الأساس المعرفي والبناء الثقافي في آية الكرسي
الاهتمام
الخاص والوارد في لسان كثير من الروايات المأثورة عن النبي (ص) وعن الأئمة (ع) في تفضيل آية الكرسي, بل وجعلها مداراً ومصباً لأحكام
تشريعية كما هو الحال في بعض الصلوات المستحبة التي تقرأ
فيها هذه الآية بعد سورة الفاتحة, بإضافة بعض المندوبات
الشرعية الدائرة حول هذه الآية تحديداً .
إن دل هذا على شيء فإنما يدل على عظمة هذه الآية المباركة المسماة بآية الكرسي, ولذا ورد في فضلها: عن الإمام الصادق (ع) أن أبا
ذر سأل رسول الله (ص): أي آية أنزلها الله عليك أعظم؟
فقال: آية الكرسي .
ويكفي في فضلها ما ذكر من أن الإمام علياً (ع) لم يترك قراءتها في ليلة من ليالي عمره مذ سمع بفضلها من الرسول, وعلم أنها
أنزلت إليه من كنز تحت العرش وأنها لم تعط لنبي قبله
أبداً .
لاشك أن فضل هذه الآية ومنزلتها يعود إلى تلك المضامين التي حوتها وبالخصوص ما يتصل بالأساس العقائدي المتصل بمعرفة الله سبحانه
وتعالى. حيث تبدأ هذه الآية بذكر لفظ (الله) هذا
اللفظ الجامع لكل الصفات الإلهية, ولكن السؤال الذي يطرح نفسه
بإلحاح هنا هو: كيف يمكن فهم الصفات الإلهية الواردة في هذه الآية المباركة؟
في الواقع هنالك خطأ فادح يقع فيه الإنسان في تناوله للمعرفة الإلهية, وهذا الخطأ هو تركيب المقاييس البشرية في رفع الجهل
في هذا الموضوع أيضاً, فعلى سبيل المثال, تعني
الحياة عند الكائن الحي النمو والحركة والسير نحو
معدل طبيعي في هذه الحياة كما هو الحال عند الكائنات الحية من الإنسان والحيوان والنبات, لكن هذه الصفة بالنسبة إلى الله عز وجل لا تقاس
بأعراض النمو البشري من زيادة واتساع عند الكائن الحي,
فتوازى عند الخالق بذلك, بالطبع لا يمكن ذلك, لان صفة
الحياة بالنسبة إلى الخالق تعني علمه بكل شيء وقدرته على كل شيء كما يشير إلى ذلك المفسرون في تفسيرهم لهذه الآية, وكذلك القيوم, فقيام
البشر وقوفه ,
وقيمومة الرجل تعني الهيمنة على هذه المساحة الصغيرة من
العائلة والمكان, بينما قيمومة الله عز وجل تعني
أن كل شيء يجري في هذا الكون إنما يقع تحت إرادته ولطفه , فهو لا يغفل عن شيء أبداً , { لا تأخذه سنة ولا نوم }.. السنة هنا تعني الغفوة
والغفلة القليلة جداً, بينما النوم هو المستمر, والله عز وجل في
قيمومته على الحياة وعلى البشرية لا يغفو ولا يسهو أبداً, بل أن هذه القيمومة على نحو الاستمرار والدوام لا تنقطع أبداً, لاسيما وأن هذه
القيمومة مبنية على ملكية كاملة لهذه المخلوقات
والكائنات جميعها
{ له ما في السماوات وما
في الأرض }
. نعم يفتح الله سبحانه وتعالى باباً يسمى بباب الشفاعة, ومفهوم الشفاعة موكول إلى محله , لكن هذه الشفاعة خاصة
ومقيدة, وليست تعبيراً عن الواسطة التي يفهمها الناس
كما هو في أعرافهم اليوم حيث يقوم الإنسان مثلاً بالمعصية
ثم يسعى إلى تجاوز القانون طالباً الشفاعة. كلا وإنما الله سبحانه وتعالى يؤكد في آية الكرسي على أن الشفاعة منزلة راقية وسامية يمنحها
الله عز شأنه لأصحابها, وليس كما كان متداولاً عند المشركين
الذي يشير إليه الحق { وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم
شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى، إن
الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى } يبدو من هذه الآية
المباركة كما يفهمه بعض المفسرين أن المشركين أطلقوا تسمية الأنثى
على الملائكة لاعتقاد باطل منهم, ويرجع هذا الاعتقاد إلى أن الملائكة ( الأنثى)
حسب زعمهم يمكن لها بسبب طبيعتها البشرية أن تتشفع أو تتوسط إلى الله جلت عظمته, لكنه يشير بكلمة واحدة إلى فساد هذا المبنى والاعتقاد, لأن طالب
الشفاعة مطالب بأن يبني له واقعاً صالحاً حتى يمكن
له الترقي في طلب الشفاعة, خاصة وأن الأمور كلها
بيده بظواهرها وبواطنها كما يتوهم الإنسان { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع
كرسيه السماوات والأرض } .
