لكي تستقيم ألسنتهم ويتعودوا القراءة..
حفظوا أولادكم القرآن
في عصر الجينات والإلكترونيات والإنترنت، وفي الوقت الذي
تلتهم فيه ألعاب الفيديوجيم والكمبيوتر أوقات الأطفال وقدراتهم، ومع انشغال
الأسرة وغياب القدوة، يصبح السؤال الأكثر أهمية هو: كيف ننمي عادة القراءة عند
أطفالنا، ونقوّم ألسنتهم، خاصة ونحن بالأساس أمة خرجت من كتاب؟.
ولمدارسة هذه القضية كان لنا لقاءان أولهما مع الأستاذة الدكتورة "فايزة
يوسف عبد المجيد"، عميدة معهد الدراسات العليا للطفولة بجامعة عين شمس،
التي شاركتنا الحديث حول الفصحى في حياة أطفالنا ومدى ملائمتها لهم.
*د/فايزة عبد المجيد؛ هناك من يطالب بتنحية الفصحى من أدب الأطفال، بحجة أن لغة
الطفل هي وحدها التي تصلح لأدب الأطفال، فما هي لغة الطفل، وما الفارق بينها
وبين الفصحى؟
- لغة الطفل، ما هي إلا فصحى مبسطة، أو محرفة، أو هي الفصحى في ثوبها العامي،
وبالتالي فإن لغة الطفل التي ينادي بها البعض ليست لغة منفصلة عن لساننا العربي
القديم؛ ومن ثَم فإن لغة الطفل هي إحدى بنات الفصحى، التي تتراكم في قاموسه
اللغوي من خلال المكتبات المطردة والمتضاعفة.
تفصيح العامية
*اعتمد الكثير من كتاب الأطفال على التقرير الذي قدمه "إسماعيل
القباني" عام 1947، والذي قال فيه "علينا أن نتخذ لغة الأطفال من
العامية كوسيلة للتعليم في مرحلة الرياض والمدارس الأولية"، ما رأيكم؟
- كان "إسماعيل القباني" مستشارًا فنيًّا لوزارة المعارف، وقد قدم
تقريره هذا عام 1947، وفيه قال عقب هذه الفقرة التي ذكرتها: ونبذل بعد ذلك بعض
العناية لتهذيب هذه اللغة العامية بالتدريج، وتزويد الطفل بالكلمات العربية
الصحيحة بين الحين والحين.
وهذا التعقيب من القباني صحيح علميًّا وهو عبارة عن تفصيح عامية الطفل، أما
الفقرة السابقة لهذه فخاطئة علميًّا؛ لأن ذكرها من باب أنها لغة صعبة على الطفل،
ومن ثَم فالعملية أيسر تعاملاً وتعليمًا، وهذا خطأ في مجانبة الفصحى من أول حياة
الطفل.
القاموس العربي للطفل
*إذن ليست هناك فجوة واسعة بين اللغة العربية الفصحى ولغة الأطفال؟
- من الخطورة بمكان أن نربي أبناءنا على مخاصمة الفصحى من أوليات حياتهم، أو على
أقل تقدير التهيب منها، وإذا كانت فترة الذاكرة الذهبية للطفل في هذه المرحلة
تتسع لحفظ كتاب الله تعالى بكل ما فيه من فصاحة وبلاغة وبيان؛ فكيف لا تتسع هذه
القدرات الذهبية الهائلة للأطفال لاستيعاب الألفاظ الخاصة بعالمه القريب.
وأحب أن أقول: إن الكتابة للأطفال من أصعب أنواع الكتابة، ولا يجب أن يلجأ إليها
إلا الموهوبون من الأدباء والكتاب؛ لأنها تجمع كل المواهب في الأديب لغويًّا
وفنيًّا، ثم تتطلب موهبة خاصة فيما يتعلق بعالم الأطفال من لغة ونحو، ودراسات
نفسية وتربوية واجتماعية.
والعالمون بلغتنا، يعلمون أن هناك آلاف الألفاظ التي يستخدمها الطفل بصورة
عامية، وهي فصيحة أصيلة، مثل: حكاية، حلاوة، بص، شاف، طيارة، حمامة، بطة، صبح،
هات...إلخ.
وهناك كلمات قليلة لها وظيفة أساسية في الاستخدام اللغوي ولا يمكن الاستغناء
عنها، وقد رأى التربويون أن تستخدم في ثوبها الفصيح، ودون غيرها من العامية،
وليس عسيرًا على الأطفال أن يتم تدريبهم على استخدامها في ثوبها الفصيح، مثل:
هذا، هذه، التي، الذي، نحن، ماذا، لماذا، أين، كما يجب أن نستخدم كلمة أيضًا
بدلاً من كمان، وبعد ذلك بدلاً من بعدين وهكذا.
