الأساس النظري لفهم القرآن الكريم"(1)
" نظرية الوحي: أبعادها وكيفياتها "
مقدمة تمهيدية
لماذا نبحث موضوع الوحي..وهل ثمة رابط بينه
وبين بحثنا المتعلق بالأساس النظري لفهم القرآن؟
إن العديد من الكتب القرآنية التي اهتمت بالبحث
في موضوع علوم القرآن، حين طرقت موضوع الوحي لم توجد الرابط بينه وبين بحث الكتاب الكلي ،كما أنها لم تشر إلى الفائدة المرجوة من بحثه..وإنما
أتت به كموضوع مستقل، وربما يعود السبب إلى تصور
الكاتب بأن الرابط راكز في ذهن القارئ ، أو لشيء آخر ..
ونحن حين بحثنا هذا الموضوع رأينا من الضرورة
الإشارة ولو بصورة موجزة إلى العلة من بحث هذا الموضوع، وماهي الفوائد التي يمكن أن نجنيها من بحثه..وكانت من بينها :
1- لأن القرآن هو المصداق الأجلى من مصاديق الوحي … ولهذا فإن جميع ما سندرسه في القرآن هو في الحقيقة
دراسة للوحي أو لمفردة من مفرداته .. كما إننا حين نلجأ
إلى إثبات الوحي فإن ذلك بالتبع يعني إثبات القرآن الكريم .
ثم إن دراسة موضوع الوحي سترشدنا إلى معرفة
الطرق التفصيلية لنزول القرآن الكريم ووصوله إلى الرسول محمد عليه السلام..وكل ذلك مهم لأنه يقع في طريق التعامل الصحيح مع القرآن الكريم .
وقد أشارت عديد من الآيات القرآنية إلى هذه
الحقيقة رغم بديهيتها ، حيث جاء في سورة يوسف قوله تعالى ( نحن نقص عليك أحسن القصص
بما أوحينا إليك هذا القرآن ) .
و في صورة الشورى قال جل شأنه : ( وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها )
.
فلأن القرآن الكريم مفردة من مفردات الوحي
لا بد من بحثه بصورة مفصلة، (ولا يخفى أن هذه الإشكالية تتعلق بمن يؤمن بأصل الوحي,لكنه يشكك في كون القرآن وحياً،كالمستشرقين المتدينين ).
2_ لتحديد الطريقة السليمة للتعامل مع القرآن الكريم ،حيث أن تشخيصنا للموقف الصحيح من الوحي له أثر في
طريقة تعاملنا مع القرآن وفي كيفية عودتنا له ... ولهذا
فإن من سعى لتهميش القرآن كان سبيله إلى ذلك تقزيم
الوحي والتقليل من فاعليته في إدارة الحياة .
فقد كان هناك تيار منذ العصر الأول لتكوّن المجتمع
الإسلامي يدعو إلى تسويد العقل والتمرد على المتمسكين بالنقل وهو الوحي في اصطلاحنا ، وقد أشار الجابري إلى مهمة هذا التيار قائلاً :- (
بما أنه لم يكن من الممكن قط رفض الدين بكيفية جذرية
نظراً لتوازن القوى بين التيارين ، خصوصاً والمجتمع
الجديد تم توحيده وبناؤه بفضل الدين وعلى أساسه،فإن الحل الوحيد الذي كانت تقبل به الظروف والمعطيات النوعية الخاصة بالمجتمع الإسلامي آنذاك هو
تأويله_أي الدين _بالشكل الذي يخدم التقدم ويحقق
سيطرة العقل )
.
وبناءً على ذلك صاغ الفارابي أطروحته فيما
يتعلق بالمدينة الفاضلة وهي مشروع الدولة التي يؤمن بها ،حيث سعى الفارابي _كما يقول الجابري _إلى:"إعطاء هذه الدولة إيديولوجيتها
بشكل يساوي التطور الفكري و الاجتماعي ، ويفسح المجال لبناء
دولة العقل حتى لو تطلب ذلك إدخال تعديلات أساسيه
علىالشريعة الإسلامية، وهذا شئ مشروع من وجهة نظر الدين نفسه ، فلقد غير عيسى شريعة موسى ، وصحح محمد (ص) ما تبقى من شريعة عيسى.وبما أن النبوة
قد انتهت وختمت فإن مهمة التعديل والتغيير أصبحت
موكلة إلى الرؤساء الثواني من بعد النبي . ولا يمكن أن يقدم هؤلاء
الرؤساء بهذه المهمة بالشكل الذي يتطلبه العصر ويساير تطلعات القوى
الصاعدة النامية إلا إذا كانوا فلاسفة أو كان بينهم فيلسوف، فهو وحده الذي يستطيع أن يبني دولة بعد أن ضاقت دولة الدين بنفسها بفعل تطوراتها
الداخلية فكرياً وسياسياً واجتماعياً ) .
ولهذا فإن بعض دعاة هذا الرأي يعتقدون بأن
الفيلسوف هو أشبه شيء بالنبي حيث انه يلهم الأفكار والتصورات من جراء الاستغراق في التفكير والتركيز على العمل العقلي ، الأمر الذي دفع
الكثير منهم إلى التنكر لبعض القضايا الدينية واستحداث
أمور تناقض الدين تماماً . فهو على سبيل المثال قاد
المعري لإنكار الجن والملائكة والبعث الجسماني رغم الإثبات الصريح لهذه الحقائق في القرآن ، وواصل الفارابي القول بأن النبوة حالة انسانية
تفرضها الظروف والتحولات البشرية وليست حالة إلهية، مع
أن القرآن الكريم صرح بخلاف ذلك تماماً حيث قال تعالى : ( وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين ) .
إن كل ذلك يعني تهميش –إن لم نقل تجاوز – الوحي
واقامة العقل بديلاً عنه،الأمر الذي ينعكس على القرآن ، إذ أن من يرى هذا الرأي لا يعد القرآن مصدراً أساسياً للفكر في مقابل العقل، فالعقل
هو الحاكم وأما القرآن فيمكن التعاطي معه من زاوية
التأويل فقط .
هذا ما دعى إلية بعض أنصار العقل في القديم و
حتى في العصور الحديثة، إلا أن ما ميز بعض الحداثيين في هذا العصر هو أنهم نظروا إلى القرآن على أنه ضرب من ضروب التراث و ادعوا نفي الثوابت
فيه حيث قالوا بأن لا ثابت في الأفكار وإنما كلها
متحولة، وعليه فالعقل هو المسؤول الأول عن إبداع الأفكار
والتي تتواءم والواقع المعاش .
أن دراستنا لموضوع الوحي وتحديد موقفنا منه
والتأكيد على فاعليته ، توجه تعاملنا مع القرآن الكريم وتحدد طريقة تعاطينا معه . ( وهذه الإشكالية تتعلق بمن يؤمن بالوحي ويؤمن أيضا بأن
القرآن وحي ، ولكنه يقلل من صلاحية الوحي وبالتالي
يقلل من سيطرة القرآن ) .
3 ـ إن الفهم الصحيح للقرآن مبتن على تحديد تصور دقيق لموضوع الوحي بعد الرسول الأكرم (r) .. ونعني بذلك ما يصدر من الأئمة(عليهم
السلام) من أقوال وأفعال وتقريرات، فهي معبرة عن الوحي والحقيقة الدينية القطيعة ، وبالتالي فإن التعامل مع القرآن من خلالهم سيمكننا
من فهمه بصورة صحيحة ، فالأئمة (ع) القادرون على إيضاح
القرآن للناس وتأويل آياته تأويلا قطعيا استنادا لعدة
أمور من بينها ما يصلهم من وحي عن طريق الرسول (ص) بل وحتى عن طريق الإلهام وسيتم بحث ذلك لاحقا حسب ما ثبت في الروايات الصحيحة الصادرة
عنهم (ع ).
