الى واجبهم من الخضوع والتسليم :
(اني اعلم ما لا تعلمون وعلّم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة....)
واما الخلف فقد حاولوا ايضاح المفاهيم التي وردت في
هذا المقطع القرآني ليتجلى بذلك معنى استخلاف اللّه سبحانه وتعالى لآدم. وسوف نعرض
هنا اهم هذه المفاهيم المرتبطة بقضية الاستخلاف مع ذكر الآراء المختلفة فيها ثم
نتحدث عن المعنى العام للمقطع القرآني.
1 - الخلافة :
الخليفة بحسب اللغة : من خلف من كان قبله وقام
مقامه. فلماذا سمي آدم خليفة ؟ توجد هنا عدة آراء:
الاول : ان آدم سمي خليفة لانه خلف مخلوقات اللّه
سبحانه في الارض وهذه المخلوقات اما ان تكون ملائكة او يكونوا الجن الذين أفسدوا
في الارض وسفكوا فيها الدماء كما روي عن ابن عباس. او يكونوا آدميين آخرين قبل آدم
هذا.
{ 294 }
الثاني : انه سمي خليفة لانه وابناءه يخلف بعضهم
بعضاً فهم مخلوقات تتناسل ويخلف بعضها البعض الآخر. وقد نسب هذا الرأي الى الحسن
البصري.
الثالث : انه سمي خليفة لانه يخلف اللّه سبحانه في
الارض. وفي تفسير هذه الخلافة لله سبحانه وارتباطها بالمعنى اللغوي تعددت الآراء
واختلفت :
أ - انه يخلف الله في الحكم والفصل بين الخلق.
ب - يخلف اللّه سبحانه في عمارة الارض واستثمارها
من انبات الزرع واخراج الثمار وشق الانهار وغير ذلك(2).
ج - يخلف الله سبحانه في العلم بالاسماء كما ذهب
الى ذلك العلامة الطباطبائي(3).
د - يخلف اللّه سبحانه في الارض بما وهبه الله من
قوة غير محدودة سواء في قابليتها او شهواتها او علومها. كما ذهب الى ذلك الشيخ
محمد عبده(4).
2 - كيف عرف الملائكة ان الخليفة يفسد في الارض ؟
لقد ذكر المقطع القرآني ان جواب الملائكة على
اخبارهم بجعل آدم خليفة في الارض انهم تساءلوا عن سبب انتقاء هذا الخليفة الذي
يفسد في الارض فكيف عرف الملائكة هذه الخصيصة في هذا الخليفة وهنا عدة آراء.
الاول : ان اللّه سبحانه وتعالى اعلمهم بذلك لأن
الملائكة لا يمكن ان يقولوا هذا القول رجماً بالغيب وعملاً بالظن(5).
______________________________
(2) هذا الرأي وما قبله ذكره الطوسي في التبيان 1/131.
(3) الميزان : 1/118.
(4) المنار : 1/260.
(5) التبيان : 1/132.
{ 295 }
الثاني : انهم قاسوا ذلك على المخلوقات التي سبقت
هذا الخليفة الذي سوف يقوم مقامها كما يشير الى ذلك بعض الروايات والتفاسير(6).
الثالث : ان طبيعة الخلافة تكشف عن ذلك بناء على
الرأي الاول من المذهب الثالث في معنى الخلافة. كما ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره.
الرابع : ان طبيعة الخليفة نفسه تقتضي ذلك وهنا
رأيان :
أ - ان المزاج المادي والروحي لهذا المخلوق الذي
يريد ان يجعله الله خليفة والاساس الاجتماعي للعلاقات الارضية التي سوف تحصل بين
ابناء هذه المخلوقات هي التي جعلت الملائكة يعرفون ذلك. يقول العلامة الطباطبائي :
(ان الموجود الارضي بما انه مادي مركب من القوى الغضبية والشهوية والدار دار
التزاحم محدودة الجهات وافرة المزاحمات مركباتها في معرض الانحلال وانتظاماتها
واصطلاحاتها مظنة الفساد ومصب البطلان لا تتم الحياة فيها الا بالحياة النوعية ولا
يكمل البقاء فيها الا بالاجتماع والتعاون فلا تخلو من الفساد وسفك الدماء)(7).
