تأملات في سورة الكوثر
السيد محمود الموسوي
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِنَّا
أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ،
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ } [ الكوثر: 1-3 ].
سبب نزول السورة: نزلت عندما وصف العاص بن وائل الرسولَ ( صلى
الله عليه وآله وسلم) بالأبتر، بعد ما مات ابنه القاسم ثم عبد الله .
معاني الكلمات: (الكوثر): الخير الكثير/ (وانحر): وارفع يديك إلى منحرك حال التكبير في الصلاة/ (شانئك): مبغضك/ (الأبتر):
المنقطع النسل .
1- عطاء غير مجذوذ :
كل عملية عطاء لا بد أن تتوافر فيها العناصر الثلاثة التالية: المعطي والمعطى إليه والعطية، فإذا نقص عنصر واحد منها فلن
تكون عملية عطاء حقيقية، بل ستكون عملية تمثيلية أو
تضليلية، وقد أعطى الله تعالى رسولنا الكريم الكوثر
(التي من ضمن معانيها الأساسية ذرية الرسول ونسله (ص)، فهذه عملية إعطاء حقيقة نجدها جليّة ومتحققة عندما رُزق الرسول (ص) بفاطمة (ع)
لتنحدر منها الذرية الطاهرة. وفي التعبير القرآني
(إنّا) تشير للمعطي وهو الله تعالى، والكاف في ( أعطيناك) تشير للمعطى
إليه وهو الرسول (ص)، و(الكوثر) تشير للعطية .
ولكن هذه العملية ليست كالعطاءات الأخرى بل هي (عطاء غير مجذوذ) وغير منقطع، إن الله تعالى أعطى مثل هذا العطاء في الآخرة
للمؤمنين، ولكنّه عزّ وجلّ لم يعطه لأحد في الدنيا، إلا
رسولنا الكريم وأهل بيته (ع) في هذه السورة، ونستشف ذلك من
صيغة (الكوثر) التي تدّل على الخير الذي من شأنه الكثرة والاستمرار، وأيضاً من خلال مقابلة السورة الشريفة هذه النعمة، بتعبير (الأبتر) وهو
المنقطع عقبه ونسله، وها نحن نرى الآن أن ذرية
الرسول (ص) هي الذرية التي لم تنقطع، بل هي الذرية التي
تزداد يوماً بعد يوم، حتى أصبحت أكبر ذرية على وجه الأرض. (فقد بلغت حسب بعض التقديرات أكثر من عشرين مليون نسمة ).
وهنالك ميزة أخرى لهذا العطاء الإلهي، فهو ليس عطاء يختصّ بشخص الرسول (ص) بل يتعداه إلى أهل بيته وإلى المؤمنين كافّة، فالنجم
عندما يعطيه الله النور والزينة، فهو عطاء لنا أيضاً
لأننا نجني من هذا العطاء الهداية، قال تعالى : { وَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } [ النحل: 16]، والرسول
الكريم (ص) نور، وعطاء النور نوراً لا ينقطع إنما هو لهدايتنا إلى
يوم القيامة بلا انقطاع .
هذه المعادلة قد ألّفت بعناصرها المتميّزة (نعمة إلهية ) دائمة،
فما هو واجبنا اتجاه النعم؟
2- زينة الشكر :
كل نعمة إلهية تحتاج إلى الشكر لكي نقدّرها ونحفظها من الزوال، فقد جاء الشكر في آيات اذكر الحكيم مقارناً للنعم، قال تعالى : { وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ } [ النحل: 114]، وأمّا
طريقة
الشكر فمما يستفاد من الروايات أنها طريقتان :
الأولى : الشكر بالمعرفة، وهو أن تعرف أن هذه النعمة من الله تعالى وهو الذي منّ بها عليك وليس من
سواه، ففي الحديث: أوحى الله إلى داود (ع): يا داود
اشكرني. قال: كيف أشكرك والشكر من نعمتك، تستحق عليه
شكراً. قال الله جلّ جلاله: يا داود رضيت بهذا الاعتراف منك شكراً .
وقد تحققت هذه الطريقة في الشكر من خلال الآية الأولى، في قوله :
{ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ } ، لمعرفة أن النعمة من عنده تعالى .
وأمّا الطريقة الثانية في الشكر فهي بأداء الشكر، إما بقول (شكراً لله)
أو بسجدتي الشكر، أو بصلاة الشكر، وما شابه ذلك، والصلاة
هي تجميعاً لكل تلك الأدوات، فلذلك جاءت الآية { فَصَلِّ لِرَبِّكَ } تعبيراً
عن الشكر الأمثل، وفي قوله تعالى : { وَانْحَرْ } وهو رفع اليدين إلى المنحر في حال التكبير في الصلاة، زينة للشكر وإضفاء ذوق جمالي عليه، وتتميمه بأدب
رفيع، فالشكر إذا كان مبتوراً وجافّا من أي لياقة وأدب
فقد لا يؤدّي رسالته ولا يحقق هدفه، فالنحر في صلاة
الشكر هي ذلك الجانب المهمّ، وهي زينة الشكر، لأن رفع اليدين حال التكبر زينة الصلاة، ففي الحديث: "لكل شيء زينة وزينة الصلاة رفع
اليدين إلى المنحر حال التكبير ".
3- لا يجرمنّكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا
الحكم الموضوعي الذي يتوخى الصواب في مجمل القضايا الحياتية، لابد أن يبتعد عن الرواسب النفسية والأحقاد التي يكنّها إلى
أحد طرفي القضية التي سيصدر الحكم فيها، لكي لا
يحمله ذلك على التحامل وبالتالي الوصول إلى النتيجة
الخاطئة، ففي قوله تعالى : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ } ،
بيان للسبب الذي دعى العاص بن وائل لوصف الرسول (ص) بهذه الصفة، فالشانئ
هو المبغض، وقد قال تعالى في سورة المائدة : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى }
. وهذا الذي يتجرأ على رسول الله (ص) بهذه الصورة لهو ( الأبتر)
المنقطع عنه كل خير، جزاء لما اقترفت يداه .
بصائر للحياة
1- إن ذرية رسول الله (ص) تدخل ضمن دائرة الخير والنعم الإلهية المتميزة، فلابد أن نحترمها ونوقرها، وعندما نقوم بهذا العمل
فإننا نقوم باحترام الرسول لأننا نحفظه (ص) في ولده .
2-
علينا أن نهتمّ بشكرنا لله تعالى وشكرنا للآخرين، ليكون شكراً ناجحاً فليكن شكرنا جميلاً ومؤدّباً، تقديراً للنعمة والمنعم .
3-
الترسبات النفسية والأحقاد من العوامل التي تؤدّي إلى الخطأ في الأفكار وفي الحكم، فعلينا أن نتجرّد منها في عملية التفكير وفي
لحكم على أي شيء .
| |