فأقوال الأئمة (ع) وتأويلاتهم تجلٍ من تجليات
الوحي، ومن خلالهم يمكن فهم القرآن وتطبيق آياته على الواقع ،ولهذا فإننا نعتقد بأن ابتعاد المسلمين عن أهل البيت أوقعهم في مطب كبير خسروا
بسببه فهم القرآن ،لأن
أهل البيت (ع)هم تراجم الوحي حسبما أكد على ذلك الأمام الهادي(ع) في الزيارة الجامعة حين قال واصفا الأئمة (ع):(المطيعون لله القوامون بأمره …………
اصطفاكم بعلمه وارتضاكم لغيبه…… ورضيكم خلفاء في أرضه……
وخزنة لعلمه ومستودعا لحكمته وتراجمة لوحيه ) .
كما أنهم (ع)الراسخون في العلم الذين أكد
عليهم القرآن،فقد قال تعالى ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم …. ) .
فمن لديه القدرة الحقيقية على فهم القرآن وتأويله
وإيضاح غوامضه.بمستوى العلم القطعي هم الراسخون في العلم المتمثلون في أهل البيت (ع) استنادا إلى عديد من الروايات …من بينها ما ورد في
الكافي عن أبي عبدالله الصادق (ع): (نحن الراسخون في
العلم ونحن نعلم تأويله ) .
وما ورد عنه أيضا(ع): (والراسخون في العلم هم آل
محمد ) .
هذا هو شأن آل البيت (ع)فهم القرآن الناطق ،ولهذا
فإن أمير المؤمنين (ع) يشير للآخرين بالعجز ويثبت قدرته على إنطاق الآيات القرآنيه فقد قال (ع):(ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ولكن
أَُخِبركُم عنه
) .
بناء على ذلك لابد من بحث موضوع الوحي خاصة بعد
الرسول (ص)،لأن تحديد الموقف من الوحي بعده (ص) له أثر كبير في فهم القرآن الكريم . (وهذه الإشكالية تتعلق بمن يؤمن بالوحي وأن القرآن وحي
أيضا ويؤمن بضرورة الالتزام بكل مافيه، ولكن لا يلتزم
بأثر الوحي بعد الرسول (ص)المتمثل في أهل الببيت(ع ))
" تحرير لمفهوم الوحي "
قبل الاسترسال في البحث حول حقيقة الوحي
وكيفياتة وما يتعلق به من إثارات وتأويلات في الأوساط الدينية وغيرها، لابد من إيضاح المعاني اللغوية والاصطلاحية لهذه الكلمة (الوحي )، مع
التأكيد على المعنى الشرعي الذي سيلقي بظلاله على كل
البحث ..
التعريف اللغوي :
جاءت كلمة (الوحي ) في لسان العرب من فعل
(وحى) ، وهو أصل يعني الإعلام الخفي و يدل على إلقاء علم في الخفاء بطرق شتى سواء كانت إيماءة أو همسة أو كتابة في سر ..بل انه يشمل كل ما
ألقاه إنسان إلى غيره حتى علمه فهو وحي كيف كان ، على
رأي البعض
.
وقد قيده البعض بالسرعة فقال :- ( الوحي : إعلام سريع
خفي) ..وقال الراغب في كتاب المفردات :(أصل الوحي :الإشارة السريعة ، قيل أمر وحي أي سريع ) .
ودعم هذا الرأي محمد هادي معرفة في كتاب (التمهيد
في علوم القرآن) حيث قال :-(ولعل الخفاء في مفهوم الوحي جاء من قبل اعتبار السرعة فيه،فالإيماءة السريعة تخفى –طبعاً-على غير المومى إليه
. يقال :موت وحي أي سريع .ومنه (الوحا الوحا )أي
البدار البدار ،يقال ذلك عند الاستعجال.ومنه الحديث :-( إن
كانت خيراً فتوحه ) أي أسرع إليه ..) .
بينما اكتفى البعض بالتأكيد على عامل الخفاء
وأهمل قيد السرعة.. وذلك ما جاء منقولاً عن أبي اسحق قوله:-(أصل الوحي في اللغة كلها:إعلام في خفاء )
وما جاء أيضاً في لسان العرب لابن منظور قال:قال
أبن بري:(وحى إليه و أوحى :كلّمه بكلام يخفيه من غيره )
وأيد ذلك ابن فارس في قوله:-(و،ح،ي،أصل
يدل على إلقاء علم في إخفاء أو غيره..) . والشيخ الطوسي في مجمع البيان حين قال في تفسير قوله تعالى:(بأن ربك أوحى لها):(يقال أوحى له
وإليه أي ألقى إليه من جهة تخفى ) .
و غير هذا فقد أدعى البعض عدم قيديّة الخفاء
في تفسير معنى الوحي..ومن ذلك ما جاء في تعريف ابن فارس حيث قال:(و،ح،ي،أصل يدل على إلقاء علم في الخفاء أو غيره،و الوحي
:الإشارة،و الوحي:الكتابة والرسالة،وكل ما ألقيته
إلى غيرك حتى علمه فهو وحي كيف كان ).
ولعل تجاوز بعض القيود الداخلة في تعريف الوحي
مرده إلى الفرق الناشئ بسبب الوضع اللغوي الأساسي و الاستعمالات التي يؤثر فيها عامل الزمان و المكان .. ولهذا فربما يكون أساس الوضع جاء
بالمعنى المطلق وهو إلقاء العلم في الخفاء وفي غيره،إلا
أنه في الاستعمال قيد تارة بالخفاء وتارة بالسرعة .
التعريفات الاصطلاحية :
ما يهمنا الإشارة إليه هنا هو ما يتصل بالوحي
الإلهي وليس مطلق الوحي كوحي الإنسان إلى غيره..والوحي الإلهي يشمل جانبي التكوين والتشريع،فكما يصدق الوحي في التشريع فإنه ينسحب أيضاً
إلى الطبائع التكوينية للمخلوقات على ما سيبين لاحقاً
..ولهذا جاء تقسيمنا للوحي،فقد نظرنا إليه من زاويتين
الأولى الوحي الإلهي المطلق بشتى طرقه ومعانيه، والثانية الوحي التشريعي الذي يتصل بالرسالات وإمتداداتها فقط .
وإنما قسمنا الوحي الإلهي إلى تكويني وتشريعي
للوقوف على رأس الإشكال عند من شذوا في تعريف الوحي وفي كيفية التعامل معه..إذ أن أحد أهم الأسباب التي أوقعتهم في الإشكال هي الخلط
بين الوحي التكويني والتشريعي،فاعتقد بعضهم بأن كل
خصوصيات التكويني تنطبق على التشريعي ولهذا أعطوا أنفسهم
حقاً لا يستحقونه في إبداع الأفكار وفي تجاوز الوحي .
ولتقريب الصور نقول بأن النسبة بين الوحي الإلهي
والوحي التشريعي أحد أربع :
الأولى: (التساوي ) بأن يكون الوحي الإلهي بما فيه
التكويني هو ذاته التشريعي ..ولعل مبنى الفارابي مرده إلى هذا الأمر،حيث اعتبر إلهامه مساوٍ للوحي الواصل إلى الرسول (ع )…
ونحن نجزم بعدم التساوي،لأن أكبر دليل على
الإمكان هو الوقوع ،حيث إننا لم نلاحظ تمييزأ في الإلهي التكويني فقد حصل للحيوان والجماد والإنسان ،أما التشريعي فلم يحدث إلا لبعض الخواص من
البشر ..وهذا كاف في القول بعدم التساوي ،ولعل الفرز
بينهما في ألسنة العلماء مؤيد للمفارقة .
الثانية:(التباين) بأن يكون الإلهي غير التشريعي
تماماً ..وهذا باطل عند الجميع إذ أن الكل قال بالالتقاء بينهما ،إلا أنهم اختلفوا في كيفيته .
الثالث:العموم والخصوص من وجه،بأن يلتقيا
ويفترقا..ولعل مذهب أركون يستند في بعض مبادئه إلى هذه النسبة..ونحن نرفضها..وذلك لأنها تقول بأن التشريعي يمكن أن يستقل في بعض الأحيان
ويخرج عن دائرة الوحي الإلهي ،فيمكن أن يكون تشريع غير
إلهي،أي تشريع من وحي العقل المجرد .
.( الرابع :( العموم والخصوص مطلقاً)..فكل تشريعي إلهي ولكن ليس كل إلهي تشريعي ..