ب - ان الارادة الانسانية بما اعطيت من اختيار
يتحكم في توجيهه العقل بمعلوماته الناقصة هي التي تؤدي بالانسان الى أن يفسد في
الارض ويسفك الدماء قال محمد عبدة : (اخبر اللّه الملائكة بأنه جاعل في الارض
خليفة نفهم من ذلك ان اللّه يودع في فطرة هذا النوع الذي يجعله خليفة.. ان يكون ذا
ارادة مطلقة واختيار في عمله غير محدود وان الترجيح بين ما يتعارض من الاعمال التي
تعن له تكون بحسب علمه وان العلم اذا لم يكن محيطاً بوجوه المصالح والمنافع فقد
يوجه الارادة الى خلاف المصلحة والحكمة وذلك هو الفساد وهو معين لازم الوقوع لان
العلم
______________________________
(6) التبيان : 1/133.
(7) الميزان : 1/115. والتفسير الكبير 1/121 والميزان 1/119.
{ 296 }
المحيط لا يكون الا للّه تعالى(8)).
3 - الاسماء :
والاسماء من المفاهيم التي وقع الخلاف فيها بين
علماء التفسير حول حقيقتها والمراد منها والآراء فيها تسير في الاتجاهين التاليين
:
الاول : ان المراد من الاسماء الالفاظ التي سمى
الله سبحانه بها من خلقه من اجناس وانواع المحدثات وفي جميع اللغات. وهذا الرأي هو
المذهب السائد عند علماء التفسير ونسب الى ابن عباس وبعض التابعين(9).
وينطلق اصحاب هذا المذهب في تفكيرهم الى ان الله
سبحانه كان قد علم آدم جميع اللغات الرئيسية. وقد كان ولده على هذه المعرفة ثم
تشعبت بعد ذلك واختص كل جماعة منهم بلغة غير لغة الجماعة الاخرى.
الثاني : ان المراد من الاسماء : المسميات او
صفاتها وخصائصها لا الالفاظ وحينئذ فنحن بحاجة الى القرينة القرآنية أو العقلية
التي تصرف اللفظ الى هذا المعنى الذي قد يبدو انه يخالف ظاهر الاطلاق القرآني.
ويمكن ان نتصور هذه القرينة في الامور التالية :
أ - (ان العلم الحقيقي انما هو ادراك المعلومات
انفسها والالفاظ الدالة عليها تختلف باختلاف اللغات التي تجري بالمواضعة والاصطلاح
فهي تتغير وتختلف والمعنى لا تغيير فيه ولا اختلاف(10)).
ب - ان الاسماء حين يقصد منها الالفاظ واللغات فهي
اذن من الاشياء التي لا يمكن تحصيلها الا بالتعليم فلا يحسن تحدي الملائكة بها، اذ
لا دلالة على وجود موهبة خاصة في لم يتمكن بها من معرفة الاسماء. وهذا على
______________________________
(8) المنار : 1/256.
(9) التبيان : 1/138 والتفسير الكبير 2/176.
(10) المنار : 1/262.
{ 297 }
خلاف ما اذا قلنا ان المقصود منها المسميات فانها
مما يمكن ادراكه ولو جزئياً - عن طريق استعمال العقل والذهن - فيكون لمعرفة آدم
بها دلالة على موهبة خاصة منحه اللّه اياها.
قال الطوسي : (ان الاسماء بلا معان لا فائدة فيها
ولا وجه لايثاره الفضيلة بها(11)) وقال الرازي : (وذلك لان العقل لا طريق له الى معرفة
اللغات البتة، بل ذلك لا يحصل الا بالتعليم فان حصل التعليم حصل العلم به والا فلا
اما العلم بحقائق الاشياء فالعقل متمكن من تحصيله فصح وقوع التحدي فيه(12)).