ومن ثم يمكن سد الفجوة المفتعلة بين لغتنا العربية الفصحى، ولغة الأطفال.
النطق الصحيح
*من المعروف أن لغتنا العربية لغة صوتية بالأساس، ومن ثم فإن نطقها يمثل صعوبة
بسبب السياق الإعرابي للكلمات، فما الحل فيما يتعلق بلغة الطفل؟.
-الحل ببساطة، يكمن في تشكيل كتابة الأطفال، وهذا له الأثر الأكبر في تقويم لسان
الطفل وبيانه، وتربيته لغويا، وبعد ذلك سيجد الطفل أن علوم النحو والصرف، ما هي
إلا تطبيق لهذا النطق الصحيح الذي تعلمه من خلال الضبط بالشكل.
وإذا كانت هناك بعض الاستثناءات كالتنوين أو غيره، فإن ذلك يتم التدريب عليه من
دروس التهجي والإملاء خلال السنوات التعليمية الأولى، وهذا هو الطريق أمام تنمية
الحصيلة اللغوية للأطفال، ودونها سوف تتعطل قدراتهم اللغوية.
ركن الطفل بوابة عالم القراءة
*وكيف يمكننا في هذا العصر الصاخب تنمية القراءة لدى أطفالنا؟.
- القراءة في حياة الطفل لا بد أن تبدأ من البيت، ومنذ السنوات الأولى في حياة
الطفل، ولا بد أن نحبب الكتاب إلى الطفل من خلال تشجيع الأطفال على امتلاكه
وشرائه واختياره، وتربية العادات القرائية الصحية لديه، من احترام الكتب
وتصفحها، والاستفادة منها.
ويجب أيضًا أن تحتوي مكتبة الأسرة على ركن الأطفال، وأن يقوم الطفل بالمحاولات
التدريبية، في تنسيق وترتيب هذا الركن، وفي ذلك إشباع لغريزة حب التملك لديه،
كما يمكن الاستعانة بالكتاب المرئي والمسموع من خلال الوسائط الصوتية والمرئية
وحبذا لو حكينا للطفل حكاية الكتاب، وشجعناه على ذلك، ومنحناه بعض الجوائز
والمكافآت على كل جديد في قراءته، وتشجيعه على المساهمة في مكتبة الأسرة والمعهد
والفصل والمدرسة، ودفعه بأساليب غير مباشرة على الاشتراك في مسابقات القراءة
والإطلاع، والخطابة.
القراءة من العادة إلى العبادة
*هل هناك من نصيحة علمية وعملية مجربة في هذا الصدد، نهديها لكل أسرة؟.
- نعم وهذه النصيحة لكل من يريد أن يألف ولده القراءة، وهي أن يكون الكتاب
قريبًا من نفسه، وذلك بمصاحبته للمصحف الشريف منذ الصغر، وهذا الكتاب الخالد،
سوف يجعل للطفل نظرة خاصة للكتاب، ويجعل للكتاب مكانًا ومكانة لديه، بل سترفع
القراءة عند الأطفال من مستوى العادة إلى مستوى العبادة.
**ودفعتنا نصيحة الدكتورة فايزة عبد المجيد بالاقتراب من المصحف الشريف إلى لقاء
في رحلة النظر في مستقبل ألسنة وعقول أبنائنا في زمن الثورة المعلوماتية، فكان
لقاء مع فضيلة الدكتور "عبد البديع أبو هاشم" أستاذ التفسير وعلوم
القرآن بجامعة الأزهر للحديث حول ملامح صحبة أطفالنا للمصحف الشريف.
القواعد الذهبية
*بداية أستاذنا الفاضل، يقولون: إن أسلوب الحفظ والتلقين، لا وجود له في عالم
المعلومات، وثورة الاتصالات، وصراع الجينات؛ فما رأيكم؟.
- هذا كلام مرسل، فثورة المعلومات بكل عطائها وتوثبها، ما هي إلا حفظ وتلقين
للحقائق العلمية، وعبر التعامل الجيد معها، بالتنسيق والفهم والاستنباط، أمكن
للإنسان استنباط هذه النتائج المذهلة. وما توصل الإنسان إلى ذلك النتاج العلمي
المدهش، إلا من خلال قراءته الدقيقة لبعض الحقائق الكون المعجز.
*ولكن القرآن الكريم كتاب يصعب حفظه، لا سيما والطفل تتنازعه في هذا الزمان
نوازع شتى من الصوت والضوء والصورة والسماوات المفتوحة.