أي أن هناك خصوصيات للتشريعي_مع انه
ألهي_،وهناك مفارقات في الإلهي لا تنطبق ولا تنسحب إلى التشريعي .
وهذا ما نتبناه،ولذا ينبغي أن ننظر ونتأمل في
الخصوصيات التي لا تنطبق على التشريعي،حتى نميز التشريعي عن غيره ..
وهذا هو المبنى التأسيسي الأولي الذي نستند
إليه في تعريف الوحي وتحديد مفهومه .
1_ الوحي الإلهي :
( هو إفهام
الله
سبحانه وتعالى وإلهامه من يشاء من خلقه إرشاداته و أوامره
ونواهيه بصوره خفية )
ولهذا المعنى مصاديق عديدة من القرآن
الكريم،ننتخب منها مجموعة للاستشهاد والإيضاح فقط ..
أ-ما جاء على نحو البناء التكويني للمخلوقات..وذلك
بأن يودع الباري جل وعلا مجموعة من التعليمات والأوامر في مخلوقاته حتى لا يمكن لتلك المخلوقات أن تتحرك وتستجيب للحياة إلا باتباعها..ومن
ذلك ما جاء في قوله تعالى :
( وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون،ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل
ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه
شفاء للناس أن في ذلك لآية لقوم يتفكرون )
فكل المسيرة الحياتية لهذا الحيوان الصغير وهو
النحل وطبيعته التكوينية التي غرست فيه عبرت عنها الآيات بالوحي..وقد جاء هذا الوحي بصيغة الأمر رغم أنه طبيعة تكوينية لا يمكن للنحل الخروج
من
دائرتها،وذلك يفهم من قوله تعالى:(أن اتخذي ...)
ويشابه هذا الوحي ما جاء في آية أخرى من سورة
فصلت حيث قال تعالى:(فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها )
فكل الوظائف التي أودعها الله جل وعلا في
السماوات ونوعية الأدوار التي تؤديها أطلق عليها القرآن الكريم وحياً ..
وكذلك الأعمال التي تقوم بها الأرض يوم القيامة
حين تخبر بما عمل عليها بطلب من الله اعتبرها القرآن وحياً كما جاء في سورة الزلزلة حيث قال تعالى :-(يومئذٍ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها )
بناءً على ذلك فإن جميع الأمور التكوينية التي
ثبتها الباري جل شأنه في الكون سواء على صعيد الحيوانات أو حتى الجمادات كما هو شأن السماوات والأرض،جميعها عدها القرآن نوعاً من
أنواع الوحي الإلهي.(وهذا النوع جبري وليس اختيارياً ).
ب- ما جاء على نحو الإلهام الباطني .. وذلك بأن يوصل الله
سبحانه وتعالى بعض التوجيهات حتى تنقدح في عقل الإنسان فجأة ومن حيث لا يشعر،ويكون فيها تجاوز لمشكلة أو حل لموضوع عصيب أو إضاءة
لأفق من الآفاق للإنسان وما شابه..فهذه الحالة
يطلق عليها القرآن وحياً..كما بُيّن ذلك في عديد من الآيات .
{ وبهذه الصورة يمكن أن يُنقض على من يقول بالتفويض المطلق،وهو المبدأ الذي يقول بأن الله خلق الكون على
ضوء سنن ثم تركه..وذلك إذا كان قد تركه فكيف يُلهَم
الإنسان ويُفهّم بصورة مستمرة،لاشك أن الإلهام دليل
على أن الله سبحانه لم يترك الكون..إلخ .
كما يمكن أن ينقض على القائلين بأن الله لا يعلم
بالجزئيات،إذ التدخل الإلهي في أمور تفصيلية وجزئية عبر الإلهام دليل على إحاطته بها لا مجرد الكليات .}
فقد قال تعالى في قصة أم موسى :( وأوحينا إلى أم موسى أن
أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا
تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين )
وفي سورة طه قال تعالى : ( إذ أوحينا إلى أمك ما
يوحى،أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم
بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له ...)
فأم موسى هنا لم ينزل عليها وحي مباشر ،وانما
حين تأزمت عليها الحياة ألهمت طريقة يكون فيها تجاوز لأزمتها، وهذا الإلهام أتى بطريقة لا شعورية ولا مرئية،وكل ما في الأمر أن فكرة ما
انقدحت في ذهنها جراء الاستغراق في التفكير و
التأثر بالمشكلة..وهذا نوع من أنواع الوحي التي أشار إليها
القرآن الكريم
.
وقد أيد هذا المعنى في تفسير الآيتين في
سورتي القصص وطه كل من الطبرسي في مجمع البيان و الطباطبائي في الميزان ..
فقال الطبرسي في الأولى:(أي ألهمناها
وقذفنا في قلبها وليس عن وحي نبوة..عن قتاده وغيرة) ..وأم الطباطبائي فقال:(و المعنى:وقلنا بنوع من الإلهام لأم موسى لما وضعته أرضعيه …..)
وفي الآية الثانية قال الطبرسي :( أي ألهمناها ما يلهم)
..وأما الطباطبائي فقال :(المراد به الإلهام وهو نوع القذف في القلب في يقضة أو نوم )
مع أن هناك من قال بخلاف هذا الرأي،حيث قال
مقاتل:(أتاها جبرائيل بذلك ..وقال الجبائي:كان هذا الوحي رؤيا منام عبّر عنها من يثق به من علماء بني إسرائيل) .ألا أن هذه الآراء غير
مدعومة بنصوص واضحة .
ثم أن هذا الوحي ليس وحي نبوة كما أشار الطوسي
لذلك قائلاً:وليس عن وحي النبوة .. وكذلك الطباطبائي:(وأما وحي النبوة فالنساء لا يتنبأن ولا يوحى إليهن بذلك قال الله تعالى :( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من
أهل القرى
) .
ومن قبيله ما جاء في سورة المائدة حيث
قال تعالى :(وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي ) .
فالباري جل وعلا ألهم الحواريين إلهاماً كيما
يصدقوا بنبي الله عيسى (ع)..وتؤيد هذا الزعم الرواية التي أوردها العياشي في تفسيره عن محمد بن يوسف الصنعاني عن أبيه قال :سألت أبا
جعفر (ع)(إذ أوحيت إلى الحواريين)قال: الهموا .
وهذا النوع اختياري في الإستجابة ولكنه لاشعوري
في الإستقبال .
ج_ما جاء على سبيل الوحي الإلهي إلى ملائكته
لتدبير شؤون الكون.. حيث دلت الآيات القرآنية والروايات الصريحة على أن الله جل وعلا وكّل عددا ًمن الملائكة المكرمين ليدبروا شؤون هذا الكون
العظيم ويحسنوا إدارته … فقد ورد عن الإمام
الباقر (ع) في تفسير قوله تعالى :( له معقبات من بين يديه ومن خلفه
يحفظونه من أمر الله ) : بأمر الله من أن يقع في ركىّ ،أو يقع
عليه حائط ،أو يصيبه شيء حتى إذا جاء القدر خلّوا
بينه وبينه يدفعونه إلى المقادير ،وهما ملكان يحفظانه بالليل،وملكان يحفظانه بالنهار يتعاقبان ) .
فالمحافظة على الإنسان من الأخطار ومن ثم دفعه
إلى المقادير ليحل به ما يحل بغيره من بني البشر كالموت والمصاعب،هو مصداق من مصاديق التدبير لهذا الكون ..
وقد أشارت آيات أخرى إلى هذه الحقيقة بصورة
واضحة فقد قال تعالى:(ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون) ، وقوله تعالى شأنه :( وإن عليكم لحافظين ،كراما كاتبين
،يعلمون ما تفعلون ) .
وهذه الآيات ركزت على تدبير شؤون
الإنسان،بينما تجاوزت آيات أخرى هذه الدائرة إلى ما هو أوسع منها وهو تدبير شؤون الكون ،كما جاء في سورة النازعات قوله تعالى :(فالمدبرات أمرا
)..حيث أخرج ابن حاتم عن الإمام علي بن أبي طالب عليه
السلام أن ابن الكوّا سأله عن (المدبرات أمرا)قال:الملائكة
يدبرون ذكر الرحمن وأمره .