ج - ان هذه الاسماء لو كانت الفاظاً لتوصل الملائكة
الى معرفتها بانباء آدم لهم بها وهم بذلك يتساوون مع آدم فلا تبقى له مزية وفضيلة
عليهم. فلا بد لنا من ان نلتزم بانها اشياء تختلف مراتب العلم بها، الامر الذي ادى
ان يعرفها آدم بمعرفة خاصة تختلف عن معرفة الملائكة لها حين اخباره لهم بها. وهذا
يدعونا لان نقول انها عبارة عن المسميات لا الالفاظ. قال العلامة الطباطبائي بصدد
شرح هذه الفكرة : (ان قوله تعالى : وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم.. شعر بان هذه
الاسماء او ان مسمياتها كانت موجودات احياء عقلاء محجوبين تحت حجاب الغيب وان
العلم بأسمائهم كان غير العلم الذي عندنا باسماء الاشياء والا كانت بانباء آدم
اياهم بها عالمين بها وصائرين مثل آدم مساوين معه(13)).
وحين يصل اصحاب هذا الاتجاه الى هذه النقطة نجدهم
يحاولون ان يتعرفوا على العلاقة التي صححت استعمال لفظ (الاسماء) محل لفظ
(المسميات) ويذكرون لذلك قرائن متعددة.
______________________________
(11) التبيان : 1/138.
(12) التفسير الكبير : 2/176.
(13) الميزان : 1/117.
{ 298 }
فالرازي يرى هذه القرينة في مصدر اشتقاق الاسم فانه
اما أن يكون من السمة او من السمو (فان كان من السمة كان الاسم هو العلامة، وصفات
الاشياء ولقوتها دالة على ماهياتها فصح ان يكون المراد من الاسماء : (الصفات) وان
كان من السمو فكذلك لان دليل الشيء كالمرتفع على ذلك الشيء فان العلم بالدليل حاصل
قبل العلم بالمدلول(14)).
والشيخ محمد عبده يرى هذه القرينة في (شدة الصلة
بين المعنى واللفظ الموضوع له وسرعة الانتقال من احدهما الى الآخر).
كما انه يرى في ذلك وجهاً آخر يكاد يغنيه عن هذه
العلاقة حيث : ان الاسم قد يطلق اطلاقاً صحيحاً على صورة المعلوم الذهنية (اي ما
به يعلم الشيء عند العالم) فاسم الله مثلاً هو ما به عرفناه في اذهاننا لا نفس
اللفظ بحيث يقال : اننا نؤمن بوجوده ونسند اليه صفاته. فالاسماء هي ما يعلم بها
الاشياء في الصور الذهنية وهي العلوم المطابقة للحقائق الخارجية الموضوعية. والاسم
بهذا المعنى هو الذي جرى الخلاف بين الفلاسفة في انه عين المسمى او غيره، الامر
الذي يدعونا ان نقول ان للاسم معنى آخر غير اللفظ اذ لا شك بان اللفظ غير المعنى.
والاسم بهذا الاطلاق ايضاً هو الذي يتبارك ويتقدس
(سبح اسم ربك الاعلى) اذ لا معنى لان يكون اللفظ هو الذي يتبارك ويتقدس(15).
وبعد هذا كله نجدهم يختلفون في حقيقة هذه المسميات
والمراد منها في الآية الكريمة :
فالعلامة الطباطبائي يراها - كما في النص السابق -
موجودات احياء عقلاء ولعله يفهم هذه الحياة لها والعقل من قوله تعالى (ثم عرضهم)
______________________________
(14) المصدر السابق : الموضوع نفسه.
(15) المنار : 1/262.