- هذا يحدث فعلاً، عندما نضيع على أطفالنا سني الحفظ الذهبية من الخامسة إلى
نهاية العقد الثاني من عمره تقريبًا، وهي السنوات الخصيبة في استكمال بناء
اللحاء المخي للأطفال، وما يحمله من برمجة وشحن، وبعدها يبدأ الخط البياني للحفظ
بالهبوط، ويبدأ خط الفهم والاستيعاب في الصعود؛ لذلك قيل الحفظ في الصغر كالنقش
في الحجر، والحفظ في الكبر كالنقش على الماء.
*من الممكن أن يكتفي الإنسان بالفهم والاستنباط دون الحفظ؟.
- هذا يشبه من يريد أن يتعامل مع القوانين بفهمها فقط، دون الاستناد إليها،
وهضمها وتمثلها، من ثم يظل فهمه واستنباطه مشوبًا مشوشًا.
*وما هي أهم القواعد الذهبية التي ترونها أساسية في حفظ القرآن الكريم؟.
- إخلاص النية وإصلاح القصد، وتصحيح النطق والتلاوة، ولا يكون ذلك إلا بالسماع
والتلقي المباشر، وهذه تعتبر فرصة نادرة للتربية والتوجيه والتكوين، مع وجوب
تحديد نسبة كل يوم للحفظ طبقا لاختلاف القدرات والفروق الفردية مع محاولة الفهم
والتركيز.
الرسم والمتابعة
*البعض يشكو من اختلاف طبعات المصاحف بما يجعل المراجعة والتسميع أمرًا عسيرًا؟.
- هذه حقيقة يعرفها كل حافظ لكتاب الله عز وجل، ومن هنا فنحن ننصح الحفاظ من
أبنائنا، أن يتخذ كل منهم لنفسه مصحفا خاصا، لا يغيره مطلقا، وذلك لأن الإنسان
يحفظ بالنظر، كما يحفظ بالسمع، وذلك لأن صور الآيات ومواضعها في المصحف، تنطبع
في الذهن من كثرة القراءة والتسميع والنظر، فإن تغيير الحافظ ـ لا سيما الطفل ـ
مصحفه الذي يحفظ منه، أو الحفظ من المصاحف في طبعات مختلفة، يبدد تركيزه.
*وماذا عن مشكلة النسيان؟.
- يختلف القرآن في حفظه عن أي محفوظ آخر من الشعر أو النثر أو العلوم؛ وذلك لأن
القرآن من خصائصه أنه سريع التفلت؛ ليظل عزيزًا مطلوبًا أبدًا. يقول النبي (ص):
"والذي نفسي بيده لهو أشد تفلتًا من الإبل في عقلها".
ومن ثم فلا بد من المتابعة الدائمة (إنما مَثل صاحب القرآن، كمثل الإبل المعقلة،
إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت).
إلى ما سبق يجب عدم التسرع في الحفظ، فالأناة طريق الرواة.
وخير معين على ذلك أن يقوم الحافظ بتكرار مقرره اليومي من المحفوظ في كل صلاة.
وقفة مع كل سورة
*وهل من طريق للاحتراز للمتشابهات من المعاني والآيات؟.
- القرآن فيه نحو ستة آلاف آية ونيف، منها ما يقرب من ألفي آية فيها تشابه بوجه
ما، قد يصل أحيانا إلى حد التطابق الكامل، أو الاختلاف في حرف واحد، أو كلمة
واحدة.
لذلك، فإنه يجب أن يعين كل حافظ لنفسه، بأن يقف وقفة خاصة مع كل سورة على حده،
يربط أولها بآخرها، ويركز على المتشابه من آياتها وألفاظها، مع العناية الشديدة
بالوقوف على المتشابه من السور الأخرى، وأن يستعين على ذلك بالكتب التي تحفل بها
المكتبة الإسلامية في المحكم والمتشابه من كتاب الله عز وجل.
تفتيح مسام المعرفة
*يرى البعض أن هذا العكوف الشديد على حفظ القرآن، يقتل في الأطفال عالم البراءة
ويقيد عالم الانطلاق؟.
- العكس هو الصواب تمامًا، فما أن يتوافر لدى الطفل قدر من المحفوظ الجيد، إلا
ويستقيم لسانه، وينشط ذهنه، وتزداد
ثقته بنفسه، وتنمو قدراته وتنطلق ملكاته، لاستيعاب الفنون والعلوم الأخرى.
فحفظ القرآن لدى الأطفال، بمثابة الفتح الرباني لكل المسام المعرفية والحيوية
لديهم، فضلاً عن طاعة الله عز وجل.
| |