وهذه الأوامر الإلهية تشمل رعاية الإنسان أيضاً
وبهذا ورد عن أمير المؤمنين(ع) في الدر المنثور نقلاً عن سعيد بن منصور وابن المنذر فقد قال تعالى :(فالمدبرات أمرا )هي الملائكة تدبر
أمر العباد من السنة إلى السنة .
ونقل عن عبد الرحمن بن باسط :أن المراد بذلك
جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل عليهم السلام يدبرون أمور الدنيا ،فأما جبريل فموكل بالرياح
والجنود ،وأما ميكائيل فموكل بالقطر والنبات ،وأما ملك الموت فموكل
بقبض الأرواح،وأما إسرافيل فهو يتنزل بالأمر عليهم .
فالله جل وعلا وكّل الملائكة لتدبير شؤون
الكون لا لعجز فيه و إنما لغايات أرادها جل شأنه فسّرها الصادق عليه السلام في جوابه على سؤال زنديق 00فقد سأل الزنديق الإمام الصادق
قائلاً: ما علة الملائكة الموكلين بعباده يكتبون عليهم
ولهم والله عالم السر وأخص ؟
قال عليه السلام:(استعبدهم بذلك وجعلهم شهوداً
على خلقه ،ليكون العباد لملازمتهم إياهم أشد على طاعة الله مواظبة، أو عن معصيته أشد إنقباضاً ،وكم من عبد يهم بمعصيته فذكر مكانها فارعوى
وكف،فيقول ربي يراني وحفظتي عليّ بذلك تشهد،وأن
الله برأفته ولطفه أيضاً وكّلهم بعباده يذبّون عنهم مردة
الشياطين وهوام الأرض ،وآفات كثيرة من حيث لا يرون بإذن الله ،إلى أن يجئ أمر الله عز وجل ) .
إن ما نريده من ذكر هذه المقدمة التأكيد على أن
هذه الأوامر التي يقوم الملائكة بتنفيذها تصل إليهم عن طريق الوحي .. وذلك بالاستفادة من آية أخرى وليس من الآيات السابقة الذكر ..حيث أنها
أشارت
بأجمعها إلى أن الله سبحانه وتعالى يوجّه الأوامر إلى
الملائكة ولكنها لم تبين طريقة التوجيه ،بينما وردت
آية أخرى في سورة الأنفال بيّنت هذا الأمر ،فقد قال :( إذ يوحي ربك إلى
الملائكة إني معكم فثبتوا الذين آمنوا ….) .
فالله جل وعلا يوحي إلى الملائكة أمراً
ما ليقوموا بتنفيذه ،فتدبير شؤون الكون أمر إلهي أوحى به إلى الملائكة ..وهذا الأمر لا علاقة له بما يوحى إليهم من أمور التشريع المتعلق بالأنبياء والرسل .
فخلاصة الكلام في هذا القسم أن الله سبحانه
يدبّر شؤون الكون بما فيها الإنسان عبر ملائكته ..
ويمكن لنا من خلال هذا المبنى البسيط جداً
مناقشة النظرية الفلسفية التي تقول بأن الله سبحانه عالم بالجزيئات فقط.. إذ يمكن أن يجاب عليها نقضاً و حلاً كما هو التالي :
1- إما نقضاً فإن القول بأن الله سبحانه وتعالى عالم بالكليات يلزم منه العلم بالجزيئات،إذا أن الكليات
لا توجد إلا بعد العلم بأفرادها وجزيئاتها،فلولا
العلم بالجزيئات لما كان هناك معرفة بالكليات .
2 – وأما حلاً فيجاب أولاً بالرد على المقدمة،إذ أن ما يستند إليه أصحاب هذه النظرية هو أنهم يقولون أن
الله لا يهمه الجزيئات حتى يتوجه للعلم بها وإنما يهمه
الكليات ويجازي عليها..والرد على ذلك أن إرسال الله
الملائكة للتدبير في الجزيئات دليل على اهتمامه بها ولولا اهتمامه بها لما أرسل من يدبّرها .
وثانياً إنه سبحانه عالم بها وذلك لأنه حين
تدبيرهم كائن معهم،لقوله تعالى ( إني معكم فثبتوا ...).
2_ الوحي التشريعي :
( هو إبلاغ
الله
سبحانه وتعالى المعصومين من الأنبياء والأوصياء(ع) أحكام
الشريعة وسبل الهداية وألوان المعرفة بطرق خفية
غير معتادة للبشر غالباً ).
وينبغي التنبيه هنا إلى أن سبل الهداية وألوان
المعرفة يتعلقان بشؤون الرسالة السماوية،ولهذا أدخلا ضمن الوحي التشريعي ،وهو غير الإرشاد والإفهام المتعلق بسائر شؤون الحياة، إذ أن الثاني لا علاقة له
بإدارة الرسالة ولهذا فإنه يصنف ضمن الوحي الإلهي العام .
ولعل بعضاً من الاشتباه الذي حدث عند من ادعى
القدرة على التشريعي-الفارابي وغيره- إنما حصل بسبب الخلط بين هذين النوعين من الإفهام ،حين تصوروا بأن الإلهام العام يعطيهم الحق في
التشريع، بينما الذي يعطي الحق في ذلك إنما هو خصوص
الإرشاد والإفهام المتعلق بشؤون الرسالة والذي يصل عبر
الإبلاغ ،وليس مجرد الإفهام .
والوحي التشريعي هو الزاوية الثانية التي
نظرنا من خلالها لموضوع الوحي، فبعد أن أطنبنا في الحديث حول الوحي الإلهي الخاص بالبعد التكويني في الحياة، كان لابد من التفصيل أيضاً
فيما يتصل بالبعد التشريعي لأنه يعتبر المرمى
الأساسي الذي أردنا الوصول إليه في سياق بحثنا المتعلق بعلوم
القران الكريم .
أن الوحي التشريعي يختلف عن الوحي الإلهي من جهة
أن الثاني يرتبط بإدارة أمور الكون بمعناها الأعم وكيفية تسيير الحياة كما بينا سلفاً ،أما الثاني فإنه يختص بكيفية إدارة الرسالات
السماوية من خلال التعامل مع الأنبياء والرسل
والأوصياء إما بإيصال الأحكام والقوانين الشرعية إليهم أو
بدعمهم بالتوجيهات والإرشادات التي تحافظ على مستوى الهداية عندهم وتقيهم من الوقوع في المزا لق والأخطار،أو بإطلاعهم على مزيد من المعارف
والعلوم الغيبية والأحداث التاريخية التي لا يعلم حقيقتها
ألا الله سبحانه وتعالى .
فمن الأول المرتبط بأحكام الشريعة ما جاء صريحاً
وبكثرة في القرآن الكريم كقوله سبحانه ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل ) .
وقوله
( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين ) .
فهاتان الآيتان تضمنتا حكماً شرعياً ينص على
وجوب إقامة الصلاة في أوقات محددة، وإيتاء الزكاة، مع أنهما لم تشيرا إلى كيفياتها التفصيلية .
وفي سورة الأنفال يقول الحق جل شأنه ( واعلموا
أنما غنمتم من شيء فإن لله خُمسه وللرسول ولذي القربى
واليتامى والمساكين وأبن السبيل ) .. كما قال سبحانه في سورة التوبة ( انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم
وأنفسكم في سبيل لله ) .
وهما أيضاً تبينان حكماً شرعياً بوجوب الخمس
والجهاد في سبيل الله ..
وأما ما يتعلق بالإرشادات والأمور التوجيهية فإن
الآيات القرآنية تزخر بها كقوله تعالى ( فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ) .
وقوله سبحانه(ولقد أوحينا إلى موسى أن اسر بعبادي
فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً ) .
و قوله U لرسولنا الأكرم (r) ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) .
وما أشبه ذلك من الآيات القرآنية التي ترشد
الأنبياء والرسل حتى يتفادوا الأخطار ويحافظوا على سلامة مسيرتهم .