{ 299 }
حيث استعمل ضمير الجماعة المختص بمن يعقل. وهذا
الاتجاه نجده في بعض الآراء المتقدمة على العلامة الطباطبائي نفسه، كما في حكاية
الطبري عن الربيع ابن زيد انهما قالا : علمه اللّه اسماء ذريته واسماء
الملائكة(16).
ولكن الشيخ الطوسي يناقش فكرة الاعتماد على الضمير
بقوله : (وهذا غلط لما بيناه من التغلب وحسنه كما قال تعالى : (والله خلق كل دابة
من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على
اربع(17)).
والشيخ محمد عبده يرى انها تعني جميع الاشياء من
غير تحديد ولا تعيين(18) ولعل هذا الاتجاه هو الذي يظهر من كلام الشيخ الطوسي
والرازي في تفسيرهما(19).
نظرية الاستخلاف :
بعد أن تعرفنا على آراء العلماء المختلفة تجاه المفاهيم
البارزة التي جاءت في هذا المقطع القرآني لابد لنا من معرفة الصورة الكاملة للمقطع
القرآني لنستخلص نظرية استخلاف آدم منها.
وهنا صورتان لهذه النظرية بينهما كثير من وجوه
الشبه.
الاولى : الصورة التي ذكرها السيد رشيد رضا في
تفسيره عن استاذه الشيخ محمد عبده : حيث يرى ان القصة وردت مورد التمثيل لغرض
تقريبها من تناول افهام الخلق لها لتحصل لهم الفائدة من معرفة حال النشأة الاولى.
______________________________
(16) التبيان : 1/138.
(17) النور : 45.
(18) المنار : 1/262.
(19) التبيان : 1/138 والتفسير الكبير 3/176.
{ 300 }
وعلى هذا الاساس يمكننا ان نفهم كثيراً من جوانب
هذه المحاورة والالفاظ التي استعملت فيها دون ان تتقيد بالمعنى اللغوي العرفي لها.
فالله سبحانه اخبر الملائكة بانه بصدد ان يجعل في
الارض خليفة عنه يودع في فطرته الارادة المطلقة التي تجعله الاشياء حسب قدرته
ومعلوماته التي لا يمكن ان تصل مرتبة الكمال.
وعلى اساس هذه الارادة المطلقة وهذا العلم الناقص
عرف الملائكة ان هذا الخليفة سوف يسفك الدماء ويفسد في الارض لان ذلك نتيجة طبيعية
لما يتمتع به من ارادة مطلقة يسير بها حسب علمه الذي لا يحيط بجميع جوانب المصالح والمنافع
الامر الذي قد يوجه الارادة الى خلاف الحكمة والمصلحة فيقع في الفساد.
وحين عرف الملائكة ذلك تعجبوا من خلق الله لهذا
النوع من الخلق الذي يسفك الدماء ويفسد في الارض فسألوا الله سبحانه (عن طريق
النطق او الحال او غير ذلك) ان يتفضل عليهم باعلامهم عن ذلك وبيان الحكمة لهم.
وكان الجواب لهم على ذلك هو بيان الخضوع والتسليم
لمن هو بكل شيء عليم لان هذا هو موقف جميع المخلوقات تجاهه.
على ان هذا النوع من الخضوع والتسليم الذي ينشأ من
معرفة الملائكة باحاطة الله بكل شيء قد لا يذهب الحيرة ولا يزيل الاضطراب.. وانما
تسكن النفس باظهار الحكمة والسر الذي يختفي وراء الفعل الذي حصل منه تعجب
الملائكة.
ولذلك تفضل الله سبحانه على الملائكة بان اوضح لهم
السر واكمل علمهم ببيان الحكمة في هذا الخلق فأودع في نفس آدم وفطرته علم جميع
الاشياء من غير تحديد ولا تعيين الامر الذي جعل لآدم امتيازاً خاصاً استحق به
الخلافة عن الله في الارض.