ما هو الكرسي؟
اختلفت الأقوال في معنى (الكرسي
), فقول يقول بأن الكرسي شيء أوسع من السماوات
والأرض, وفي هذا ورد عن الإمام علي (ع) "إن السماوات والأرض وما فيها من مخلوق في جوف الكرسي", وقال أيضاً "الكرسي محيط بالسماوات
والأرض وما بينهما وما تحت الثرى"، وقد أشار
إمامنا الصادق بصراحة إلى ذلك حيث قال "ما السماوات والأرض عند الكرسي إلا كحلقة خاتم في فلاة, وما الكرسي عند العرش إلا كحلقة في
فلاة ".
ولهذه الأخبار استل بعض المفسرين أن الكرسي كناية عن نفوذ القدرة الإلهية على الكون, فأمره نافذ, لأنه قادر, والقدرة عين ذاته,
ولأنه عالم ,
والعلم عين ذاته, فهو قادر على كل شيء وعالم بكل شيء,
ولذا لايؤده حفظهما, بل ولا يتعب من هذا الحفظ, كما هو
حال البشر .
العقيدة والحرية
ننتقل تبعاً للسياق القرآني إلى الآية التي تتلو آية الكرسي { لا
إكراه في الدين }
إذ أنه لابد من الإشارة إلى أن آية الكرسي تكفلت بالكشف عن حقيقة ما يجري في هذا الكون, وذلك أنه تحت
هيمنة الخالق عز شأنه, وإذا انكشفت هذه الحقيقة أمام
العقل البشري, آنئذ بالذات يفتح له المجال للاختيار .
والاختيار هو الحرية وعدم الإكراه الذي يعتبر بذاته مفهوماً أساسياً من مفاهيم الإسلام, فهو الشعار الكبير الذي يشير إليه القرآن
الكريم في معرض هذه الآية عند الحديث عن الاعتقادات
القلبية وبالخصوص في الأديان, حيث نفهم ذلك من سبب
نزول آية
{ لا إكراه في الدين } حيث ينقل المفسرون في سبب نزول هذه الآية كما يذكرها الطبرسي في مجمع البيان
"أنه كان لرجل من المدينة اسمه الحصين ولدان يعملان في
التجارة , وقد استمعا إلى بعض التجار المسيحيين
الذين يأتون إلى المدينة للتجارة, فتأثرا منهم, ورحلا معهم بعد ذلك إلى بلاد الشام بعد أن أعلنا تنصرهما, فأراد الحصين أن يجبر ولديه على
الرجوع إلى الإسلام, وفي رواية أخرى أنهم ذهبوا إلى
الرسول (ص) يخبرونه بالأمر, فقال الحصين : يا رسول الله كيف أجيز
لنفسي أن أنظر إلى ولدي يدخلان النار دون أن أفعل شيئاً , فنزل القرآن الكريم مجيبا { لا
إكراه في الدين }
.
إن الله عز وجل يشير في هذا الجواب إلى أن العقائد والأديان لا تفرض بالقوة, وإنما يدعى إليها بالحوار والإقناع, لان هذا شأن من
شؤون
القلوب : { أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } .
ولكن وللأسف الشديد نلاحظ إن هناك تياراً يشيع في الأجواء العامة أن الإسلام انتشر بالسيف, وهذا يعني تناقضاً مع مبدأ الحرية
السالف الذكر ,
للإجابة على هذه الإشاعة المغلوطة, نقول إن الآية الكريمة
تؤكد خطأ هذه المزاعم , فالدين الذي لا يقبل بإجبار الأب أبناءه
على ديانة معينة, كيف يقبل بالسيف حتى يكون داعية إلى
الإسلام !!!
مضافاً إلى ذلك سيرة النبي (ص) التي لم تعرف الإكراه طريقاً للعقيدة, نعم هنا قد يزعم البعض أن الحروب التي قام بها الرسول يمكن أن
يراد منها إجبار الآخرين على الدخول قسراً إلى
الإسلام, لكن في الرد على ذلك نجيب كما أجاب الإمام السيد
محمد الشيرازي (قدس الله نفسه الزاكية) في كتابه (السبيل إلى إنهاض المسلمين) "إن حروب الرسول (ص) لم تكن اختيارية إلا عند الاضطرار,
وإنما كانت حروبه دفاعاً عن النفس أو
بعد أن ينقض الطرف المقابل اتفاقاً أو عهداً مكتوباً بينهما , وفي
سياق تحليله لمعركة بدر الكبرى أنها تمت بعد أن ضرب المشركون حصاراً اقتصادياً خانقاً على المدينة المنورة, وذلك بطلبهم من القبائل العربية المحيطة
حول المدينة عدم السماح لقوافل المسلمين بالمرور على
أراضيها ".
ولعله لأجل هذا السبب كان الرسول (ص) يتحرز في قتل الإنسان من الجيش المقابل ومن أصحابه, حتى أن السيد الشيرازي يؤكد على أن حصيلة
مجمل حروب النبي في ثمانين غزوة كانت عبارة عن
(1018) أو (1400) كأعلى معدل من قتلى المشركين , بينما كان الشهداء من
المسلمين (150) شهيداً تقريباً .
كل ذلك يدل على أن المسلمين ليسوا متعطشين للدماء كما يصور البعض, بل إنه دين السلام والمحبة والحفاظ على كرامة الإنسان, ولهذا
كان من دأب الرسول (ص) تقديم الوصايا إلى الجيوش
المقاتلة .
يقول الإمام الصادق (ع) كان رسول الله (ص) إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه, ثم يقول لهم: "سيروا باسم الله وفي
سبيل الله وعلى ملة رسول الله, لا تغلوا ولا تمثلوا ولا
تقتلوا شيخاً ولا صبياً ولا امرأة, ولا تقطعوا شجراً
إلا أن تضطروا إليها, وأيما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار حتى يسمع كلام الله, فإت اتبعكم فأخوكم في
الدين, وإن أبى فأبلغوه مأمنه واستعينوا بالله ".
ويقول الامام الصادق (ع) أيضاً: "لو أن قوماً حاصروا مدينة فسألوهم الأمان, فقالوا: "لا, فظنوا أنهم قالوا نعم, فنزلوا اليهم
كانوا آمنين ".
ولعل أكبر دليل على هذه الحرية الدينية... حرية الأقليات على عهد الرسول والأئمة والخلفاء أيضاً, لأن من حقوق الأقليات أن تعيش
ضمن
معتقداتها الدينية, والمسلمون في ذات الوقت لا يجبرونهم
على تغيير عقيدتهم, وإنما لهم الحق في أن يعيشوا
بقوانينهم وأحكامهم بشرط أن لا يتجاهروا بالفسق والعصيان , لان في ذلك مخالفة للنظام
العام, ولهذا ورد عن الإمام علي (ع) أنه قال: "ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم ".
ومن هنا ينقل ابن أبي جمهور الأحسائي صاحب كتاب (غوالىء اللئالىء) "أن رجلاً سب مجوسياً بحضرة الإمام الصادق فزبره الإمام
ونهاه, فقال الرجل: إنه تزوج بأمه, فقال له الإمام
(ع) أما علمت أن ذلك عندهم النكاح"، وبمعنى آخر مادام أن
ذلك عندهم الزواج الرسمي المعترف به عندهم, فإننا نرتب الآثار على ذلك من باب ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم .
الحرية والثقافة
كيف ينطلق الإنسان من الحرية إلى التمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها؟ يأتي الجواب مفصلاً على هذا التساؤل الهام في
الذهنية الإنسانية في الآية المباركة { فمن
يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } ، إذ كيف يمكن للإنسان أن يبني ثقافته الدينية , والحال
أن هذا الإنسان بعينه قد اختزن في عقله أفكاراً جاهزة وتصورات مسبقة, توصل إليها إما من الطبيعة أو من تجارب الحياة أو حتى من سنن الواقع
الاجتماعي المحيط به .
بيد أنه من الضرورة بمكان أن نتأمل في كيفية نشوء الثقافة على نحو الإجمال عند الإنسان .
بناء الثقافة العامة عند الإنسان يحتاج إلى عمليتين أساسيتين, الأولى هي الهدم والثانية البناء, أو النفي والإثبات, أو
السلب والإيجاب ,
والهدم هو عبارة عن هدم القناعات الباطلة والتخلص منها,
وأما البناء فهو زرع أساس جديد لشخصية جديدة,
والنتيجة تكون عبارة عن تشكل شخصية من نوع خاص ليست متأثرة بسلبيات الماضي .
ويمكن القول هنا إن إحدى العمليتين لوحدها كافية, وتغني عن العملية الأخرى, لكن من يتأمل بدقة يرى إن ذلك غير كاف, لأن الهدم الذي
هو عبارة عن هدم القناعات الباطلة لو تم لوحده, فان
ذلك يعني أن هذا الإنسان لا تبقى له كيانية خاصة, وبمعنى
آخر يصبح إنساناً متزلزلاً متذبذباً, لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء, ومن جهة أخرى -أيضاً- فان البناء لوحده ليس كافياً, لان أفكار الهدم سوف
تتكفل بإلغاء أفكار البناء .
القرآن الكريم بدوره أيضاً يؤكد على ذلك في الآية سالفة الذكر, ولعل هاتين العملتين متجلية في شهادة أن لا إله إلا الله, إذ أن
القسم الأول ينفي الالوهيات الباطلة بمختلف أنواعها,
وهذا يعني عملية الهدم, ثم إلا الله, هو إثبات الألوهية
وحصرها في الله سبحانه وتعالى, وهذا هو البناء .
وعلى ذلك قامت تعاليم الإسلام فهي تنفي ومن جهة أخرى تثبت , تنفي
صلاة مثل صلاة المشركين التي هي عبارة عن المكاء والتصدية والتصفيق والصفير , وتثبت
صلاة مخصوصة بكيفية خاصة لها سجودها وركوعها المتميز, وكذلك آية الكرسي وما يليها تشير صراحة إلى هاتين العمليتين, فبعد أن أشارت من باب المقدمة
إلى الأساس العقيدي ثم الحرية الدينية, تأتي الآن
متسلسلة لهاتين العمليتين, فتبدأ بالهدم { فمن يكفر بالطاغوت } وهنا
يتمثل جانب الهدم والسلب والنفي للطاغوت والطاغوت
هو عبارة عن صيغة مبالغة من الطغيان, والطغيان يعني تجاوز الحد أو الاعتداء, وأما في المصداق فيقول المفسرون: إنه الصنم أو الشيطان
أو الكهنة أو السحرة أو الفكرة المنحرفة, وعلى ذلك
يكون القاسم المشترك بين هذه المصاديق هو التعديات, ولأن
الشيطان حقيقة هو الذي يأمر الإنسان ويزين له التجاوز... جاء التعبير قوياً بل وعنيفاً في الآية وهو الكفر بهذه القيم الباطلة,
والكفر مرحلة أعلى من الرفض. وإذا تم ذلك أمكن الإنسان
أن يبدأ مرحلة الإيمان بالله عز وجل والتي تعني
الإيمان... وحينها يصل الإنسان إلى مرحلة الاستمساك بالعروة الوثقى التي لا تنفصم ولا تتزلزل أبداً .
| |