كما أن هناك أموراً يوحي بها الباري
لأنبيائه، إلا أنها لا تتصل بالأحكام والإرشادات وإنما هي ضرب من ضروب العلوم التي يريد الله أن يطلعهم عليها،ولهذا قال في كتابه المجيد في
سياق الحديث عن نبيه يعقوب(ع ) ( وإنه لذو علم لما علمناه ) .. وقال عن الخضر في سورة الكهف ( وعلمناه من لدنا علماً ) .. وقال عن يوسف (u) بعد أن فسر أحلام
رفيقيه في السجن
( ذلكما مما علمني ربي ) .
ويشابه ذلك أيضاً ما ورد في سورة البقرة في حديث
حول نبي الله داود (ع) حيث قال تعالى ( وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ) .. كما قال عن رسولنا
الأكرم (ص )
( علمه شديد القوى ) .
لهذا فان ما يوحيه الباري عز وجل للرسل
والأنبياء بعض المعارف والعلوم والتي قد تكون كشفاً لسر من أسرار الكون كما حدث لنبيه داوود(ع)حين علمه سبحانه وتعالى كيفية صناعة الدروع..وقد
أفصح القرآن الكريم عن ذلك في قوله تعالى :( وعلمناه صناعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل
أنتم شاكرون )
.
وقد تكون اطلاعاً على حقائق تاريخية يجهل
الناس تفاصيلها وخلفياتها،من قبيل ما حدث للرسول محمد(ص)حين أطلعه الله جل وعلا على حادثة أصحاب الكهف وقصة الخضر مع موسى (ع) وقصة ذي
القرنين .
كما وقد تكون تلك العلوم من قبيل الملكات
العلمية التي يستطيع بها الموحى إليه تفسير حدث أو ما أشبه، كالقدرة على تأويل الأحاديث التي علمها الله نبيه يوسف كما بينت ذلك الآيات
القرآنية في قوله تعالى :( وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك
من تأويل الأحاديث ) ،وفي
قوله أيضاً
:( وكذلك مكنّا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث ) .. ولهذا فإن نبي الله يوسف حين تقدم
بالشكر لله خص بالذكر هذه النعمة ،إذ قال تعالى على
لسانه :( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل
الأحاديث
) ،وذلك لا
يعني بالضرورة أن الله سبحانه لا يمانع في
كشف العلوم والحقائق إلى الأنبياء ، فعلى العكس تماماً إذ قد يخص الباري نفسه بمعرفة بعض الحقائق ولا يطلع أنبياءه عليها حتى لو توجهوا
بالسؤال إليه ،
كما حدث تماماً حين سأل رسولنا الأكرم (r) ربه عن الروح ،فقد قال
تعالى :( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا )
.
ولهذا فإن الله جل وعلا أمر نبيه و حبيبه محمد (ص)
بأن يطلب منه الزيادة في العلم ، وذلك في قوله تعالى :( فتعالى الله الملك الحق
ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب
زدني علماً )
.
إذاً فالوحي التشريعي هو ما يتصل بالرسالات السماوية
،وليس ما له علاقة بطريقة إدارة الكون الذي اصطلحنا عليه الوحي الإلهي ..فلكي تكون مسيرة الرسالة السماوية مسيرة سليمة متكاملة يقوم
الباري جل وعلا بإبلاغ أنبيائه ورسله الأحكام
والقوانين الشرعية،ودعمهم بالتوجيهات والإرشادات ،كما يزودهم بالعلوم والمعارف الضرورية..وكل ذلك
يتم على سبيل الوحي وهو تماماً ما نعنيه بالوحي
التشريعي..ولهذا النوع من الوحي صور عديدة سنتعرض لها بالتفصيل في السطور القادمة .
صور الوحي التشريعي
إن الكيفية التي رسمناها لصور الوحي التشريعي
جاءت التزاماً بالآية المباركة الواردة في سورة الشورى التي أوضح فيها الباري جل وعلا أقسام الوحي وطرقه،حيث قال تعالى :( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من
وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي
حكيم ) . ففي هذه الآية حصر الله سبحانه الوحي في طرق ثلاث ،فإما أن يكون عبر الوحي
المباشر، أو التكليم من وراء حجاب، أو عبر إرسال الملائكة فقط لا غير،و لهذا قال تعالى:(إلا وحياً)، فإلا تدل على أن الوحي محصور
ومقتصر في هذه الطرق الثلاث فقط :
الأول :"الوحي المباشر " :
وهو إيحاء الله سبحانه وتعالى إلى
الرسول بلا واسطة ملك ومن دون حجاب،فهو يتحقق بصورة مباشرة،حيث يوصل سبحانه ما يشاء من توجيهات وأحكام وما أشبه إلى عباده من الأنبياء
بطريق مباشر وبلا توسط أي شيء،ولهذا فإن هذه الطريقة هي
أقدس أنواع الوحي وأعلاه منزلة ..وهو يأتي على نوعين إما
عبر الأسماع المباشر أو عبر الرؤيا الصادقة وهو تماماً المقصود من قوله تعالى :( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا ).
أ _ الإسماع المباشر :
وهو يأتي أشبه بصلصلة الجرس كما عبرت عن
ذلك الروايات ،فبهذه الطريقة تصل الكلمة الإلهية ويسمعها النبي صوتا ويعيها معناً ..أي أن النبي في هذه الحالة يكون في حالة المتهيء
والمستعد لإستقبال الكلمة الإلهية المقدسة فتأتيه لا بواسطة
ملك أو من وراء حجاب وإنما على هيئة أصوات ومعانٍ وعبارات
تصل إلى روعه وفؤاده بحيث تتناسب مع طبيعته الإنسانية وتتوافق مع استعداده الذاتي..وهذا ما عبرت عنه الروايات بصلصلة الجرس .
وعادة ما تتسبب هذه الطريقة عند حصولها في
إحداث أثر شديد على رسول الله(ص)يلحظه كل الجالسين معه ،حيث تعتريه غشوه منهكة وتظهر عليه ملامح التعب فينكس رأسه
ويترّبد وجهه ويتصبب عرقاً،مما يوقع الحضور في حالة
من الصمت وتسطو عليهم هيبة رهيبة فينكسون رؤوسهم من عظمة هذا المشهد..وهذا ما أشار أليه الجليل جلت عظمته في قوله :( إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلا ) .
وفي هذا السياق سأل الحارث بن هشام الرسول
(ص)فقال:يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟فقال(ص):(أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشد علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحياناً يتمثل الملك
رجلاً فأعي ما يقول ) .
كما ورد عن عائشة أنها قالت:(أنه كان ليوحى إلى
الرسول (ص)وهو على راحلته فتضرب بجرانها ..قالت :ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وأن جبينه ليرفض عرقاً ) .
ولا تصيب رسول الله (r) هذه الحالة إلا في ساعات
الوحي المباشر ،لا كما توهم البعض من أنها تصيبه إذا نزل عليه جبريل، لأن الأخير إذا نزل على الرسول (ص)يجلس بين يديه كجلسة العبد بين يدي
سيده ..
فقد ورد عن الإمام الصادق (ع)قوله :( كان ذلك إذا جاءه الوحي
وليس بينه وبين الله ملك،فكانت تصيبه تلك السنة ويغشاه ما يغشاه لثقل الوحي عليه ،أما إذا أتاه جبريل بالوحي فكان يقول :هو ذا
جبريل أو قال لي جبريل ….) .
وفي ذلك قال الشيخ الصدوق (قدس سره):(أن النبي
(ص)كان يكون بين أصحابه فيغمى عليه وهو يتصابُّ عرقاً،فإذا أفاق قال : قال
الله كذا وكذا أو أمركم بكذا ونهاكم عن كذا.قال:وكان يزعم أكثر مخالفينا أن ذلك كان عند نزول جبريل،فسئل الإمام الصادق (ع)عن الغشية التي كانت
تأخذ
النبي(ص)أكانت عند هبوط جبريل؟فقال :لا.أن جبريل كان إذا
أتى النبي (ص)لم يدخل حتى يستأذنه ،وإذا دخل عليه
قعد بين يديه قعدة العبد ،وإنما ذاك عند مخاطبة الله إياه بغير ترجمان وواسطة ) .