{ 301 }
ويظهر هذا الامتياز حين نقارن بين الانسان وبين
المخلوقات للّه سبحانه فقد نطق الوحي ودل العيان والاختيار على ان الله تعالى خلق
العالم انواعاً مختلفة وخص كل نوع منها بقدرات ومواهب. ولكن الانسان مع ذلك يختلف
عنها في ان لما منحه الله من قدرات ومواهب ليست لها حدود معينة لا يتعداها على
خلاف بقية المخلوقات.
فالملائكة - الذي لا نتمكن من معرفة حقيقتهم الا عن
طريق الوحي - لهم وظائف محدودة - كما دلت الآيات والاحاديث - فهم يسبحون الله
ليلاً ونهاراً وهم صافون ويفعلون ما يؤمرون الى غير ذلك من الاعمال المحدودة.
وما نعرفه بالنظر والاختيار عن حال الحيوان والنبات
والجماد فانها بين ما يكون لا علم له ولا عمل كالجماد. او يكون له عمل معين يختص
به نفسه دون ان يكون له علم او ارادة. ولو فرض ان له علماً او ارادة فهما لا أثر
لهما في جعل عملهما مبنياً لحكم اللّه وسنته في الخلق ولا وسيلة لبيان احكامه
وتنفيذها.
فكل حي من الاحياء المحسوسة والغيبية - عدا الانسان
- له استعداد محدود وعلم الهامي محدود وعمل محدود وما كان كذلك لا يصلح ان يكون
خليفة عن الذي لا حد لعلمه وارادته.
واما الانسان فقد خلقه الله ضعيفاً وجاهلاً ولكنه
على ضعفه وجهله يتصرف في الاقوياء ويعلم جميع الاسماء بما وهبه اللّه من قدرة على
النمو والتطور التدريجي في احساسه ومشاعره وادراكه فيكون له السلطة على هذه
الكائنات يسخرها ثم يذللها بعد ذلك كما تشاء قوته الغريبة التي يسمونها العقل ولا
يعرفون حقيقتها ولا يدركون كنهها. فهذه القوة نجدها تغني الانسان عن كل ما وهب
الله للحيوان في اصل الفطرة والالهام من الكساء والغذاء والاعضاء.
{ 302 }
فالانسان بهذه القوة غير محدود الاستعداد ولا محدود
الرغائب ولا محدود العلم ولا محدود العمل.
وكما اعطاه الله تعالى هذه المواهب اعطاه احكاماً
وشرائع حدد فيها اعماله واخلاقه وهي في الوقت نفسه تساعده على بلوغ كماله لانها
مرشد للعقل الذي كان له كل تلك المزايا.
وبهذا كله استحق الانسان خلافة اللّه في الارض وهو
خلق المخلوقات بها ونحن نشاهد في عصرنا آثار هذه الخلافة بما فعله الانسان من
تطوير وسيطرة وتعرف في الكون.
وحين اودع الله في فطرة آدم علم الاشياء من غير
تحديد. عرض الاشياء على الملائكة واطلعهم عليها اطلاعاً اجمالياً ثم طالبهم
بمعرفتها والانباء بهذه واذا بهم يظهرون التأكيد على التسليم والخضوع والعجز
والاعتراف.
وعند ذلك أمر اللّه آدم أن ينبئهم بالاشياء ففعل،
وذلك لتتكشف لهم الحقيقة بأوضح صورها واشكالها.
واما الصورة الثانية : فهي التي عرضها العلامة
الطباطبائي وهي تختلف عن الصورة السابقة في بعض الجوانب. ونحن نقتصر على ذكر جوانب
الخلاف التي سبق ان اشرنا الى بعضها.
1 - ان خليفة الله موجود مادي مركب من القوى
الغضبية والشهوية والدار دار تزاحم محدودة الجهات وافرة المزاحمات لا يمكن ان تتم
فيها الحياة الا بايجاد العلاقات الاجتماعية وما يستتبعها من تصادم الامر الذي
يؤدي الى الفساد وسفك الدماء.