فهذا من أنواع الوحي المباشر حيث يوصل الله إلى
أنبيائه الأحكام والإرشادات وكل ما يريد إبلاغهم إياه بطريقة مباشرة وبلا توسط من أحد، بحيث يكون النبي في حالة من اليقظة والوعي التام
ويلتفت إلى كل ما يصله وكأنه صلصلة جرس فيسمع الصوت
ويعي المعاني وعياً تاماً لا لبس فيه إطلاقاً .
ب _ الرؤيا الصادقة :
وهي صورة من صور الوحي المباشر ،
وعلامة من علامات النبوة ..ولذلك يمكن الاستدلال على نبوة يوسف قبل إلقائه في الجب بأنه كان يرى الرؤيا الصادقة ،حيث قال تعالى على لسانه
:(إني رأيت أحد عشر كوكباً….)وقد لا يكون لها ربط
بالرسالة ..وهي غير المنامات التي يراها سائر البشر،لأن
الرؤيا الصادقة تعتبر إخباراً وكشفاً تاماً عن واقع سيحدث وليس مجرد إشارة
.
وقد يحدث لرسول الله (r) مثل ذلك قبل
البعثة،وبذلك نفهم بأن الرسول(ص) نبّيء قبل سن الأربعين ..
فقد ذكر كل من البخاري ومسلم والطبري أن أول
مابُدئ به من الوحي للرسول كان الرؤيا الصادقة،فقد كان(ص) لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح،وهو عبارة عن تشعشع نوراني كان ينكشف
لروحه المقدسة ،تمهيداً
لإفاضة روح القدس عليه،ثم حبب إليه الخلا فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه …..)
.
وقال علي بن إبراهيم القمي (إن النبي لما أتى
له سبع وثلاثون سنة كان يرى في منامه كأن آتياً يأتيه فيقول: يا رسول الله، ومضت عليه برهة من الزمن وهو على ذلك يكتمه، وإذا هو في بعض
الأيام يرعى غنم لأبي طالب في شعب الجبال إذ رأى شخصاً
يقول له:يا رسول الله فقال:من أنت؟قال أنا جبريل أرسلني
الله إليك ليتخذك رسولاً …) .
وقال الباقر(ع)(وأما النبي فهو الذي يرى في
منامه نحو رؤيا إبراهيم(ع) ونحو ما كان رأى الرسول من أسباب النبوة قبل الوحي حتى أتاه جبريل من عند الله بالرسالة …) .
* وهنا ملاحظة مهمة ينبغي التوقف عندها وهي أن الرؤيا سبيل وحي ولكن ذلك الوحي لا يكون قرآناً، والسبب
في ذلك عدم الوقوع، وعدم الوقوع ليس من الضرورة أن
يكون علة لعدم الإمكان وكاشفاً عنه إذ قد تكون لذلك حكمة
وهي حتى لا يُشكّك في القرآن ويقال عنه مجرد منامات وتخيلات .
فالرؤيا الصادقة ليست قرآناً، نعم قد يكون بعضها
أسبابا لنزول القرآن كما في قول تعالى ( لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلنا المسجد الحرام إن شاء الله ..) ، حيث رأى الرسول ذلك عام
الحديبية وصدقت عام الفتح .
وكما في قوله تعالى :( وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة
للناس والشجرة الملعونة في القرآن ) ،حين رأى الرسول بني أمية على المنابر فساءه ذلك
فأوحى الله إليه
: إنما هي دنيا أعطوها … )كما أخرج أبن أبي حاتم وأبن
مردويه والبيهقي وابن عساكر عن سعيد بن المسيب .
* ولكن يمكن أن ينقض علينا في ذلك في خصوص سورة الكوثر .فقد روى أنس بن مالك قال :بينا رسول الله (ص)بين
أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ،ثم رفع رأسه متبسماً.فقلنا
:ما أضحكك يا رسول الله (ص)فقال :أنزلت عليَّ آنفاً
سورة فقرأ(الكوثر
) .
لكن يمكن أن يجاب على ذلك بأمور :
1_ أن السورة نزلت في مكة كما هو مشهور المفسرين،بل أدعى البعض أن هذه الشهرة تكاد تبلغ حد التواتر .
فلما مات إبراهيم بن الرسول ( ص)وقيل قاسم أخذت تعيّره
قريش بالأبتر،يقول أبن عباس (دخل رسول الله (ص)من باب الصفا وخرج من
باب المروة فاستقبله العاص بن وائل السهمي فرجع العاص إلى قريش فقالت له قريش :من استقبلك يا عمرو آنفاً ،فقال :ذلك الأبتر ،فأنزل الله سورة
الكوثر تسلية لنفس نبيه الزكية ).
ومن المعلوم أن أنس بن مالك عندما مات الرسول
(ص)لم يكن يبلغ سوى عشرين سنة ،إذ كان عند مقدمه المدينة طفلاً لم يتجاوز التسع وقيل ثمان سنوات كما في أسد الغابة لأبن الأثير ..
فكيف يعتمد على هذا الحديث وهو يخالف ما قد
يبلغ الإجماع
.
2_ أخرج مسلم والبيهقي هذه الرواية من غير عبارة (أُنزلت عليَّ )حيث قال:أغفى النبي (ص) إغفاءة ثم رفع
رأسه فقرأ
( الكوثر)ثم فسرها بنهر في الجنة )
قال البيهقي تعقيباً:وهذا اللفظ أولى ،حيث لا
يتنافى وما عليه أهل التفاسير والمغازي من نزول سورة الكوثر بمكة ) .
وبهذا يمكن الأخذ بأحد الإحتمالين أو التأويلين
اللذين ذكرهما الرافعي فقد قال:(إنهم فهموا من ذلك أن السورة نزلت في تلك الإغفاءة ،لكن الأشبه أنه خطر له في النوم سورة الكوثر المنزلة
عليه من قبل ذلك ،
فقرأها عليهم وفسرها . قال:وقد يحمل ذلك على الحالة التي كانت تعتريه عند نزول الوحي ،ويقال لها:برحاء الوحي وهي سبتة شبه النعاس كانت تعرضه من ثقل
الوحي ) .
الثاني :" الوحي من وراء حجاب " ..
والفرق بين هذا الطريق و الطريق الأول ، أن
الأول يأتي مباشراً ومن غير وسائط ، أما الثاني فمع أنه يأتي من الله U مباشرة إلا أنه بتوسط حجاب ، مع ملاحظة أن الواسطة هنا لا يوحي وإنما
يتم الوحي من ورائه ..
وذلك من قبيل تكليم موسى(ع) في الطور حيث قال
تعالى ( فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة
المباركة من الشجرة ).
وقال بعض أنه أيضاً من قبيل ما أوحي إلى
الأنبياء في مناماتهم،ولكن يمكن الإيراد على هذا القول بأن حالة النوم ليست حجاباً،وإنما يمكن ضم حالة النوم إلى الوحي المباشر .
وهنا ملاحظتان :
1-( من وراء حجاب)لا يعنى بالوراء هنا الخلف،وإنما بمعنى الخارج عن الشيء المحيط به-كما في الميزان-كما
في قوله تعالى(والله من ورائهم محيط)..وقد ورد في
بعض الروايات عن موسى(ع)أنه قال(لقد سمعت كلام ربي بجميع
جوارحي ولم أسمعه من جهة واحدة من جهاتي )
2- لم تبين الآية حقيقة ولا معنى الحجاب لكن الطبرسي قال (وهو أن يحجب ذلك الكلام عن جميع مخلوقاته إلا
من يريد أن يكلمه به لأن حجب ذلك عن جميع الخلق إلا
عن موسى(ع)... وقد يقال أنه حجب عنهم موضع الكلام الذي
أقام الكلام فيه فلم يكونوا يدرون من أين يسمعونه لأن الكلام عرض لا يقوم إلا في جسم ولا يجوز أن يكون أراد بقوله أن الله تعالى كان من
وراء حجاب يكلم عباده لأن الحجاب لا يجوز إلا على
الأجسام المحدودة ).
ويبدو لأول نظرة أن التصويرين الأولين لمعنى
الحجاب في كلام الطبرسي غير دقيقين لأن كل ما ورد فيهما مجرد احتمالات سريعة غير مدعمة بنص قرآني أو روائي، هذا إضافة إلى أن
التصوير الأول ينطبق على مطلق الوحي ولا يختص بما نحن
فيه، والتصوير الثاني ينطبق على الوحي المباشر بكل
أقسامه سواء كان من وراء حجاب أو الإسماع المباشر.. ويضاف في الإجابة على التصوير الأول أن الحجاب المشار إليه في الآية إنما هو من وراء
الموحى إليه وهو الرسول(ع)وليس غيره من سائر البشر .
وبالتالي فان غاية ما يقال أن الوحي إذا لم
يكن بتوسط الملك تارة يكون مباشرة وذلك (إذا لم يكن بينه –بين النبي-وبين الله أحد إذا تجلى الله له)كما في الرواية وهو مقصودنا من
الإسماع المباشر والرؤيا الصادقة وتارة من وراء
حجاب، ولا شك أن بينهما اختلافا لكنه غير واضح بدقة لمن
لم ير ذلك عياناً خاصة أن من كُلم بهاتين الطريقتين لم يفصح عن وجه التمييز بينهما .
ولكن هناك تصوير لناصر مكارم ذكره في عدة مواقع
،ربما يكون أقرب إلى الصواب ،ويمكن استفادة ما يدل عليه من بعض الروايات ..فهو بعد أن نقل عبارة الطبرسي التالية (ليس لأحد من البشر
أن يكلمه الله إلا أن يوحي إليه وحياً كداود الذي أوحى
في صدره الزبور ، أو يكلمه من وراء حجاب مثل موسى أو
يرسل رسولاً كجبريل إلى النبي (ص)ليبلغه أمره )،عقب قائلاً:(فهذا الإرتباط إنما يكون أحياناً عن طريق الإلقاء في القلب ،وأخرى عن طريق
الأمواج الصوتية التي يسمعها النبي من
الخارج،وثالثة عن طريق نزول الملك الموكل بالوحي ).ثم قال (جملة_من
وراء حجاب _تعني أن الله كان يخاطب نبيه بأمواج صوتية خاصة خافية على الآخرين ، أو أن نبيه كان يسمع الخطاب دون مشاهدة مصدره بالضبط،
كالكلام الذي يطرق السمع من وراء الستار )
ويمكن تأييد هذا بالكلام بعدة أمور :
1_ بما جاء في الروايات السابقة من أن الرسول (ص) كان إذا نزل عليه الوحي المباشر تصبب عرقاً…ثم يقول قال
الله، وبما جاء من أنه كصلصلة الجرس ،حيث لا يظهر من
قرائن الحال بأنه كان يُكلم تكليماً وإنما يُنقر في
سمعه،وهو الإيحاء المقصود في الآية .
2_ بما جاء في الآيات القرآنية حول موسى (u)
مثل قوله تعالى ( نودي من شاطئ الوادي
الأيمن …) ومثل قوله سبحانه ( وكلم الله موسى تكليما ).
فالمناداة بعبارة خاصة (يا موسى إني أنا
الله رب العالمين)وتأكيد التكليم كل ذلك يدل على صدور أصوات وليس مجرد نقر في السمع .
فالإسماع المباشر يعني إذاً النقر في
الإسماع(كصلصلة الجرس)ومن وراء حجاب يعني إيجاد الصوت..هذا غاية ما يمكن أن يقال .
الثالث:"الوحي عبر الملك "..
وقد كان جبرائيل(ع) يوصل الأحكام
والتعاليم والآيات المباركة إلى الرسول عبر ثلاث طرق :
أ-الرؤية المباشرة الذاتية ..
وذلك بأن يراه في صورته الأصلية التي
خلقه الله سبحانه وتعالى فيها، وقد حدثت هذه الطريقة مرتين، وذلك بدليل قوله تعالى(ولقد رءاه نزلة أحرى) أي مرة ثانية .
وقد أشار سبحانه إلى المرتين في سورة النجم
وذلك من قوله تعالى ( وما ينطق عن الهوى) إلى (ما زاغ البصر وما طغى ).
قال ابن مسعود (إن رسول الله لم يرى
جبرائيل في صورته إلا مرتين إحداهما أنه سأله أن يراه في صورته فسد الأفق ،وأما الثانية فحيث صعد به ليلة المعراج فذلك قوله (وهو بالأفق
الأعلى ) .
ولكن هذا التفصيل فيه نظر، والأصح أن المرتين
كانت أولاهما في بداية نزول الوحي، حين كان الرسول (r) في الغار بحراء حيث ظهر له جبرائيل في صورته التي خلقه الله سبحانه وتعالى عليها،
مالئاً أفق السماء من الشرق و الغرب فتهيبه النبي
تهيباً بالغاً، فنزل عليه جبرائيل في صورة الآدميين فضمه
إلى صدره فكان لا ينزل عليه بعد ذلك إلا في صورة بشر جميل .
والثانية كانت باستدعائه(ص)الذي جاءت به
الروايات " كان لا يزال يأتيه جبرائيل في صورة الآدميين.فسأله رسول الله(ص)أن يريه نفسه مرة أخرى على صورته التي خلقه الله عليها، فأراه
صورته فسد الأفق فقوله تعالى :( وهو بالأفق الأعلى ) كانت المرة الأولى
وقوله(نزلة أخرى)كانت المرة الثانية .
ب-الرؤية المباشرة التمثيلية ..
وذلك بأن يتمثل في صورة بشر جميل كما قال
الرسول(ص):(وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً،فيكلمني فأعي ما يقول)وقد جاء في المرويات التاريخية أنه يتمثل في صورة دحية بن خليفة الكلبي .
فقد ادعى البعض بأن جبرائيل يتمثل تماماً في صورة
دحية، لكن الأصح أنه يتمثل في صورة شبيهة بدحية لا خصوص دحية، وذلك تماماً كما جاء في الاستيعاب والاصابة حيث جاء في تعبير أبن شهاب(كان
رسول الله (ص )
يشبه دحية الكلبي بجبرائيل حينما يتصور بصورة بشر ) .
والسبب في ذلك أن جبرائيل كان من جهة يتمثل
بصورة بشر ومن جهة بصورة بشر جميل خلقه الله U على الفطرة الأولى وبما
أن
دحية كان أجمل من في المدينة، تصور الناس أنه دحية الكلبي
حقيقةً.. ومن ثم نهاهم الرسول(ص)أن يدخلوا عليه
إذا وجدوا دحية عنده فقد قال:(إذا رأيتم دحية الكلبي عندي فلا يدخلن عليّ أحد ) .
وقد أثبت الفريقان أن المسلمين كانوا يروا
جبرائيل متمثلاً في صورة دحية، فقد جاء في سيرة ابن هشام أنه في غزوة بني قريظة سنة خمسة من الهجرة شاهده الصحابة على بغلة بيضاء .
كما ذكر في بحار الأنوار أن الأمام علي(ع)شاهده
دفعات بمحضر النبي(ص)وتكلم معه والنبي(ص)راقد .
ج-السماع مباشرة من غير رؤية
..
وذلك إما بالإلقاء على مسامعه وهو
يصغي إليه وإما بالإلهام في قلبه فيعيه بقوة ..
والأول كما في قوله تعالى :( فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ).
والثاني كما في قوله سبحانه :( نزل به الروح الأمين على
قلبك ).
وكما قال (ص):(يا أيها الناس أنه قد نفث في روعي
روح القدس أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها ).
" تنبيهات عامة "
هناك عدة شبهات أثيرت حول فكرة الوحي :-
" الأولى": أن عملية الوحي مستحيلة الوقوع وذلك بسبب التباعد بين العالم العلوي والعالم السفلي، فالأول
متشعشع روحي لطيف، والثاني متكدر مادي كثيف، وحيث لا
واسطة بين الجانبين فلا يمكن أن تكون هناك علاقة واتصال
بينهما .
والإجابة على هذه الشبهة يأتي من خلال إثبات
ثلاث مقدمات :-
1- أن هذه النظرة مبنية على كون العالم مادياً مجرداً، وهي الرؤية التي شاعت في الوسط الغربي في بدايات
النهضة الحديثة عند التصادم مع الكنيسة ..