2 - ان الملائكة حين تعجبوا كانوا يرون ان الغاية
من جعل الخلافة هو أن يحكى الخليفة ومستخلفه بتسبيحه بحمده وتقديسه له بوجوده
{ 303 }
والارضية لا تدعه يفعل ذلك بل تجره الى الفساد
والشر والغاية من هذا الجعل بتسبيحهم بحمد اللّه وتقديسهم له.
3 - ان آدم استحق الخلافة لقدرته على تحمل السر
الذي هو عبارة عن تعلم الاسماء التي هي اشياء حية عاقلة محجوبة تحت حجاب الغيب
محفوظة عند الله. وقد انزل الله كل اسم في العالم بخيرها وبركتها واشتق كل ما في
السموات والارض من نورها وبهائها. وانهم على كثرتهم وتعددهم لا يتعددون تعدد
الافراد وانما يتكاثرون بالمراتب والدرجات.
الموازنة بين الصورتين :
ويحسن بنا ان نوازن بين هاتين الصورتين لنخرج
بالصورة الكاملة التي نراها صحيحة لتصوير هذا المقطع القرآني. ولنأخذ النقاط
الثلاثة التي خالف فيها العلامة الطباطبائي الشيخ محمد عبده.
ففي النقطة الاولى قد نجد العلامة الطباطبائي على
جانب من الحق كما نجد الشيخ محمد عبده على جانب آخر منه. ذلك لان العلامة
الطباطبائي أكد على ما فطر عليه الانسان من غرائز وعواطف مختلفة. وهذا شيء صحيح
لما لهذه الغرائز من تأثير كبير في حصول التزاحم والتنافس في المجتمع الانساني
الامر الذي يؤدي الى الفساد وسفك الدماء. واساس هذه الغرائز غريزة حب الذات التي
جاءت الاديان السماوية ومنها الاسلام من اجل توجيهها صالحاً يدفعها الى تجنب
الفساد والسفك.
والشيخ محمد عبده حين يغفل هذا الجانب - في مسألة
معرفة الملائكة للفساد وسفك الدماء - يؤكد على جانب آخر له دور كبير ايضاً في
الفساد وسفك الدماء وهو الارادة المطلقة والمعرفة الناقصة فلولا هذه الارادة ولولا
هذا النقص في العلم لما كان السفك والفساد.
وعلى هذا الاساس يمكن ان نعتبر كلا الجانبين مؤثراً
في معرفة الملائكة لنتيجة هذا الخليفة.
{ 304 }
تابع هامش ص 104
______________________________
(*) لم يكن اسم السائل «ابن صبيغ» بل اسمه «صبيغ بن عسل التميمي» ولم يكن السؤال
عن متشابه القرآن وانما كان السؤال عن «والذاريات ذرواً»(1) وهو بحث عن تفسير
لغوي. واذا رجعنا الى قوله تعالى «فأصبح هشيماً تذروه الرياح»(2) عرفنا تفسير
اللفظ .
كما أن الخليفة عمر قرأ على المنبر «فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً - الى قوله
تعالى - وأباً» قال : كل هذا قد عرفناه، فما الأب ؟ ثم رفض عصا كانت في يده فقال :
لعمر الله هو التكلف فما عليك أن لا تدري ما الاب، اتبعوا ما بين لكم هداه من
الكتاب فاعملوا به وما لم تعرفوه فكلوه الى ربه.(3)
وكذلك عندما سُئل ايضاً عن «فاكهة وأَبّاً» أقبل عليهم بالدرة(4). مع أن تفسير
اللفظين ورد بعدهما في قوله تعالى «متاعاً لكم ولانعامكم»(5).
_________________________________
(1) نقش أئمة در احياء دين، ج 6/117.
(2) سورة الكهف /45.
(3) و(4) الدر المنثور في تفسير الآية، ج 6/317.
(5) سورة عبس /32.
| |