فقد ذكر محمد فريد وجدي في دائرة معارف القرن
العشرين (كان الغربيون إلى القرن السادس عشر كجميع الأمم المتدينة يقولون بالوحي وكانت كتبهم مشحونة بأخبار الأنبياء فلما جاء العلم
الجديد بشكوكه ومادياته ذهبت الفلسفة الغربية إلى أن
مسألة الوحي هي من بقايا الخرافات القديمة وتغالت حتى
أنكرت الخالق والروح معاً، وعللت ما ورد عن الوحي في الكتب القديمة بأنه إما اختلاف من المتنبئة أنفسهم لجذب الناس إليهم وتسخيرهم لمشيئتهم،
وإما هذيان مرضي يعتري بعض العصبيين فيخيل إليهم
أنهم يرون أشباحاً تكلمهم وهم لا يرون في الواقع شيئاً ) .
وبالتالي فإننا لو أثبتنا عكس ذلك وأن العالم
مادي روحي لما بقي لهذا الإشكال مجال .
2- إننا نثبت بأن العالم السفلي مزدوج ومتداخل بشكل دقيق،بل أساس تركيب الإنسان مادي روحي، إذ لا وجود
مادياً مستقلاً للإنسان الحقيقي التام الخلقة،
ولهذا إذا ما نزعت الروح يحدث نقص في إنسانية
الإنسان الحقيقية، وإن أمكن أن يطلق عليه بأنه إنسان
بالمعنى الأعم
.
نحن نعتقد-ولهذا فإن الإشكال لا يشملنا
وبالتالي فهو ساقط لا أقل بالنسبة لنظرتنا نحن للعالم –بأن وراء البعد المادي للإنسان بعد آخر باطن وهو الذي يؤهله للارتباط بالعالم
الروحاني، فهو من جهة مرتبط بالعالم العلوي ومن
جهة أخرى مرتبط بالعالم السفلي وهذا ما بينته الآيات 12-14 من سورة المؤمنون .
ففيما يتصل بالجانب المادي قال تعالى ( ولقد
خلقنا الإنسان من سلالة من طين… ثم كسونا العظام لحما …)
وفيما يتصل بالجانب الروحي قال سبحانه ( ثم
أنشأناه خلقاً أخر …)
وكما ورد في سورة السجدة آيه 7-9 حيث قال تعالى ( وبدأ
خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين،
ونفخ فيه من روحه )
وقال الصادق(ع)(إن الله خلق خلقاً وخلق روحاً ثم
أمر ملكاً فنفخ فيه …) .
فإذا ثبت لدينا بأن الإنسان خلق من بعدين مادي
وروحي،أي إذا أثبتنا بأن للإنسان بعداً روحياً، يرتفع الإشكال الذي يقول بامتناع الاتصال بين العالم العلوي والسفلي، إذ يمكن أن يتصل العالم
العلوي الروحي اللطيف بالإنسان من خلال الجنبة الروحية
اللطيفة التي لديه .
3_ لقد ثبت في الغرب الوجود الحقيقي للروح وتلازمها للإنسان وعدم إنفكاكها عنه .
وذلك بأنه عندما شاع الفكر المنكر لوجود الروح في
العالم الغربي ،أنعكس الأمر بعد حين،وهو تماماً ما ذكره محمد فريد وجدي في دائرة المعارف (فلما ظهرت آية الروح في أمريكا سنه 1846م وسرت
منها إلى أوروبا كلها وأثبت الناس بدليل محسوس
وجود عالم روحاني آهل بالعقول الكبيرة والأفكار
الثقافية تغير وجه النظر في المسائل الروحانية وحييت مسألة الوحي بعد أن كانت في عداد الأضاليل القديمة …)
بل وصلوا إلى نتيجة مؤداها أن الروح هي التي
كونت جسم الإنسان في الرحم وهي التي تحرك جميع عضلاته وأعضائه التي ليست تحت إرادته كالكبد والقلب والمعدة وغيرها، وهو إنما أصبح إنساناً
بتلك الروح لا بشخصيته العادية المادية .
ولهذا سعوا وبجهد كبير لتحليلها تحليلاً مادياً
فوصلوا أيضاً إلى نتائج غير مادية وأنه لا يمكن تحليل الروح .
فإذا ثبت لديهم الوجود الحقيقي الروح انتفى
أصل الإشكال وارتفع المانع من إمكانية الوحي .
" الثانية": بعد أن أثبت النافون لوجود الروح وجودها الحقيقي ،ترقّوا إلى إشكالية أخرى وهي تتعلق بكيفية
الوحي..أي أقروا مسألة الوحي ولكنهم فسروها تفسيراً
غامضاً وخاطئاً ،والسبب في ذلك أنهم حاولوا البحث
فيها على قاعدة العلم التجريبي لا على أساس الطريقة المقررة دينياً .
وكان خلاصة ما توصلوا إليه هو أن الوحي عبارة عن
إلهامات روحية تنبعث من داخل الوجود،أي الروح الواعية هي التي تعطينا تلكم الإلهامات الطيبة الفجائية في ظروف حرجة ،وهي التي تنفث في
روع
الأنبياء ما يعتبرونه وحياً من الله سبحانه وتعالى، وقد
تظهر نفس تلك الروح القابعة وراء أجسامهم متجسدة
خارجاً فيحسبونها من ملائكة الله هبطت عليهم من السماء ،وما هي إلا تجلٍ لشخصياتهم الباطنية ، فتعلمهم ما لم يكونوا يعلمونه من قبل
،وتهديهم إلى خير الطرق لهداية أنفسهم وترقية أمتهم
،وليس بنزول ملك من السماء ليلقي عليهم كلاماً من عند
الله سبحانه .
وقد كان دليلهم على ذلك :إن الله أجل وأعلى أن
يقابله بشر أو يتصل به مخلوق، وأن الملائكة مهما قيل في روحانيتهم وتجردهم عن المادة فلا يعقل أنهم يقابلون الله أو يستمعون إلى كلامه
،لأن هذا كله يقتضي تحيزاً في جانبه تعالى،ويستدعي عدم
التنزيه المطلق اللائق بشأنه، ولأن الملائكة مهما
ارتقوا فلا يكونوا أعلى من الروح الإنساني التي هي من الله نفسه فمثلهم ومثلها سواء .
ولكن الكلام يمكن مناقشته والإيراد عليه
بالملاحظات التالية :
1_ كيف أثبتت التجربة هذا التصور ،أي كيف تمت عملية الإثبات..؟.
إن ذلك مجرد إدعاء،فحتى لو قلنا بأن كلام غيرهم إدعاء فإن هذا
الكلام لا يتجاوز كونه إدعاء ..
2_ إن الروح لطيفة فكيف خضعت للتجربة العلمية؟ !.
3_ إن قولهم هذا يكشف أنهم مقتنعون بأصل التوجيه اللامادي وهو إثبات لبداية المشوار..إذ أنهم اقتنعوا من
كل ذلك بوجود عالم آخر وراء هذا العالم، مليئاً
بالعقول، ووجدوا من واقع الإنسان شخصية أخرى وراء شخصيته الظاهرة .
4_ أن الدليل الذي استندوا إليه في إثبات دعواهم غير تام بل هو مصادرة واضحة..فالوحي لا يقتضي التحيز كما
زعموا ولعل مرجع هذه الإشكال إلى أنهم قاسوا العالم
اللامادي بمقاييس تخص العالم المادي ولهذا قالوا بالتحيز .
ولذا فإن ما نعتقد من حقيقة للوحي لا يقتضي
التحيز، بل على العكس من ذلك تماماً، فإن نظرية الوحي التي طرحناها هي أبعد ما تكون عن ذلك ..
بل إننا نعتقد بأن ما طرحوه من أشكال هو بذاته
المحذور، لأن انقطاع التوجيه بين العالمين يقتضي العبث في الخلق وعدم القدرة والإهمال…إلخ .
5_ إن الذي دفعهم لهذا التحليل هو السعي لإيجاد حل لما وجدوه في كتب أهل الكتاب المحرفة مما يتناقض مع
العلم ..
ولو أنهم اطلعوا على القرآن ورأوا أنه كيف يتوافق مع العلم بل ينطق بالنظريات العلمية لتغيرت نظرتهم
تماماً .
| |